23-أكتوبر-2023
فلسطين المقاومة

من غزة سطرت المقاومة ملحمة تاريخية في 7 أكتوبر، هي المقاومة التي عرّت العالم الغربي وفضحت عوراته (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

يروي المفكر العربي عزمي بشارة، في شهادة له، وهو الذي كان رافضًا لمفاوضات كامب ديفيد الثانية، أنه تلقى اتصالًا من الزعيم الراحل ياسر عرفات عن طريق مدير مكتبه الطيب عبد الرحيم ليعلمه بفشلها. وحينما سأله بشارة عن السبب، رد أبو عمار بلهجته المصرية المعهودة "دي القدس يا حبيبي". هي القدس التي ستطلق، بعد ما يزيد عن عشرين عامًا ذات 7 أكتوبر، "طوفان الأقصى"، على يد المقاومة في غزة تمسكًا بحق الفلسطينيين في استرجاع أرضهم المسلوبة والدفاع عن حقوقهم. 

استنفذ مسار أوسلو القائم على مبدأ الأرض مقابل السلام سبيله وتبيّن، العام تلو الآخر، عدم قدرته على تأمين الضمانات الدنيا للحق الفلسطيني. ابتدأ المسار في سياق انحصار الحزام العربي الداعم للقضية بدءًا من كامب ديفيد، ولم يكن إلا وليد اجتهاد لقيادة منظمة التحرير بزعامة الراحل أبو عمار الذي دفع ثمن استبساله في الدفاع عن القضية حصارًا واغتيالًا. ظلّت موجة المقاومة متّقدة بالانتفاضة الثانية وحروب غزة وانتفاضة القدس أو كما يحلو للبعض تسميتها انتفاضة السكاكين وغيرها من موجات المواجهة في الضفة وغزة في مواجهة المحتلّ. 

استنفذ مسار أوسلو القائم على مبدأ الأرض مقابل السلام سبيله وتبيّن، العام تلو الآخر، عدم قدرته على تأمين الضمانات الدنيا للحق الفلسطيني

كان الاحتلال مراوغًا منذ بدايته، وهو لا يريد السلام بقدر ما يريد افتكاك المزيد من الأرض. تصاعدت موجات الاستيطان على مدى السنوات وقد بيّنت النوايا الحقيقية للطبقة السياسية الحاكمة للكيان، التي توغّل فيها اليمين الصهيوني الديني الذي أحرج العالم الغربي، صديق الكيان، وهو يقتل عملية السلام الملغومة. كان الفلسطينيون مطالبين دائمًا بإبداء تمسكهم بالسلام والكف عن المواجهة، فيما يُباح للمحتل أن يواصل جرائمه ويوغل في المظلمة التاريخية للشعب الفلسطيني.

 

 

خلال هذه الأيام، عاد الاهتمام بدراسة الفكر الصهيوني وتاريخ اليهودي. الأستاذ بالجامعة التونسية فوزي البدوي يعدّ مرجعًا أكاديميًا في هذا التخصّص. يتحّدث، في حوار له، عن عدم فهم العرب للتاريخ الديني لليهود كما ينبغي، ويؤسس أن موقفه الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني مبناه هو معرفته بغائية الصهاينة، ملاحظًا في هذا الجانب لمغالطة معرفية وهو أن "أبراهام" في التوراة، وبه سُميت اتفاقيات تطبيع بعض الأنظمة العربية مع الكيان: "اتفاقيات أبراهام"، ليس هو ذاته النبي إبراهيم في القرآن. في الواقع، هذه الإشارة تحيلنا لنقاش دائمًا حول ما يقع خوضه بشأن القضية الفلسطينية: هل هي قضية دينية أم قضية تحرّر وطني؟ هذا سؤال فخّ وإجابته، مهما كانت، غير مفيدة. 

لم يبقَ إلا خيار المقاومة المسلحة كضرورة حيوية ليرهب الاحتلال أولًا وليسلّط المجتمع الدولي عينه على مظلمة تسبّب فيها قرارًا وتواطُؤًا

انطلقت الصهيونية كفكر علماني لإنشاء وطن لليهود فتم زرع الكيان السرطاني في أرض فلسطين الذي يتحوّل، في مخاض داخلي، إلى دولة يهودية يقودها أشد المتزمّتين دينيًا. وأعتقد أن أفضل إجابة للسؤال السابق هو أن التعدّدية السياسية والأيديولوجية لفصائل الغرفة المشتركة في غزة هي خير جواب. ما يفيد أن نقاوم معًا على الميدان، ثم فلنتناقش على الطاولة عن توصيف القضية وحلولها الممكنة.

ينطلق داعمو التطبيع، في الأثناء، من فرضية مفادها أن الكيان الصهيوني يريد العيش بسلام في محيطه العربي، لكن الكيان مازال يريد ممارسة جرائمه في مقدمتها التهجير. الحديث عن سعي لتهجير الفلسطينيين في غزة إلى سيناء، بات حديثًا علنيًا الآن دون أي خجل: لا حق للفلسطينيين في الوجود في أرض فلسطين. 


صورة

أحد زعماء الائتلاف الحكومي في الكيان بتسلئيل سموريتش، وهو رئيس الحزب الديني الفاشي البيت اليهودي ومن غلاة تيار المستوطنين، يعتبر أن أول رئيس للكيان بن غوريون لم يكمل المهمّة الواجب إكمالها، وهي مهمّة تهجير الفلسطينيين من أرضهم. أصبحت الولايات المتحدة حرجة أحيانًا من سياسات حكومات الاحتلال، وهي التي تضعها في مأزق باغتيال حل الدولتين التي تقوم عليه المقررات الأممية. ولكن الولايات المتحدة ذاتها تظلّ تعامل الكيان كطفل مدلّل صغير لا يجب معاقبته من أيٍّ كان، وأن حقه في الوجود يبرّر له في العمق ما يقوم به. 

