19-مايو-2020

يبدو أن الحب في تونس أعتى من الحجر الصحي وحظر التجول (رمزي العياري/ ألترا تونس)

 

"أروع ما في حبّنا أنّه ليس له عقل ولا منطق

أجمل ما في حبّنا أنه يمشي على الماء ولا يغرق" (نزار قبّاني )

 

"الحبّ" هو جوهر الفضاء القيمي الإنساني والنهر الخالد الذي يعبر تجاويف القلب نحو المطلق الإلهي". الحب كدح يومي وتجلّ من تجليّات الالتزام بالحياة ضدّ الفناء فهو وكما قدّمه الشعراء والفلاسفة "أرض يباب للتعشيق" يسرح فيها الإنسان قبل الطير للاغتذاء والبحث عن أحزمة من الزهر البرّي تشدّ وثاق عواطفه التواقة بجموح أخّاذ للآخر. الحبّ لعبة قديمة معمّرة منذ الأزل، لا يكفّ الإنسان عن لعبها رغم ما تسببه له من حرائق.

الحب لا يريد الكبح والمنع والقهر، بل هو يتحدى كل أنواع الفجائعية ويباكر للمعارك ويمنع سدول الهزائم، وأحيانًا ينتصر، وأحيانًا أخرى يحوّل الهزيمة الى شفيف من ريح يكنس المأساة إلى هفاهيف الشعر والكتابة المألومة التي تتوارثها البشرية وتحوّلها الى تعاويذ تصّاعد إلى أعالي الكون فيما يشبه المعازف وألوية البخور والعطور. قصص الحبّ مستمرة استمرار الحياة فهي " كالماء تجري لم نقف لها يومًا على وقفة قطّ"، تنهمر كاليقين فتشعّ كالمنارات في العواصف الهوجاء.

الحب في تونس يبدو أنه أعتى من فيروس كورونا المستجد وأعتى من الحجر الصحي وحظر التجول

الحب في تونس يبدو أنه أعتى من فيروس كورونا المستجد، وأعتى من الحجر الصحي وحظر التجول. لقد تحدى الحب كل شيء وبحث له عن مسارب وشقوق ليرى منها وجه الله ، فخرج كل حبيب يبحث عن حبيبه تأصيلًا لحبّه وتبيانًا للوفاء وتجذيرًا للعلاقة وبحثًا عن الجسد الغائب منذ أشهر ضمن مجموعة من الرمزيات القديمة، فلا قوانين الحجر تسري أمام الحب ولا الموانع الأخلاقية تعيق لقاءات العشّاق والأحبّة.

نعم إنهم عشّاق لم يرهبهم فيروس كورونا ولم يكفهم التواصل الافتراضي الذي وفرته لهم شبكة الانترنت بحرًا هادئًا يخفف لوعات البعاد، ولم يشبعهم التواصل عبر الهاتف، فقرروا كسر كلّ الحواجز والحواجر فاستنبطوا حيلًا طريفة من أجل نيل رشفات الحبّ الصافي الذي بدا لهم كماء الأبدية المعلّق على ذرى جبال الحياة يستحق المغامرة.

"ألترا تونس" استمع إلى بعض قصص الحب الشجاعة التي تحدّت كل الموانع من أجل ترتيب لقاءات خاطفة  طال انتظارها.

اقرأ/ي أيضًا: ناجيان من شبح كورونا يتحدثان لـ"ألترا تونس" عن تجربتهما

الحب في تونس أعتى من فيروس كورونا (صورة تقريبية/ getty)

توخى أسلوبًا بوليسيًا ليلتقي بحبيبته

"أمين" هو اسم مستعار لكاتب ومترجم شاب يعيش في العاصمة تونس، لكنّه يقضي الحجر الصحي بمنزل والديه بإحدى مدن الوطن القبلي منذ شهر مارس/ آذار الفارط.

يقول أمين لـ"ألترا تونس" إنه قضّى عدة أسابيع مشتغلًا على ترجمة رواية "النفق" لأرنستو ساباتو، كما رتّب مجموعته الشعرية التي سيدفع بها الى المطبعة لاحقًا، وتقدّم لشوط في بحث الدكتوراه الذي يعدّه حول الأدب الإنكليزي المقارن بإحدى الجامعات التونسية.

ويضيف أن علاقته بالبحر قد تجددت بعد أن تسبّب في قطعها العيش بالمدينة، لكنّه يؤكد أن ما ينقصه فعلًا هو لقاؤه بحبيبته التي تقيم بإحدى ضواحي العاصمة " ما نجمتش نستوعب البعد... أشهرة ما ريتهاش مني ليها... الكورونا عطّلت عاطفتي وكبحت حبّى وأحلامي.. نحن كنّا نتقابلو كل يوم نشربو قهوة في المدينة العربي ونحلموا مع بعضنا ونقرالها الشعر وترافقني للأماسي الثقافية... لكن كل شي حبس... وحتى الانترنت واللقاءات الافتراضية ما عادش تشفي غليلي... نحب نشوفها ونقابلها ونحضنها ونبوسها كيف العادة".

