29-مايو-2018

أصدرت الأستاذة ريم الزياني مؤخرًا كتاب "الصّورة نمرود الثّورة"

تقول الميثولوجيا اليونانية القديمة إن البحّارة الذين يخرجون لأعالي البحار ولا يعودون فإنهم لا محالة قد قتلتهم "سيرانات" البحر بعد أن أغوتهم تحت ضوء القمر. وهذا تقريبًا ما حصل للأستاذة ريم زياني عفيف، التي تدرّس بالمدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم بجامعة منوبة. لقد أغوتها الصورة فأبحرت تحت ضوء القمر بلا عودة إلى عوالمها السرية وخفاياها فباتت مختصّة في سيمياء العلامات والرموز الصوريّة وعلاقتها بعوالم الإشهار الخطّي والسمعي البصري.

أستاذة تصميم الصورة ريم الزياني لـ"الترا تونس": الصورة هي منفذ ونافذة وزاوية نظر حول التّاريخ

الدكتورة ريم الزياني عفيف حائزة على شهادة الدكتوراه في علوم وتكنولوجيات التصميم من جامعة منوبة وبحثها كان تحت عنوان "تصميم الصورة بين التنظير الرقمي والإنجاز الطباعي: مساءلة في مسارات الاتصال الخطّي الحديث" و قد نشرتها دار كلمة للنشر والتوزيع سنة 2017. لم تكن الدكتورة ريم الزياني عفيف تقنية صرفة في بحوثها الأكاديمية بل كانت ميّالة للتفكير والتفلسف بخصوص الصورة والخط والكاريكاتير والغرافيتي. فهي تذهب بالقارئ إلى مناطق لا يتوقعها فتحدث زلزالاً في تصوراته الثابتة فتجعله يلجأ إلى مراجعات فورية.

صدر لها سنة 2016 كتاب "العلامة والرّقم.. من فرضية الآلة إلى آليّة الافتراض الطابع الرقمي أنموذجًا". وخلال هذه الأيام وعن الدار التونسية للكتاب أصدرت كتابًا مهمًا تحت عنوان "الصّورة نمرود الثّورة: مقالات في تحليل مشاهد وشواهد من الثورات العربية".

"الترا تونس" التقى الدكتورة ريم الزياني عفيف وكان له معها هذا الحوار:

يعرّف روجيس دوبريه المرحلة التاريخية التّي تعيشها الإنسانيّة الآن بأنّها مرحلة الصّورة بل هو زمن الصّورة، إلى أيّ مدى تلتقين مع دوبريه في هذا الرأي؟

الصُّورة هي منفذ ونافذة وزاوية نظر حول التّاريخ، تستمدُّ قُوتها وزَادها من الحدث الزمنيّ والحراك المُجتمعيّ والمُتحرّكات الفاعلة في الواقع، وبذلك فهي تجسيد لما نُبصره ونُدركه بفعل الذاكرة لكنّه يتلاشى شيئًا فشيئًا بفعل اضمحلال المعلومة بمرور الزّمن، وهنا تأتي الصُّورة لتُثّبت هذا الحراك وتُسجّله. غير أنّ هذا التأريخ يبقى مرتبطًا بمُقتطف الصُّورة، وبذلك تُسجنُ التّعبيريّة في نطاق الرُّؤية والانطباعي والذاتي.

وفي كتابي "الصُّورة نُمرودُ الثّورة" نقف على تجارب مُشابهة ومُجانسة في الواقع العربيّ ما بعد الثّورة، عندما تتحوّلُ الصُّورة لشاهد من الحراك الثّوريّ، غير أنّ دراسة الموضوع تتخذّ هذا الجانب الإنسانيّ الذّاتيّ الذّي صاغ الواقع في شكل أيقونة متمردّة، ترفض أن تُأسر تحت قيد العادة والتّقليد لتّتخذ لها مشهدًا جديدًا مُغايرًا، وهنا توّقفنا لنتأمّل في مقالات متعدّدة ومشارب بحث متفرّقة تصف الصُّورة على أنّها أصبحت نُمرودًا ثائرًا. 

