23-نوفمبر-2021

ما إن يقف مسافرون على رصيف المحطة حتى يرون في الجدران مآثر عن شباب يكتب "دستوره" (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

مسافرون عبر سكك الحديد.. يعبرون الساحل من محطة القطارات بسوسة وصولًا إلى المهدية. قد ينتابهم صداع الرحلة التي قد تطول على متن المترو الذي لا ينطلق حتى يقف من جديد مرورًا بأربع وثلاثين محطة. قد يصادف أنك تجلس خلف شباك زجاجي مكسور، من آثار الاعتداء بالحجارة، لكنه ثابت.. وقد يحدث أن تجلس في مقعد وترى العالم من حولك خلف بلّور شباك سليم لا يزال في مأمن من مرمى حجر.

كنت كلّما استقللت المترو في خطّ الساحل أقرأ على جدران المحطات كتابات بلغات العالم وأرى صورًا من ثقافات العالم ورسومًا من لمسات شباب الأحياء.. كانت كتبًا مفتوحة على تعبيرات من رحم المجتمع التونسي. إنه "الجرافيتي" الذي اكتسح الجدران البيضاء الطويلة ومقاعد المسافرين في محطات المدن التي يمرّ بها.. رسوم تفجّر مكامن خفية في صدور الشباب قد تصدمك بذوقها الهابط أحيانًا وقد تفتح فاك من روعة الرسالة وتعدّد الألوان. وأجملها ما حدثك عن شابّ يحذق فنّ الشارع ويشدّك إلى نبل إحساسه.

"الغرافيتي" اكتسح الجدران البيضاء الطويلة ومقاعد المسافرين في محطات المدن التي يمرّ بها مخلفًا رسومًا تفجّر مكامن خفية في صدور الشباب، قد تفتح فاك من روعة رسالتها وتنوع ألوانها

كلّما سار القطار في رحلته بين المحطة والأخرى لا يمكن أن ترى غير مدن الآجر وقفا الأحياء الفقيرة والمياه الراكدة ومجرى الأودية فترسّخ في ذهنك بوار هذه الحضارة فلعلّ عدم مرور المسؤولين من هذه المسالك الخلفية يكرّس التهميش والنسيان، وقد تعترضك غابات الزياتين فتسبح في خضرتها فتمحو البؤس من مخيّلتك ويصفو ذهنك من شوارد الحياة. لكن ما إن يقف مسافرون على رصيف المحطة حتى يرون في الجدران مآثر عن شباب يكتب "دستوره".

رسما غرافيتي لبوب مارلي والجوكر في محطة "الساحلين-سبخة" (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

وقفت اليوم عند محطة الساحلين- سبخة، انتبهت إلى رسوم على الجدران. رسوم لم أكن لأنتبه إليها رغم مرور أكثر من سنة على وجودها. رسوم أنجزها شباب مبدع يائس. كنت أشمئز من هذه الرسوم كل صباح وعاتبت هذا السلوك. رسوم لا أراها متشائمة فحسب بل عدوانية مستفزة: "الجوكر" الدموي و"بوب مارلي" الساخر. (الجوكر قصة آرثر فليك يلعب دوره خواكين فينيكس، الذي يلجأ إلى العنف بعد أن شعر بالغضب تجاه المجتمع).

اقرأ/ي أيضًا: "الماتر" الحبيب بوعبانة... فرشاة على حدة

اليوم فقط فهمت هذه الصورة الرمز في محطة الساحلين-سبخة. صورة سبقت زمن الكورونا. لكنها تعبيرة شبابية عن الظلم والجور وغياب العدالة والتهميش الذي يعاني منه عدد كبير من شباب الساحلين. شباب لم ننتبه إليه في خضم معارك الأنانية واستغلال المآسي. خلال فترة الغلق الشامل بسبب الكوفيد تم إصدار قرار بغلق محطة الساحلين–سبخة، فكان ردّ الشباب برسم صور الجوكر الذي يترصد الزائرين، ورسوم أسنان "بوب مارلي" التي لم تكن ابتسامة بقدر ما كانت  سخرية.

رسم للجوكر على جدار بمحطة الساحلين (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

بحثت عن موقّع هذه الرسومات فلقيته شابًّا يدعى "أمين" أصيل مدينة الساحلين يئس من ظلم المجتمع وكان مغرمًا بالغرافيتي فهرب إلى محطة المترو وصار يتردد بـ"البخاخة" (قارورة الدهن) ليجسّد ما يخالجه من مشاعر ويبلغها للعالم بأسلوبه، وقد أسرّ لي أن أمّه كانت تتابع رسمه وتشجعه خفية فلعلّه يلتذّ بصنيعه فيحقق شيئًا من ذاته يعيد له الأمل.

في محطة المترو الرئيسية بالمنستير تعددت المدارس الفنية فأنتجت مجلّة حائطية من رسوم الجرافيتي. رسوم وأشكال خطّها شباب من مختلف الأعمار، بالتنسيق مع إدارة شركة المترو الخفيف وجمعية "أخوية الفن"

في محطة المترو الرئيسية بالمنستير تعددت المدارس الفنية فأنتجت مجلّة حائطية من رسوم الجرافيتي. رسوم وأشكال وصور أنتجها شباب من مختلف الأعمار تمت بالتنسيق مع إدارة شركة المترو الخفيف وجمعية "أخوية الفن" brother-hood.

اقرأ/ي أيضًا: "موسم الهجرة إلى الفنون".. أو حينما تصبح السوق الأسبوعية مسرحًا

رسومات مختلفة في محطات خنيس وقصيبة-بنان وصيادة والمكنين تراوحت بين لوحات لمجموعات رياضية (فريق النجم الرياضي الساحلي) وملامح ووجوه لأطفال باللونين الأبيض والأسود وبعضًا من الشعارات السياسية المناهضة لمنظومة الحكم. جميع هذه الرسوم حديثة تعود إلى الفترة المتراوحة بين سنتيْ 2015 – 2021 وتعدّ بالعشرات.

محطة المترو الخفيف بصيادة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

وكان لنا لقاء مع حسين معلال، أحد أعضاء الجمعية ومن المبدعين التونسيين في فنون الشارع والرسم على الجدران، فقال: "فن الجرافيتي هو أحد فنون الشارع وكان لنا شرف أن أقنعنا مؤسسة عمومية مثل شركة المترو الخفيف بالساحل أن تتبنى بعضًا من إنتاجاتنا وأفكارنا في سنة 2015 فزوقنا جدران المحطة الرئيسية وجانبًا من الرصيف وقد شاركنا المسافرون في ذلك لما لمسوه من جدية وتناسق فني".

ويتحدث حسين معلال عن هذا الفن فيقول: "ولد هذا الفن في المجتمعات الغربية وخاصة الأمريكية فانطلق من الأحياء الفقيرة، وهو نوع من المقاومة والتعبير الحر بطريقة ناقدة وساخرة، وقد كان استعمال علب بثّ رذاذ الدهن الوسيلة الوحيدة المعبرة عن هذا الفن وكانت كتابة الأرقام رمزًا من رمز المجتمع المحلي الذي يحيل إليه قبل أن يضاف إليها عنصر الجمالية".

اقرأ/ي أيضًا: "الكوميكس" أو "لغة الفقاعات".. إبداع يقتات من الهامش الثقافي

ويضيف محدث "الترا تونس": "هذا الفن ظهر في تونس أواخر الثمانينات وانتشر في التسعينات واشتد عوده زمن الثورة، وقد تزامن ظهوره باستيراد علب رذاذ الدهن "البخاخات" من إيطاليا فكان الشباب يستغلونها للكتابة على الجدران وقد غلبت في ذاك الزمن الشعارات السياسية المناهضة للنظام والرافضة له باعتبار أن القانون يجرّم هذا الفعل ويلاحق بالعقوبة".

حسين معلال (عضو بجمعية أخوية الفن) لـ"الترا تونس": الغرافيتي هو نوع من المقاومة والتعبير الحر بطريقة ناقدة وساخرة.. وأصبح بعد الثورة ذا انتشار واسع، وازداد جمالية نتيجة تلاقح الخبرات بين الفنانين المحترفين والهواة

ويردف: "بعد الثورة كانت الحريات أوسع فأصبح الغرافيتي ذا انتشار واسع في صفوف الشباب والأطفال، وازداد هذا الفن جمالية نتيجة تلاقح الخبرات بين الفنانين المحترفين ومدارس الفنون الجميلة والهواة، كما صارت الفضاءات مفتوحة أكثر أمام ممارسة هذا الفن، ولعل من ذلك انفتاح الشركات العمومية على الجمعيات الثقافية الراغبة في الإنجاز، واعتبر أن إنجاز محطة المترو بالمنستير وقبلها محطة القطارات برشلونة بتونس خطوة عملاقة تجسد الحريات والانفتاح".

رسوم غرافيتي بمحطة مترو الساحل (ماهر جعيدان / الترا تونس)

كما اعتبر حسين معلال أن "هناك انحرافات بهذا الفن في عدة مناطق وذلك بانتساب رسامين في فن الغرافيتي إلى مدارس سياسية وإيديولوجية بعينها وحادت عن رسالتها الأصلية في كونها تعبيرًا عن روح الشباب وواقعه المباشر".

رضا بن عائشة (مدرب في المجال التربوي) لـ"الترا تونس": فن الغرافيتي استغل محطات القطارات باعتبارها فضاء رحبًا يمكّن الشاب من استنفاذ كامل إبداعاته، كما يمكّن شريحة واسعة من المجتمع من الاطلاع على تعبيراته السياسية والثقافية والاجتماعية

ومن جانبه، يعتبر رضا بن عائشة، مدرب في المجال التربوي، في حديثه مع "الترا تونس"، أن فن الغرافيتي وأشكال الرسم على الجدران استغل محطات القطارات باعتبارها الفضاء الأرحب والأوسع الذي يمكن الشاب من استنفاذ كامل إبداعاته وهي تمثل أيضًا  فضاء يمكن شريحة واسعة من المجتمع التونسي من الاطلاع على تعبيراته السياسية والثقافية والاجتماعية، غير أن هذا الشكل من الفن الذي يصل إلى الملايين من المسافرين قد يرسخ انطباعًا أو إيديولوجيا أو فكرًا لا تتقبله فئة من المجتمع فينقلب إلى استفزاز. لذا وجب ترشيد استهلاك هذا الفن في الفضاءات العامة مع ضمان الحق في الحريات والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة".

رسومات كأنها صفحات كتاب مفتوح عن واقع واهتمامات الشاب التونسي عززها واقع الحريات بعد الثورة غير أننا اليوم بعد إعلان  التدابير الاستثنائية في 25 جويلية/يوليو 2021 نتساءل هل يمكن لهذا الفن أن يظل منفتحًا على الفضاءات العامة أم يقع تحجيمه حتى يشهد انحسارًا وهو القائم دومًا على مناهضة منظومات حكم والمنتفع أبدًا من مناخ الحريات؟". 

محطة المنستير (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم

رسم مائة شخصية في تاريخ تونس.. مشروع وطني بريشة شباب مبدع