مقال رأي
لماذا يصرّ قيس سعيّد منذ أن استلم صلاحيات إمبراطور على إلصاق تهم الخيانة والتآمر مع الخارج بكل معارضيه، بل حتى بمنتقديه؟ لا جديد تحت شمس الاستبداد، هذه أشياء مكررة ومعادة في المعجم القديم. قيس سعيّد ونظام الخوف الذي شرع في تأسيسه لا يختلف عن آخرين مروا قبله في الاستفراد بهذه البلاد، ولن يكون مختلفًا جدًا عمّن سيأتي بعده من الرؤساء-الأنبياء الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم. بالنسبة لرئيس كتب دستوره متفردًا ثم أقسم على احترامه، رافعًا نفسه فيه إلى مرتبة الآلهة التي لا تمرض ولا تموت، كل الأمور تصبح متوقعة.
قيس سعيّد ونظام الخوف الذي شرع في تأسيسه لا يختلف عن آخرين مروا قبله في الاستفراد بهذه البلاد، ولن يكون مختلفًا جدًا عمّن سيأتي بعده من الرؤساء الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم
لا مؤامرة دون خيانة، ولا معارضة دون خيانة، ولا سياسة في تونس مع قيس سعيّد دون مؤامرة. أربع مفردات لم يسمع التونسيون منذ حوالي ثلاث سنوات أكثر منها تكرارًا في خطاب الرئيس ومسانديه.
بوعي كامل، حوّل قيس سعيّد التصرف في السياسة واختلافاتها إلى أقبية الأجهزة وردهات المحاكم، ولا يكاد يمر شهر منذ وصوله منتخبًا للسلطة دون اكتشاف مؤامرة أو خيانة. لقد أضحى الأمر طريقة مؤسسة في إدارة الشأن العام.
في استقباله لوزيرة العدل، يده الطولى ضد معارضيه ومنتقديه، أطلق الرئيس أحكامه النهائية على المحامية سنية الدهماني والمحامي مهدي زقروبة اللذيْن وقع اعتقالهما في اقتحامين متتاليين لـ"دار المحامي". وبالرغم من حديث عدد من محامي مهدي زقروبة وكذلك رئيس رابطة حقوق الإنسان عن تعرضه لتعذيب شديد في فترة الاحتفاظ، وبالرغم أيضًا من ملاحظة قلم التحقيق للأضرار التي تعرض لها المحامي الشاب المعتقل، فقد رفض عرضه للطبيب وأعلمه بقرار إيقافه وهو في حالة إغماء. من سيجرؤ فعليًا من القضاة على إدانة ما تعرض له مهدي زقروبة وتسمية المعتدين عليه، وتلك العبارة الرئاسية قد دقت بعد أجراس القانون والعدل والقضاء والمنطق: "من يبرؤهم فهو شريك لهم".
بوعي كامل حوّل قيس سعيّد التصرف في السياسة واختلافاتها إلى أقبية الأجهزة وردهات المحاكم، ولا يكاد يمر شهر دون اكتشاف "مؤامرة" أو "خيانة"، لقد أضحى الأمر طريقة مؤسسة في إدارة الشأن العام
لم يعد بإمكان أحد اليوم فعليًا أن يقول إنّ الرئيس لم يكن يعلم. هذه ذريعة يكذبها الرئيس بنفسه رسميًا كل يوم: إنه على علم بكل شيء، وإن سياسته تؤدي حتمًا لما تؤدي إليه، وإنّ قتل العدالة والقانون والحقوق قد أصبح فعليًا سياسة رسمية للدولة. تعرف الأجهزة جيدًا أنها محمية في تجاوزاتها، وتعلم حق العلم أن تلك الحماية مسدولة عليها في مقابل ما تمنحه هي من حماية لسلطة الرئيس. هناك عقد ضمني عريق جدًا يُعاد العمل به اليوم، وهو عقد لا يمكن نقضه دون عواقب كارثية على الأجهزة وعلى شركائها في الدولة.
لكنّ الصورة لفظاعتها، لا تُقدم أبدًا هكذا. هناك دائمًا حاجة ملحة لمبرر يجعل أيّ سلطة مماثلة تغطي على ما تأتيه، وكلما كانت التجاوزات كبيرة، كلما تطلب الأمر أن يكون المبرر أكبر. ليس أكبر من تهم الخيانة والتآمر مع الخارج التي تُلقى على الخصوم والمنتقدين فتجعل صراخهم بلا جدوى، وتظلمهم بلا فائدة. الأمور مترابطة جدًا ولا مكان فيها للمصادفات. عندما تتهم خصمك بالخيانة، فأنت تقول في الوقت نفسه إنّه يستحق القتل. ماذا يساوي انتهاك حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة وقرينة البراءة، بل وحتى انتهاك الحرمة الجسدية للمتهمين عندما يُفترض أن يتم إعدامهم؟ لا شيء مطلقًا. مجرد تفاصيل صغيرة تسقط في امتحان القضايا الكبيرة.