وصفت الصُّورة "بالنُّمرود" أي أنّ لها قدرات خارقة على النّفاذ والتأثير، فتتحوّل بذلك إلى سلطة مهيمنة، تساهم في صناعة الذوق وغرس الأفكار، كيف خلصت إلى هذا الوصف؟

تشكّلت مُفارقات الكتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" في البداية انطلاقًا من كون أنّ الصُّورة في طرق بنيانها ونظمها وقياساتها أخذت توّجهًا جديدًا ولاحظنا خاصّة في فترة ما بعد الثّورة التّونسيّة انقلابًا لموازين القياس التّركيبيّ فالصُّورة أصبحت بناء متضاربًا مع التّقليد وغريبًا من المنحى البصريّ، وأصبحنا نتطلّعُ كلّ يوم إلى أيقونات محدثةٍ ونتطّلع لترسانةٍ من المتناقضات، فاكتشفنا مثلاً عبر ثورات العالم الفوكسية والويكيليكس والأنونيموس وانعكاسها على المدّ العربيّ، وسجّلنا أنّ الفعل الثّوريّ أصبح مُزدوجًا ثنائيًّا، فهو من جهة يُعبر عن الثّورة ومن جهة ثانية ثائرٌ متمرّدٌ على التّقليد، ومن هنا جاءت تسمية الكتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة"، وكلمة النّمرود في أصلها تعود "لكوش بن حام بن نوح "وهو أوّل ملك حكم بابل وعُرف بقوته وجبروته، وتمثّلنا موضوع الكتاب بمثاله.

ريم الزياني لـ"الترا تونس": في كتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" نفتح أقواسًا حول ثورة الجداريّات وحديث الشّارع الليليّ وثقافة الغرافيتي

متى تُصبح الصُّورة وسيلة من وسائل التعبير؟

الصُّورة هي في الحقيقة تحتوي العالم وتختصره قال عنها آبل جانس "لقد أقبل عصر الصُّورة" وقال عن تغيّر مفهومها الاستاذ محمود حسن "حلّت ثقافة الصُّورة محلّ ثقافة الكلمة". نعم نحن اليوم في عصر قال عنه المفكر المغربي عبد السّلام بن عالي "يُمجدّ الصّورة مقابل المحتوى، والشّكل بدل المضمون والمظهر عوض المخبر والمبنى محلّ المعنى، والظاهر مكان الباطن"، ووفقًا لهذا التّصويت المُشرّف في حقِّ الصُّورة أصبح لنا شرعيّة القول بل الجزم بأنّ الصُّورة لم تعد وسيلة للإعلام على الخبر بل هي الخبر والمُخبر، العلنُ والسِرّ، القلب والقالب، الصياغة والبنية. وفي الحقيقة وبحكم اختصاصنا المتعلّق بمبحث الصّورة ومساءلة بنائها والغور في مفاصلها وأجزائها ما يمكّننا بالتّدريج بأن نقف على أنّ الصُّورة اليوم أصبحت تُغيّر موقف الرّأي العامّ وتُسيّر توّجهاته الشرائيّة وتُؤثّر في تفكير الأمم وتُثير هموم النّاس وتُحيّر شُعوبًا وتدفع إلى قيام تظاهرات وانتفاضات، وهذا ما ييسر عمليًّا فهمنا على أنّها حافزٌ شرطيٌّ يُعلن ويُثير ويدفع ويُحرّك. فالصُّورة تتعالى عن الخبر الشّفويّ والسّمعيّ إلى إقرار بصريّ مؤكِّد للحقيقة لا يُنازع على قيامه أحد، وهنا يُعدّ التصاقها بالواقع ولزومها بالزمن كونها مقتطفًا مثاليًّا وتماثليًّا للحقيقة، وأظّن بذلك فهي قد تجاوزت الوقوف على أنّها وسيلة للتّعبير فحسب. 

اقرأ/ي أيضًا: حوار في السياسة الاتصالية لـ"داعش" مع محمد المعمري مؤلف "في كلّ بيت داعشي"

[[{"fid":"100099","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الكتاب الجديد","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الكتاب الجديد"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الكتاب الجديد","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الكتاب الجديد"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"الكتاب الجديد","title":"الكتاب الجديد","height":709,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