أمين (شاب تونسي) لـ"ألترا تونس": أزمة كورونا غذّت قصتي مع حبيبتي ومنحتها توهجًا جديدًا 

أمين، وحسب روايته، لمعت في ذهنه فكرة لقاء حبيبته، فخطط بأسلوب بوليسي لتنفيذ مهمته، فاستغل مرض والده المزمن "بالفدّة" ليتفق مع أحد الأطباء، وهو من أقربائه، بأن يسرّع بتمكينه من الوثيقة الطبية التي كان من المزمع الحصول عليها بعد الكورونا من أجل جلب جهاز تنفس اصطناعي من إحدى مصحات العاصمة لوالده، فكان له ذلك وتحصل على ترخيص محدود في الزمن من المصالح الأمنية يمكنه من المرور والعودة بعد قضاء هذا الشأن الصحي الطارئ.

يقول أمين " ما صدقتش روحي... هزيت معاي باقة ورد من جنينة دارنا وخديت الكار من نابل رمشة عين ونلقى روحي في باب عليوة... قصة عربي للمدينة وين أنا كاري نلقاها بحذا الأستوديو متاعي واقفة كبيت قصيد... لقد صعقت بتيار العشق... كانت تدرك لهفتي... ابتسمت كقرنفلة ولم تتحرك من ثباتها إلى حين احتضنتها، لقد كاد قلبها ينخلع من مكانه من فرط اللهفة المتكتمة".

أمين، الكاتب والشاعر الشاب، يرى أن أزمة كورونا غذّت قصته مع حبيبته ومنحتها توهجًا جديدًا وجعلته يغامر من أجل لقاء معها. كما وعد حبيته مدى الحياة بأن قصيدة يضمنها رحلته ومغامرته تمامًا كما كان يفعل الشاعر الجاهلي فيما قبل. أمّا بخصوص الترخيص الذي تحصل عليه فقد استظهر به لقاطع التذاكر في الذهاب والإياب فقط.

"سارة" و"كثير" اعتبرا أن عودتهما للدرس الخصوصي كانت بشكل من الأشكال مطيّة للقاء بعد البعاد الذي طال (صورة تقريبية/ getty)

عندما يتحول الدرس إلى فرصة للقاء العشاق والأحبة  

من جهته، روى "أحمد"، وهو اسم مستعار لأحد أساتذة الرياضيات الذي كان ينظم دروسًا خصوصية لتلامذة الباكالوريا، وكان يستقبلهم في فضاء خاص بمنزله ضمن مجموعات صغيرة، مطبقًا قاعدة التباعد الاجتماعي وفق قوله، تجربته لـ"ألترا تونس".

وأكد أنه يتفهم كل أشكال الضغط التي تنال من تلميذ الباكالوريا في ظرف مخصوص كالذي يعيشه هذه الأيام جراء أزمة كورونا مشددًا على أنه صديق لتلامذته حتى أنهم يقاسمونه قصصهم وحكاياهم الخاصة. كما اكتشف أن الدرس الخصوصي الذي يقدمه قد تحول إلى فرصة ذهبية لاستعادة قصص الحب التي تنشأ عادة بين التلاميذ طيلة السنة الدراسية وتنضج مع نهايتها وتتواصل خارج المؤسسات التربوية، فلكأنه تدرّب على الحياة العاطفية يمنحه إياهم الاختلاط داخل المدارس.

أحمد (أستاذ) لـ"ألترا تونس": هذه العلاقات المسروقة من قيود المجتمع بإمكانها أن تحدث توازنًا نفسيًا هامًا لدى تلميذ الباكالوريا

وأشار الأستاذ إلى أن هذه العلاقات المسروقة من قيود المجتمع بإمكانها أن تحدث توازنًا نفسيًا هامًا لدى تلميذ الباكالوريا وتكون عاملًا أساسيًا من عوامل فوزه في الامتحان. وقد سمح الأستاذ أحمد لـ"ألترا تونس" بزيارة الدرس لوقت وجيز، وبأسلوبه التواصلي الأنيق مكننا بكل عفوية أن تلتقي إحدى هذه القصص:

"سارّة " و"كثير" (أسماء مستعارة)، وهما تلميذان يسكنان نفس الحي ويدرسان بنفس المعهد ضمن اختصاص العلوم التجريبية. وقد أكّدا أنهما ومنذ انطلاق عطلة الكورونا لم يلتقيا أبدًا وقد ملاّ التواصل عبر فيسبوك لأنه في اعتقادهما لا يستطيع تعويض اللقاءات الإنسانية المباشرة.