في خضم ذلك، هل يجب على الفلسطينيين مسك غصن الزيتون وهم ينتظرون منّةً لن تأتي وسلامًا لا أساس له؟ السلطة الفلسطينية في رام الله أصبحت عبئًا على الحراك الفلسطيني، ولا تزال تبدو بيروقراطية السلطة كجهاز مدني وأمني وخدماتي تقود العقل السياسي الذي لا يزال يعوّل على فتات عدل يضمنه المجتمع الدولي من فم الأسد الجائع على الدوام. سقط مسار أوسلو واقعًا منذ زمن أبو عمار. ولم يبق إلا خيار المقاومة المسلحة كضرورة حيوية ليرهب الاحتلال أولًا وليسلّط المجتمع الدولي عينه على مظلمة تسبّب فيها قرارًا وتواطُؤًا.

هل يجب على الفلسطينيين مسك غصن الزيتون وهم ينتظرون منّةً لن تأتي وسلامًا لا أساس له؟ السلطة الفلسطينية في رام الله أصبحت عبئًا على الحراك الفلسطيني.. سقط مسار أوسلو واقعًا منذ زمن أبو عمار ولم يبق إلا خيار المقاومة المسلحة كضرورة حيوية

خطة الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 جاءت ضمن حسابات داخلية وإقليمية لأرئيل شارون، بيد أن إحدى غاياتها المعلومة هي تفكيك القضية الفلسطينية بتباين الوضع الواقعي بين الضفة وغزة. مثل حدث الانقسام الفلسطيني عام 2007 الخنجر الذي لا يزال في جسدنا، وظهر أن استفراد كل فصيل فلسطيني برقعة هو انتصار للكيان بعدم وحدة الصف الوطني الفلسطيني. 

أحيانًا، لا بأس أن نؤمن بضرورة أن نلقي نظرة للنصف الآخر من الكأس. أصبحت غزة المحاصرة قاعدة للمقاومة الفلسطينية التي راكمت الخبرة والعتاد، وهي تواجه العدو في حرب وراء أخرى لم تحقق غايته وهي تفكيك قدرات المقاومة. هذه هي غزة التي منها سطّرت المقاومة ملحمة تاريخية: 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 المجيد. هي المقاومة التي عرّت العالم الغربي وفضحت عوراته. ولكن قبلها هي المقاومة التي تقول للعام: كلما زاد المحتل في جرائمه كلما حلّت الحاجة للمقاومة بوصفها ضرورة. 

 

 

المقاومة المسلحة استتباعًا لحق الشعوب في تقرير مصيرها، بالنهاية، هي حق مضمون في القانون الدولي: هذه القاعدة وما بعدها يأتي التفصيل. وليتحمّل كل طرف مسؤوليته. تلك المقولة الرومانسية الجميلة "ما لا يأتي بالمقاومة يأتي بمزيد من المقاومة"، تبقى عنوان تحفيز مستلهم من تاريخ الاحتلال الاستيطاني في العالم.

أحيانًا أقول لأصدقائي المحبطين إنّ فلسطين محتلة منذ ثمانية عقود فقط، ولا يزال الطريق أمامنا وأمام أبنائنا. فلتبق الشعلة متقّدة ولنأخذ العبرة من التاريخ، فقط المهم أن نظلّ على خط المقاومة. وحقيقة لا أنكر، هنا، أن دولة الكيان التي لا تزال تبلع الأرض وتكشّر عن مخططاتها المتطرفة يسّرت التقدير أن المقاومة هي ضرورة دفاعية أيضًا لكفّ الأذى، وليست خيارًا هجوميًا فقط لاسترداد الحق.

من المؤمل أن يؤدي تاريخ 7 أكتوبر داخل الصف الفلسطيني إلى لحظة تأسيسية جديدة في تاريخ القضية منطلقها إعادة ترتيب البيت الداخلي وإنهاء الانقسام باعتماد استراتيجية نضال وطني وخطط عمل، تأخذ العبرة من مسار أوسلو الآفل

7 أكتوبر/تشرين الأول هو تاريخ نصر وغلّته السياسية بيّنة أولها أن جرائم العدوّ الذي يلتهم الأرض ضاربًا بعرض الحائط القانون الدولي والمقررات الأممية وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه هي الفعل الرئيسي المؤدي لرد فعل عنوانه اشتداد المقاومة المسلحة، وبما يعنيه، بالنسبة للمجتمع الدولي، من مخاطر على الأمن والسلم في العالم وليس المنطقة فقط. حل عادل للقضية الفلسطينية: ورشة يجب الانكباب عليها اليوم قبل الغد. هذا ما فرضته المقاومة أمام العالم اليوم.

 لكن من المؤمل أن يؤدي تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول، داخل الصف الفلسطيني أيضًا، إلى لحظة تأسيسية جديدة في تاريخ القضية منطلقها إعادة ترتيب البيت الداخلي وإنهاء الانقسام باعتماد استراتيجية نضال وطني وخطط عمل، تأخذ العبرة من مسار أوسلو الآفل. هذه مسؤولية تاريخية لجميع قيادات الفصائل الفلسطينية. وإن لم يكن لتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول من نصر، فيكفيه، في أقل المبتغى، أن ينعش الحاجة لتوحيد الصف الوطني وينهي حالة الانقسام صبرة واحدة. فيما يبقى الصف الشعبي موحّدًا في كل الأحوال: فالجسد الذي يتوجّع في غزة دائمًا ما يُسمع أنينه في القدس والضفة. في فلسطين أيضًا، الشعب هو من يعطي الدروس للقادة السياسيين.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"