هل يمكن القول إن مناخ الحرّية هو الأنسب لزمن الصُّورة؟

الفِعل الصُّوريّ هو فعلٌ يرتكزُ على قاعدة هرميّة تتنزّلُ كالآتي، إذ تنتمي أوّلاً الصُّورة إلى قمّة الهرم وهو الفنّ بأشكاله وألوانه وشُروط صياغته، وتنزوي ثانيًا تحت راية الاتّصال بقياسات تحكّمه في التقبّل الاستهلاكيّ ودراسته لسُوق المعلومة المتداولة، وتُبوّب ثالثًا تحت كنف التّصميم الخطّيّ باعتبار كونها بناء وتركيبة وتشكيلة تفرضُ سياقًا موّجهًا من الحياكة المرئيّة البصريّة. وهنا تجتمع كلّ هذه الحقول التّطبيقيّة لتصنع للصُّورة هيكلاً، وتُوّفر لها أرضيّة شرعيّة وقانونيّة تُمّكنها من اجتياز رفض القارئ وإرضاء نهمه وشغفه بكلّ ما هو جديد ومُحدث.. وبما أنّ هذا الظرف التّطبيقيّ المشروط بالحرفيّة والعفويّة والخصوصيّة الفنيّة قد هيّأ للصّورة أن تكون طيّعةً في فضاء الحريّة ما جعلها تُصوّب سهامها نحو تفاعليّة حرّيةٍ بالإيجاب، فهي رجعُ صدى لكلّ المُؤثّرات السّالبة التّي تُهدّد كيان الرّأي العامّ، تُقيم الحدّ وترسم بشائر الفكر المشترك وتُقرّر الأمل في غد أفضل.

وفي كتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" نفتح أقواسًا حول ثورة الجداريّات وحديث الشّارع الليليّ وثقافة الغرافيتي ورسائل الآفاتارات الافتراضيّة عبر المواقع الاجتماعيّة التّي تسلّلت عبر قنوات البثّ العنكبوتيّ في خضّم الأحداث الثّوريّة لتتنفّس عبق الحريّة.

المخزون التّعبيري للصّورة في تونس هل يمكن القول إنّه في تغيّر يومي؟

لا أزعمُ كذبًا عندما أُعلن أنّ كتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" لم أُقرّر يَومًا ولادته، والسّر وراء وجوده هو أنّني دُعيتُ للكتابة في مجلاّت علميّة مُحكمة ومجلاّت جامعيّة ومجلاّت ثقافيّة لأسجّل قراءات بحثيّة في مفعول الصُّورة، وبذلك توالد شيئًا فشيئًا هذا الكمّ الزّاخر من الشّروح والتّحاليل والتّفاسير حول متغيّر الصُّورة، ويعود فضل ولادة الكتاب إلى أستاذي الدكتور العادل خضر، أستاذ الأدب العربيّ القديم بجامعة منّوبة، إذ توّلى مشكورًا بدعمه وفضل تأييده لمبحثي الفكريّ بدعوتي لتصميم مشروع كتاب ضمن سلسلة وشوم، قسم الميديولوجيا ... ما مكّنني حقيقة من التبصّر والتأمّل في مبحث سبع سنوات من الكتابة، لأجد مادّة دسمة صنعتها الأحداث انطلاقًا من ثورة تونس 2011، وهذا ما يجعلني أُقرّ أنّ المخزون التّعبيريّ للصُّورة في تغيّرٍ يوميّ، وسيجدُ قارئ الكتاب أنّ الكتاب يُراهن على تسجيل الزّمن الثّوريّ المتغيّر الغير قابل لا للهدوء ولا للثّبات، وهذا ما يُعطي للكتاب نزعةً تاريخيّةً أكيدةً لأنّ المتحوّل الاجتماعيّ والسيّاسيّ والحراك الإيديولوجي قد ساهم بقسط وافر في التّأثير في متمثّل الصّورة وتصوير كيانها المتمردّة النّمرودة.

ريم الزياني لـ"الترا تونس": الخطّ العربيّ هو كيان ساكن متحرّك ثابت متوّثب يركن ليسكن ويقوم ليجالس وينفذ ليتصدّر التّشكيلة

الكاريكاتير وكما يعرّفه هنري برغسون هو البحث عن الشيطان فينا أو هو الإغواء بالهزل لتمرير وإيصال الأفكار. ما هي مواصفات الكاريكاتيري؟ هل يمكن القول إنّ الكاريكاتير هو سلطة نقدية داخل المجتمع؟

ليس الكاريكاتير فقط هو حاملًا لسلطةٍ نقديّةٍ، بل كلُّ نظام بنيوي يتحدّى التّقليد ويُحاول أن يُقيم لُبسًا معنوّيًا ومفهوميًّا سواء بالإيجاب أو السّلب، وفي الحقيقة يقف كتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" على ستّة فصول تعرض في منهجيّتها هذا "الشيطان فينا" الذّي تحدّث عنه برغسون، ونبدأ أوّلاً بثورة الجدار وخروجه عن النمطيّة وحمله لرسائل مناهضة، وثانيًا نقرأ في ثورة الآفاتار وهي شُخوص افتراضيّة تحوّلت لتُصبح أيقونات تتعايش معنا واقعنا لتفضي بمكنون صدرها، وثالثًا في ثورة القناع ونقف على الأقنعة المتلبسّة لعمق ثوريّ، ونتعايش رابعًا ثورة الأيقونة لنقتحم بالتّحليل والدّرس بنائيّة الصّورة ونفّك رموزها، ونصل خامسًا إلى ثورة القلم وخروجه عن المألوف بالرّفع من معدّل الهزل والضرب بموّشح السّخريّة لتضخيم الحسّ الثّوريّ الجماعيّ، وانتهينا سادسًا إلى ثورة الحرف وضربه للقاعدة الحسابيّة وتقرير هندسة مفهوميّة متغايرة.

