08-مايو-2024
العنصرية

حسرة على من تطلّعوا إلى الكرامة والحريّة والمساواة.. "ثمّ قست قلوبهم من بعد ذلك"

مقال رأي 

 

من المزايا التي لطالما تغنّى بها التونسيون هي انفتاحهم على الثقافات المتنوّعة وقدرتهم على التأقلم مع الآخر بصرف النظر عن خصوصيّاته العرقيّة أو الدينية أو غيرها، وقد أوجد الكثير من الباحثين لهذه الخصلة النبيلة جذورًا تاريخيّة وفقهيّة وجغرافيّة وبيئيّة، وساهمت المناهج والبرامج المدرسية والجامعية في تمتين هذه النزعة الذهنيّة السلوكية التواصليّة، وذلك من خلال التأكيد على منزلة الحوار والفكر النقديّ والمشاركة والغيريّة والكونيّة، وهو أمر يمكن التحقّق منه بيسر من خلال العودة إلى "غائيّات النظام التربوي في تونس".

قسوة قلوب التونسيين ليست حكمًا متعسّفًا قاسيًا، فجلّ المؤشرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية تؤكّده وتقوم دليلًا عليه

تلك المزايا والغائيّات النبيلة أثمرت ذات شتاء ثورة تطلّع روّادها إلى الحريّة والكرامة والعدل والقيم الإنسانيّة، فكانت منسجمة مع التربة الحضاريّة التي اندلعت فيها، تشكّل ذلك من خلال الشعارات والأنشطة الفنيّة والأعمال التضامنيّة في اعتصامي القصبة سنة 2011، وتواصل هذا الفضل والإحسان مع المواطنين الليبيين الفارّين من بطش النظام في الفترة نفسها تقريبًا.

هذه السيرة الشعبيّة والوطنية العطرة تجعلني حينما ألتفتُ إلى الواقع الراهن في حيرة يتلوها شعور بالحسرة، حسرة على من تطلّعوا إلى الكرامة والحريّة والمساواة.. "ثمّ قست قلوبهم من بعد ذلك..".

  • "كالحجارة أو أشدّ"..

قسوة قلوب التونسيين ليست حكمًا متعسّفًا قاسيًا، فجلّ المؤشّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية تؤكّده وتقوم دليلًا عليه.

تشكّلت قسوة القلوب في بين سنتي 2012 و2015 تكفيرًا وإخراجًا من الملّة، فخلّفت عمليّات إرهابيّة.. فضلًا عن قسوة أخرى ذات لون فكري خطابي تنظيري انطوت على نزعة إقصائية استئصالية

تشكّلت قسوة القلوب في بين سنتي 2012 و2015 تكفيرًا وإخراجًا من الملّة، فخلّفت عمليّات إرهابيّة طالت العسكريين والأمنيين والمدنيين، وبصرف النظر عن أصول هذا الفكر الدينيّ المتشدّد وأدواره المشبوهة، فإنّ انخراط المئات من الشباب التونسيّ في هذا اللون من الإجرام يؤكّد فعلًا أنّ قلوبهم "قد أصبحت كالحجارة أو أشدّ" فاستباحوا دم الأبرياء ظلمًا وبهتانًا.

ولئن كانت هذه القسوة فعليّة ميدانيّة فقد جابهتها ألوان أخرى من القسوة ذات اللون الفكري الخطابي التنظيري انطوت على نزعة إقصائيّة استئصاليّة سعت إلى توظيف الإرهاب توظيفًا إيديولوجيًا بغيضًا، فعادت إلى خطاب يبّرر المعالجة الأمنيّة المتعسّفة في علاقة بالتيارات الإسلاميّة عامّة بمختلف درجات قربها إلى الأصوليّة والسلفيّة، ولولا التطوّر في فهم هذه الظاهرة من قبل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والقضائيّة لعدنا إلى تلك الألوان من التضييقات على الملتحين والمحجبات وروّاد المساجد على النحو الذي حصل في تسعينيات القرن السابق في ما يمكن نعته بالتلبيس المتعمّد والخلط المقصود بين التطرّف المنبوذ والتديّن المحمود.

