مقال رأي
لا شكّ أنّ اعتداء الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني وتفننه في القتل والحصار قد كان ولا يزال منذ عقود مشهدًا متواترًا متكرّرًا حتّى بات بالنسبة إلى الكثيرين مألوفًا لا يكاد يحرّك فيهم إلّا مجرّد قلق سطحي عرَضي عقيم لا يثمر عزمًا صارمًا أو تخطيطًا محكمًا لنصرة القضية المركزية للعرب والمسلمين على المدى القريب والبعيد.
في المقابل لا بدّ أن نعترف أنّ عمليّة طوفان الأقصى وما تلاها من أحداث وتفاعلات ترقى إلى الحدث الخارق الاستثنائيّ الفريد الذي يعدل عدولًا بيًّنا عمّا سبقه من مواجهات بين المقاومة الفلسطينية والمحتل، وذلك لمعطيين على الأقلّ:
- المعطى الأوّل آيتُه حجم الخسائر التي تكبّدتها إسرائيل في مشهد نوعيّ مثير مدهش في خطّته ونتائجه وآثاره الميدانيّة والمدنيّة والعسكريّة وقد أخذت تلك التفاصيل مساحة طويلة من العرض والتفصيل والمتابعة بما لا يُحوجنا لتسجيلها في هذا الحيّز.
- المعطى الثاني تجلّى في الموقف الغربي أقصد الأمريكي والأوروبي فقد تخلّى عن لغة التنسيب وأعرض تمامًا عن الخطاب ذي النزعة الإنسانيّة، فتحوّل إلى داعم صريح للقتل والإبادة والتهجير.
حجم الخسائر التي تكبّدتها إسرائيل والموقف الغربي الذي أعرض عن الخطاب ذي النزعة الإنسانيّة، هذان المعطيان كان لهما الأثر بعيد المدى في نفوس التونسيين وأذهانهم ومواقفهم وأحكامهم
هذان المعطيان وغيرهما كان لهما الأثر بعيد المدى في نفوس التونسيين وأذهانهم ومواقفهم وأحكامهم، غير أنّ هذا الأثر فيه ما يرقى إلى مرتبة الثوابت وفيه ما يمكن تصنيفه في باب الهواجس والشكوك والمفارقات.
- الثابت الأوّل: من التعاطف إلى المقاومة
تشكّل لدى التونسيين موقف مفاده أنّ الاقتصار على إظهار التعاطف مع الشهداء وأسرهم قد تحوّل إلى سلوك ضعيف سلبيّ أدنى ممّا تقتضيه المرحلة، فالواجب الإنساني والديني والقوميّ يقتضي التسلّح بالمقاومة خيارًا لا بديل عنه بعد أن هتكت الحرب سرّ المطبعين وفضحت تناقضات المطالبين بحلول سلميّة حواريّة في صراع يفتقر إلى الشروط الدنيا للتواصل المتوازن والحوار المتكافئ.
تشكّل لدى التونسيين موقف مفاده أنّ الاقتصار على إظهار التعاطف قد تحوّل إلى سلوك ضعيف سلبي ومن ذلك الدعوات لاستدعاء سفراء الدول التي شاركت في العدوان ووقوف المتظاهرين في أكثر من مناسبة أمام السفارة الفرنسية ساخطين مندّدين
كشفت المناظرات والنقاشات المفتوحة بين التونسيين في الساحات العموميّة وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ عن رغبة حارقة في تخطّي خطوط التعاطف إلى مرتبة التضحية والمساندة، وقد تشكّل ذلك من خلال حضور صورة الشهيد محمد الزواري في الأذهان باعتباره قدوة في المعاضدة العلميّة والعمليّة للمقاومة كما تجسّمت هذه النزعة عبر الدعوات إلى التبرّع بالمال والدم والمساعدات العينيّة، وقد بلغ صوت المقاومة في تونس درجات أعلى تجلّت في حثّ السلطة على استدعاء سفراء الدول التي شاركت في العدوان من خلال الدعم السياسيّ والإعلاميّ والمادّي والعسكريّ ومن علامات الإصرار على هذا التوجّه وقوف المتظاهرين في أكثر من مناسبة أمام السفارة الفرنسية ساخطين مندّدين.
- الثابت الثاني: تناغم الموقف الرسمي والهبّة الشعبيّة
بصرف النظر عن صدقيّة الخطاب الرسميّ في تونس وحساباته الإقليميّة والعالميّة فقد ظلّ منذ عقود متجاوبًا بدرجات متفاوتة مع الموقف الشعبي، ولقد نأى بنفسه عن التشكيك في المقاومة ولم يتورّط في اتهامها بالإرهاب في أي مناسبة، ولئن كانت البيانات قبل الثورة أدنى من تطلّعات الشعب فقد بدت من 2011 إلى 2021 متناغمة معه ولكنها مع قيس سعيّد رئيس الجمهورية الحالي قد بلغت في بعض تدخّلاته أعلى درجات التحرّر والثوريّة في تماه يكاد يكون تامًّا مع خيار المقاومة المسلّحة.
بلغت بعض تدخّلات الرئيس قيس سعيّد أعلى درجات التحرّر والثوريّة في تماه يكاد يكون تامًّا مع خيار المقاومة المسلّحة.