إنّ قتل العدالة والقانون والحقوق قد أصبح فعليًا سياسة رسمية للدولة.. تعرف الأجهزة جيدًا أنها محمية في تجاوزاتها، وتعلم حق العلم أن تلك الحماية مسدولة عليها في مقابل ما تمنحه هي من حماية لسلطة الرئيس
قضية السيادة هي الأخرى من القضايا الكبيرة، لذلك فإن الرئيس استنكر في لقائه مع كاتب الدولة للشؤون الخارجية "التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية التونسية" بعد أن أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية ونظيرتها الفرنسية وكذلك الاتحاد الأوروبي "بيانات قلق" إزاء طريقة تصرف السلطات التونسية بعد اقتحام "دار المحامي" قبل أيام. هذه أيضًا ردة فعل قديمة ومعتادة. بالنسبة لأنصار الرئيس، "لا يمكن لدول تورطت في دماء الفلسطينيين أن تعطي للآخرين دروسًا في احترام الحقوق"، وهذا صحيح. لكن علينا أيضًا أن نقرأ العبارة بطريقة أخرى: ماذا يساوي كل ما يحصل، حتى لو أسميناها انتهاكات، في مقابل ما يحصل للفلسطينيين؟ مقارنة رشيقة فعلًا.
لنواصل الطريق إلى نهايته: هناك إقرار، بفعل المقارنة الرشيقة ذاتها، بأن هناك انتهاكات، لكن الأكيد هو أنها لا تساوي كل الجدل الذي يثار حولها. انتهاكات تحتاج الهدوء، كثيرًا من الهدوء والصمت، لأنها أيضًا لا تساوي شيئًا أمام استقلال البلاد وحريتها ومناعتها، "أبد الدهر". لقد وافق، في النهاية إذًا، شِن طبقة.
ما يبدو من تصرفات السلطة اليوم غدا منهجًا رسميًا إزاء كل ما يعترضها من "إشكالات" في تطبيق "رؤيتها" لكل شيء، إذ يعتقد الرئيس فيما يبدو أن السجن هو مفتاح الحل تجاه كل إزعاج، لكن بالرغم من هذه "المقاربة الجديدة" فإن الإزعاج لا ينتهي
لكن الحاجة إلى مبرر أخلاقي تخفي أيضًا قلقًا، وكلما زاد القلق، كلما وقع احتياج ذلك المبرر. المشكل اليوم أن المبرر، بسبب الإفراط غير الحكيم في استعماله، أصبح قاصرًا عن تغطية القلق. لقد أصبح "التآمر" رياضة الحكم الأولى، بل والوحيدة في وجه كل شيء، ما يأخذ الأمور كل يوم إلى سياق المهزلة. والرئيس يقترب من نهاية عهدته الرئاسية، لا تنفك السلطة القضائية من تقديم ما يُطلب منها ضد كل مرشح قد يشكل تحديًا للرئيس إن قرر تنظيم تلك الانتخابات في موعدها.
يصبح الأمر أشبه بسباق ضد الزمن والخصوم في نفس الوقت: يقول بعض "الحاقدين على الرئيس" إنه لن ينظم أي انتخابات إذا لم يضمن "الهدوء" وفرص إعادة انتخابه كاملة. لذلك فإن نفس الحاقدين يقولون إنّ اعتقال الصحفيين هو أيضًا جزء من إعادة النظام للمشهد الإعلامي استعدادًا للاستحقاق الانتخابي المذكور، بل إن حقدهم يذهب بهم أحيانًا إلى القول إنّ الرئيس ربما يوفّر شيئًا فشيئًا الفرص لإعلان استثنائيةٍ ما للوضع تمنع تنظيم الانتخابات في وقتها. وهذا بالفعل حقد عظيم.
لقد أصبح سلوك الرئيس متوقعًا إزاء كل مشكلة تعترضه، حتى في تفاصيله الصغيرة.. وتظهر عارية معادلة الرئيس الذي يحمي الأجهزة والأجهزة التي تحمي الرئيس
لنترك فرضية أن يكون ما يجري في علاقة بالانتخابات، تلافيًا للتهويلات الحقودة التي ترقى هي الأخرى للخيانة. ما يبدو من تصرفات السلطة اليوم أكبر من ذلك بالفعل، حيث غدا منهجًا رسميًا إزاء كل ما يعترضها من "إشكالات" في تطبيق "رؤيتها" لكل شيء. يعتقد الرئيس فيما يبدو أن السجن هو مفتاح الحل تجاه كل إزعاج، لكن بالرغم من هذه "المقاربة الجديدة"، فإن الإزعاج لا ينتهي.
في خضم ما يجري تجاه المعارضين، وقع توجيه تهمة التآمر على موظفين ومسؤولين عن القطاع الرياضي بسبب "موقعة العلم". ووقع اتباع السلوك نفسه تقريبًا ضد الجمعيات التي تساعد المهاجرين غير النظاميين من أفارقة جنوب الصحراء. وقبل ذلك، كان السجن هو ما واجهت به الحكومة من تتهمهم بالاحتكار والتسبب في ندرة المواد الأساسية.
لقد أصبح سلوك الرئيس متوقعًا إزاء كل مشكلة تعترضه، حتى في تفاصيله الصغيرة. يؤدي ذلك إلى تهرئة تهمة "الخيانة" كل يوم، وبالتالي فقدان المبرر الأخلاقي للتضييق على الخصوم والمنتقدين قوته المفترضة. في المقابل يتعرى الفشل بنفس النسق وبنفس التسارع، وتظهر عارية معادلة الرئيس الذي يحمي الأجهزة والأجهزة التي تحمي الرئيس.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"