ألوان أخرى من قسوة القلوب تشكّلت اجتماعيًا من خلال الارتفاع اللافت للجريمة وتطوّرها من الكثرة إلى الفظاعة تقتيلًا واغتصابًا وسطوًا مسلّحًا

حينما تراجع التجاذب الإيديولوجي والحزبي نسبيًّا، التفتنا إلى أحوال العامّة وعامّة العامّة فتفطّنّا إلى ألوان أخرى من قسوة القلوب تشكّلت اجتماعيًا من خلال الارتفاع اللافت للجريمة وتطوّرها من الكثرة إلى الفظاعة تقتيلًا واغتصابًا وسطوًا مسلّحًا، وحشية تكشف عنها عناوين تقطر دمًا: يقتل والدته ويغتصبها ثم يجهز على والده، يقتل زوجته وأمها وخالها بمطرقة، يضرم النار في زوجته وابنته، 1133 جريمة قتل بين سنتي 2018 و2020، ومن الشواهد الرسمية المفزعة، قول حلمي الميساوي قاضي التحقيق في تصريح لإحدى الإذاعات المحليّة في مطلع هذه السنة (2024) إنّ "تونس قد أصبحت تحتلّ المرتبة 65 عالميًا في معدّل الجريمة، وتُرتكب في كل ساعة 25 جريمة".

قسوة القلوب تشكلت كذلك من خلال ظواهر أخرى تبدو ناعمة قياسًا إلى الجرائم المذكورة لكنّ تبعاتها لا تخلو من خطورة، منها الطلاق لدوافع أنانيّة ضيّقة والهجرة لأسباب غير قاهرة، هذا قسا على أسرته فخلّف تشتتًا ذهنيًا وعاطفيًا للأبناء من الصعب معالجته (حوالي أربعين ألف حالة طلاق سنة 2023 من بين أكثر من 50 ألف قضيّة في عام واحد)، وذاك آثر نفسه على بني وطنه حتّى جفّت أو تكاد منابع الشفاء ومصادر التكوين المتين في المستشفيات والجامعات وقس على ذلك بقيّة الاختصاصات، (39 ألف مهندس وحوالي 3300 طبيب هاجروا بين سنتي 2015 و2020، سنة 2023 رحل 1300 طبيب، 80% من الأطباء حديثي التخرج يغادرون البلاد سنويًا).

قسوة القلوب تشكلت أيضًا من خلال ظواهر تبدو ناعمة قياسًا إلى بعض الجرائم لكنّ تبعاتها لا تخلو من خطورة، منها الطلاق لدوافع أنانيّة ضيّقة والهجرة لأسباب غير قاهرة

لا شكّ أنّ آلاف الأطباء والمهندسين الذين اختاروا الهجرة لهم دوافعهم الموضوعية والذاتية، لكن ذلك لا يعفيهم من صفة القسوة، قسوة بسببها لم تخسر تونس كفاءات علمية فقط بل خسرت كذلك رجالًا ونساءً يتصفون بالتمدّن واللياقة والتحضر والعقل النيّر والقلب الطيب الذي رعته مدارج العلم حتى بات سليمًا معافى من كلّ الأمراض النفسيّة والسلوكية.

  • ثقافة الكراهية: "زيدو مازال يتنفّس"

تحدُث هذه الألوان من القسوة في ظلّ واقع سياسي توفّرت فيه كلّ مؤشرات الضبابيّة والتوتّر، قادة أحزاب وإعلاميّون ورجال إعلام حفلت بهم السجون لأسباب فيها العادل الوجيه وفيها ما يحتمل الشكّ والإنكار.

عنصريّة مقيتة طالت المهاجرين من جنوب الصحراء، من خلال خطاب متعال تحريضيّ خال من قيم الرحمة والكرم