الجامع بين الثابت الأوّل والثاني هو التمسّك بمبدأ المقاومة والإعراض عن الصلح والمساومة، لكن هذا الشعار وغيره المندرج ضمن خطّ الممانعة يتحوّل إلى موقف متناقض مربك مثير لكثير من الهواجس حينما نعيد النظر فيه نظرة نقديّة موضوعيّة.
- المفارقة الأولى : الالتزام والأخوّة والحريّة قيم لا تتجزّأ
ثلاثة ضوابط تنسل منها هبّة المساندة للقضيّة الفلسطينيّة، الأول يتمثل في الالتزام بهموم من تربطنا بهم صلة رحم قوميّة أو دينيّة أو جغرافية أو تاريخيّة أو إيديولوجيّة أو إنسانيّة، والثاني يرتبط باعتبار الحريّة جوهر وجود الإنسان وهويّته وكرامته والثالث وهو أضيق نسبيًا ويتصل بالانحياز إلى الأقرباء والأشقاء والأصدقاء.
وجه الحرج في هذا المقام يتجسّد في مواطن أو سياسي تحكمه ثقافة الخلاص الفردي تراه معرضًا عن مشاغل بني وطنه لا يُعين صديقًا ولا يعترف بحسن الجوار ولا يصل رحمًا ولا يشغله رصيف قد احتلّه تاجر جشع ولا يلتفت إلى فنان أو مفكّر طاله السجن لآرائه أو التكفير لاجتهاده أو التنمّر لهيئته، كيف لي أن آخذ تعاطف هذا المواطن الأناني السطحيّ مأخذ الجدّ في معركة قوميّة ودينيّة وإنسانية وهو يبخل عن مجرّد المساعدة في تنظيف حيّه أو إماطة الأذى من طريق تسلكه أمّه ويعبر منه ابنه وأبوه؟
- المفارقة الثانية: الكوفية الرمز و المنشّط "الرِّمز"
الرِّمز في اللهجة التونسيّة بكسر الراء المشدّدة هو الساذج التافه المبتذل في سلوكه وخطابه، وقد حفلت الساحة الإعلاميّة بهذا الرهط من الأشخاص في هيئة "كرونيكور" أو "مؤثّر" على مواقع التواصل الاجتماعي أو منشطّ في بعض القنوات ذات النزعة الربحيّة الكسبية والتكسبية، هؤلاء يمارسون في بلادنا ضروبًا شتّى من الإجرام حينما يتّجه تركيزهم إلى الاستثمار في غرائز الفتيان والفتيات وحينما يجتهدون في إلهائهم عن المشاغل الجادّة من علم وعمل وإبداع وحينما يزينون لهم النماذج الرديئة السلبيّة الفاشلة ويصنعون لهم من السذّج أبطالًا ويقتلون بالغياب والتغييب كل مجتهد مثابر حكيم.
هل يكفي أن يلبس تافه "رِّمز" الكوفية الفلسطينية وينطق ببعض شعارات المساندة حتى نصدق نصرته للحق وهو الذي كان على امتداد السنوات يمارس ألوانًا من القتل الرمزي والاعتباري لثوابتنا.. هؤلاء لا شأن لهم بالحق والحرية رهانهم الدائم الركوب والتوظيف والاستثمار
هل يكفي أن يلبس هذا التافه "الرِّمز" الكوفية الفلسطينية وينطق ببعض شعارات المساندة حتى نصدق نصرته للحق والخير والجمال فنعدّه رمزًا يمكن أن يحتذي به أبناؤنا، وهو الذي كان على امتداد السنوات يمارس ألوانًا من القتل الرمزي والاعتباري لثوابتنا الأخلاقيّة والتواصليّة والمهنيّة والوطنية، لقد انطلت علينا الحيلة بُعيد 14 جانفي/يناير 2011 حينما افتكّ المطبلون لزين العابدين بن علي ركح الثورة وسرديّتها وصوتها فكيف ينطلي علينا الأمر الآن، هؤلاء لا شأن لهم بالمقاومة والحق والحريّة رهانهم الدائم الركوب والتوظيف والاستثمار، فلا تعجبوا يومًا مّا إن رأيتموهم هم أنفسهم يتصدرون المشهد لتبرير قيام سلطة في غزة موالية للاستعمار بعد القضاء لا قدّر الله على آخر حصن عمليّ جادّ متين تتحصّن به القضيّة الفلسطينية.
فصل المقال ثلاثة في رأيي لا يُقبل تعاطفهم مع القضيّة الفلسطينية، المساند العرضي الاستعراضي الذي لم يستوعب أنّ الحريّة مسار تحرّر طويل دقيق معقّد يتشكلّ في السلوك اليومي كلمة وحركة وفعلاً. الثاني هو من أنكر على شعبه أو شعوب أخرى الحريّة فلا يحقّ له ادعاء دعم المقاومة ضدّ المحتل، والثالث هو من بخل عن جاره وأخيه هنا والآن فلا تنتظرنَّ منه نجدة أو عطاء هناك لفائدة أطفال غزة أو أبنائها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"