متى تتحوّل الصُّورة إلى أيقونة؟

 سؤال في ذاته يفتحُ مقالاً للبحث، الصُّورة هي مقتطف يُحدّدُ زمنًا ومكانًا بعينهما والأيقونة هي حالة التّرميز الصُّوريّ بمفهوم الاختزال وقولبة المعقدّ وإخراجه في شكل بسيط استقرائيّ، وهنا نعود لسُّؤالك متى تُصبح الصُّورة أيقونةً، بمعنى متى تُصبح الصُّورةُ علامةً رامزةً لفترة أو حدثٍ أو إحداثٍ، هناك صُور سجّلتها الثّورة التّونسيّة والمصريّة وغيرها أصبحت سجالاً، من أمثال صورة الرّجل الذّي يحمل خبزة في شكل بندقيّة ويوّجهها للأمن أمام مقرّ الداخليّة بالعاصمة التونسية. تحوّلت هذه الصُّورة لأيقونة رامزة وعلامة إيحاء لابتكار شخصيّة الكابتن خبزة كأيقونة افتراضيّة كاريكاتوريّة حاملة لرسائل سمعيّة بصريّة، ونسردُ  صُوريًّا عديد الصّور التّي تحوّلت بمفعول الثّورة لمادّة دسمة من المخزون الذاكريّ والعلاماتيّ والسيميائيّ الرّهين بالدّرس والتّحليل، وفي خلاصة القول نؤكّد أنّ الصّورة الأيقونة تتوّلد إمّا لقيمة الحدث المُصوّر أو لطرافة ذات خُصوصيّة أو لعلامة ضاربة في الاختلاف أو لخروج عن المألوف أو لغرابة شاذة عن المعهود، وفي كلّ هذا الدّمج الغريب ننأى عمّا تعوّدنا لتقيم الصُّورة بناء ثوريًّا جديدًا يشدُّ الأنظار ويفرضُ قراءةً مستوحاةً من عمق المشهد المرئيّ، وهنا بالذات تتصعّدُ الأيقونة وتتلاشى الصّورة. 

الغرافيتي أو الرسم الإيحائي على الجدران. فنّ انتشر وراج في تونس بعد الثّورة وأصبح له جمهور يتذوقه ويتابعه. وكلّنا يذكر اهتمام عامّة التّونسيين بقضية "زواولة". لكن السّؤال الفلسفي الذّي يطرح نفسه هو من يملك الجدار؟

الجدار هو ملكٌ مُشاعٌ، ويخطئ من يعتبر أنّ جدار بيته الخارجيّ هو ملك خاصّ به، فصاحب البيت يصمّم واجهة منزله وفق كرّاس شروط متّفق حولها، ولا يستطيع الكتابة أو التّخطيط على جداره إلاّ بما يتّفق مع السّائد والمعمول به، وهنا "تنتهي حرّيتي أين تبدأ حريّة غيري" بمعنى أنّ ليس لي بالقانون حقّ اجتياز أو تنفيذ ما تُخوّله لي نفسي حتّى ولو كان على جدار بيتي، وهذا ما نُدركه جميعًا ولكنّنا لا نعترفُ به، وهنا يكمنُ خطورة الموقف وجدّيته في نفس الوقت، فنحن إن أدركنا أنّ هذا الجدار هو ملك عموميّ وحتّى لو كان تحت حوزتنا، فإنّنا نكون قد أقررنا ضمنيًّا بأنّنا نتحرّك تحت لواء المنظومة المدنيّة وشروطها، وأنّ أيّ انتهاك لحرمة الجدار يُعدُّ خروجًا عن النظام المعتمد، وهذا ما حصل فعلاً في فترة ما بعد الثّورات، حين تلاشت هيبة النُّظم المدنيّة ليحلّ محلّها خروج الجدران عن صمتها، وحملها تحت سُترة اللّيل رسائل ثوريّة مناهضة للنّظم الراهنة، فوقفنا في كتابنا "الصُّورة نُمرود الثّورة" على جداريّات بانكسي وزواولة وكذلك محاولات خطّيّة مُواطنيّة تتسّم بالعفويّة وأخرى حرفيّة تمتهنُ فعل الجرافيتي بأسلوبيّة عالية. 