قسوة ذات لون سياسيّ وجزائيّ تجد لها صدى اجتماعيًا واسعًا لو تجسّد من خلال التثمين والموافقة والتأييد لسياسة الدولة لقلنا إنّه من علامات الموالاة والتأييد للسلطة، أمّا وقد ترجمه أصحابه شماتة وتشفيًا، فهذا يدخل في باب ثقافة البغضاء والكراهية التي لا تُبيحها لا الأصالة ولا الحداثة، لَشَدَّ ما استفزّتني هذه النعرة العدائيّة الانتقاميّة في عبارات من قبيل "زيدو مازال يتنفس"، كأنها تحاكي وإن على سبيل المجاز مشهد جمهور من المتعصبين الدمويين الذين لا يرضيهم غير الدفع بالقسوة إلى منتهاها، للأسف هذه العبارة لا تقتصر على المجال الجزائيّ فقط إنّما تتكرّر حتى في مقامات نقديّة للتعبير عن التأييد القويّ لتصريح فنّي صارم أو تعليق قطاعيّ حازم أو للثناء على مجرد رأي رياضيّ شرس، يحقّر من منزلة هذا اللاعب أو يهين ذاك المدرّب أو يشتم تلك الجمعية.

  • جئناكم لاجئين من هول ما عانيناه من الظلم والعذاب..

جهل وضعف وهوان وتهافت وسطحيّة اجتمعت في فئات عديدة ممّن قست قلوبهم فأفرزت هذه الأيّام واحدة من أخطر أنواع الجرائم ضدّ القيم الإنسانيّة، عنصريّة مقيتة طالت المهاجرين من جنوب الصحراء، من خلال خطاب متعال تحريضيّ خال من قيم الرحمة والكرم، أكاد أنصت إلى بعض الوافدين المستضعفين المقهورين يخاطب التونسيين مستأنسًا بصرخة حق أطلقها جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي لمّا همّ بأسره هو ورفقائه من السابقين إلى الإسلام وقد جسدها في فيلم الرسالة الممثل اللبناني منير معاصري قائلًا: "جئناك لاجئين من هول ما عانيناه من الظلم والعذاب".

لا شكّ أنّ هذه الجماعات من المهاجرين قد ضمّت المارق والسارق والمتحيّل، لكن ذلك لا يبيح بأي حال من الأحوال الانخراط في خطاب انتقاميّ أو عنصري لا تقبله المواثيق والشرائع الإنسانية

لا شكّ أنّ هذه الجماعات من المهاجرين قد ضمّت المارق والسارق والمتحيّل والمنخرط في تنظيمات إجراميّة، ولا شكّ أنّ المشهد في كلّيته لا يخلو من تعقيدات إقليمية واستخباراتية تدعونا إلى الخوف والحيطة، هذه المعطيات وغيرها هي في كلّ الأحوال من مشمولات أجهزة الدولة ومن باب المواطنة تقديم الشهادات والإفادات حول التجاوزات والأعمال المسترابة، لكن ذلك لا يبيح بأي حال من الأحوال الانخراط في خطاب انتقاميّ أو عنصري يتعارض تمامًا مع الذائقة السليمة والرأي الراجح ولا تبيحه الأديان ولا تقبله المواثيق والشرائع الإنسانية. 

رغم بداهة الموقف فقد بتنا مدفوعين في مثل هذه الوضعيات المريبة إلى التذكير بالمادّة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلًا وضميرًا، وعليهم أن يعامل بعضُهم بعضا بروح الإخاء".

لَشَدَّ ما استفزّتني هذه النعرة العدائيّة الانتقاميّة في عبارات من قبيل "زيدو مازال يتنفس"، كأنها تحاكي وإن على سبيل المجاز مشهد جمهور من المتعصبين الدمويين الذين لا يرضيهم غير الدفع بالقسوة إلى منتهاها

وتوضيحًا لهذا جاء في المادّة الثانية من الوثيقة نفسها: "لكلّ إنسان حقّ التمتّع بكافة الحقوق والحريّات الواردة في هذا الإعلان دون أيّ تمييز كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسيّ أو رأي آخر، أو الأصل الوطني والاجتماعيّ أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلًا عمّا تقدّم فلن يوجد أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانونيّ أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد وتلك البقعة مستقلًا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد".

يتّضح من خلال ما تقدّم أنّ قسوة القلوب لا تندرج ضمن رؤية سليمة أو موقف سديد أو تصوّر واضح، إنّما هي حالة مرضيّة عُصابيّة تصيب الفرد وتصيب الجماعات لأسباب عديدة منها الخوف والجهل والضعف، ألم يقل جون جاك روسو في كتابه "Émile ou De l'éducation" إنّ "الشرّ دافعه الضعف" (Toute méchanceté vient de faiblesse).

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"