واعتبرا أن عودتهما للدرس الخصوصي كانت بشكل من الأشكال مطيّة للقاء بعد البعاد الذي طال، إذ يقول " كثير "صحيح كنّا فرحانين خاطر باش نقابلو أستاذنا المحبوب وأصحاب القراية اللي عندنا أشهر ما شفناهومش... أما بصراحة فرحتنا كانت كبيرة وقت اللي تقابلت أنا وسارة..  والله حسيت كايني نراها لأول مرة.. وهاذاكا علاش ولينا نجيو قبل وقت الدرس باش نقعدو شوية مع بعضنا.. نتمشاو في النهج ونحكيو على أحلامنا المستقبلية... يمكن يشوفنا الناس ويتقلقوا منا وأحنا قراب لبعضنا وماناش خايفين من الكورونا... نحب نقللهم اللى أحنا نحبوا بعضنا برشا واللي يحب ما يخافش".

"سارّة" من جهتها كان الخجل يعلو محيّاها، لكنها تجرّأت على الحديث قائلة إن والدتها تعرف "كثير" وهي على بيّنة بعلاقتها به وقد شجعتها على خوض التجربة "ماما قالتلي ردّ بالك على روحك ويلزمك تعرف الحدود وين".

الحب المحجور يزداد أجيجه ولهيبه من فرط المنع (صورة تقريبية/ getty)

اقرأ/ي أيضًا: "رمضان الافتراضي" في تونس

"ومن الحب ما قتل"

"هند" (اسم مستعار) تشتغل بمخبر للعلوم الفلاحية بالضاحية الشمالية للعاصمة، وقد أوضحت لـ"ألترا تونس" أنها لم تلتق خطيبها منذ أكثر من شهر جراء الحجر الصحي وحظر التجول، إضافة إلى أن عائلتها محافظة جدًا ولا تسمح لها باللقاءات الجانبية مع خطيبها إلا تلك التي تجري بالمنزل العائلي، فاتفقت مع خطيبها على خطة تتمثل في إعلام العائلة بأن المخبر عاد للعمل ضمن الحجر الصحي الموجه وأنها ستعود بجدول أوقات جديد يسمح لها بالعمل ليومين في الأسبوع.

وبينت أن الخدعة انطلت على العائلة وأصبحت تلتقي بخطيبها متحدية بذلك كل تلك الموانع والعوائق. ولتأكيد إصرارها على المغامرة وتتحديها لكل شيء من أجل الفوز بلقاء حبيبها، رددت ضاحكة تلك القولة الشهيرة للأصمعي "ومن الحب ما قتل".

هند (شابة تونسية) لـ"ألترا تونس": اللقاء الأول بعد الحجر كان مترعًا بالشوق والحنين

وتضيف هند أن الحب المحجور يزداد أجيجه ولهيبه من فرط المنع، وهو ما حصل لقصتها مع حبيبها. وقد روت لـ"ألترا تونس" أن اللقاء الأول بعد الحجر كان مترعًا بالشوق والحنين، لكن هذا اللقاء توج بحادثة كادت تفضح خطتها إذ تقول "كنت عائدة لمنزل والدي بعد لقاء جميل وعندما اقتربت من دورية أمنية استوقفني أحد الأعوان وطلب مني ترخيص المرور حسب مقتضيات الحجر الصحي الموجه لكني تلعثمت ولم أدر ما أقول، وفي لحظة ما استجمعت شجاعتي وأوهمته بأني نسيت الترخيص في مقر العمل، نظر إلي عون الأمن من وراء نظارته الشمسية وصمت قليلًا وحدسأاني صادقة، فقال تلك القولة الشهيرة التي يقولها أعوان المرور في تونس "واصل" ". وتضيف أنها رغم ما حصل وما سيحصل ستواصل تحديها لأزمة كورنا وما حف بها وستواصل لقاء حبيبها كلفها ذلك ما كلّفها.

لقد تبين لنا بعد هذه الشهادات الحية أنّ الحجر الصحي وموانع الكورونا لم تمنع العشاق من اللقاءات المباشرة المختلسة والمسروقة، فالحياة من دون حب تبدو كئيبة وأقل احتمالًا من أن تعاش على نحو جمالي آسر، لكن هذا الحب وحسب ما أكده بن حزم الأندلسي في كتابه " طوق الحمامة في الالفة والألاّف"، ولكي لا تخبو ناره لا بد له من الوصل الشجاع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عائلة تروي تجربتها لـ"ألترا تونس": احتمينا بالصحراء هربًا من كورونا

الحريات الفردية في تونس بين الشعبوية السياسية والحجر الشامل