ريم الزياني لـ"الترا تونس": الثّورات عادة ما تكون مدعاة لإحياء الفنون وأشكالها

الخطّ العربي هل يمكن أن يتماس مع السريالية حتى يعطي لنفسه آفاقًا جماليّة جديدة ويتخلّص من هيمنة وسطوة اللاهوت؟ 

الخطّ العربيّ هو كيان ساكن متحرّك ثابت متوّثب يركن ليسكن ويقوم ليجالس وينفذ ليتصدّر التّشكيلة، في الحقيقة لقد تجاوز الخطّ العربي السّريالية إلى تأسيس لاهوتيّة من نوع استثنائيّ، بمعنى أنّه سجّل في التّجارب المختارة تكسير القيد وتجاوز الحدّ المُناط بعهدته لينفّذ تجارب قصيّة في الحراك والاستدارة والتّزوية والتّدوير والتّقويس، إنّه قد انتقل بمنطق الفنّ من الواقعيّة التمثليّة إلى الواقعيّة المجرّدة ومنها إلى تكعيبيّة وسرياليّة ودادئيّة متعدّدة القراءات والأوجه، ولعلّ هذا ما أقلق مضجع الكلاسيكيين في المدرسة البنائيّة الحُروفيّة غير أنّه أعلن وبصريح العبارة عن طواعيّة خياليّة بلا حدود في القدرة على النّفاذ والتقوقع والتّشكل بمواصفات جودة عالية، ونحن اليوم نقف على فهم جديد وتقديرات تصوّر مُحدثة تجسّد كيان الخطّ العربيّ ما قد يمثّل ضربًا عصيًّا لمقدّساته الرّاسخة منذ القدم.

بقدر ما كانت سنوات الثّورة قاسية اجتماعيًّا واقتصاديًّا إلا أنّها كانت حانية في مستوى الفنون والتّفكير وخاصّة فنّ الصُّورة؟

ونِعم السُّؤال. ومن ثمّ فإنّ صُدور كتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" هو أكبر دليل على ذلك، فالمقال البحثيّ الذّي قدّمه الكتاب في حقل التّصميم الخطيّ أو الغرافيكيّ يُؤكّد أنّ الفترة لا تزال تعبقُ بنفس سرمديّ من الابتكار والإبداع والنّفاذ للمُستحيل. أو لنقل لما كُنّا نتوّقعه مُستحيلاً، فالثّورات عادة ما تكون مدعاة لإحياء الفنون وأشكالها، وهذا ما نشهده في جميع الفنون المُوازية من مسرح وموسيقى وشعر وسينما وغيرها، فالثّورة تصبغ المفاهيم التّطبيقيّة والصياغيّة والتّشكيليّة بروح التّغيير ورفض السّائد ما يجعلها تتمرّدُ فعلاً على ذاتها وترفض صيرورتها على شاكلتها وبالتّالي فهي تُؤسّس لبنائيّةٍ جديدة. ونحن في هذا الكتاب ذاته نُرجع مزايا تركيبته خلافًا لمضمونه لتشكيلة مختلفة من الأساتذة الجامعيين من مشارب متضاربة، نذكر منهم الأستاذ الدكتور العادل خضر أستاذ اللغة العربيّة رئيس سلسلة وشوم بالدار التونسية للكتاب وكذلك الأستاذ الدكتور جوهر الجموسيّ الباحث في علم الاجتماع والانترنت، الذّي اعتنى بتقديم الكتاب وتوضيح أقسامه وشرح أهدافه، وأنا باعتباري مختصّة في البحث في الصُّورة الخطّيّة والسّمعيّة البصريّة، نعم لقد تشكّل هذا الثالوث المختلف المنسجم معًا ليُقدّم للقارئ التّونسيّ على وجه الخصوص، والقارئ العربيّ على وجه العموم كتاب "الصُّورة نُمرود الثّورة" كمقال بحثيّ هو علامة فاصلة لتاريخ الصّورة ونمردتها في العالم العربيّ ما بعد الثّورات، وهذا ما هو إلاّ سجّلٌ حارقٌ لمفاعلات الصُّورة ومتغيّراتها قد تعقبه مناورات بحثيّة متواصلة وتنقيب في المعلومة الصُّوريّة المتوّثبة إلى ما لا نهاية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوذنة تنتفض من رماد النسيان: "مسرحي أفضل من قرطاج لكنها أحكام السياسة"

"الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش