مقال رأي
يتبنّى الرئيس التونسي قيس سعيّد مكافحة الفساد، عنوانًا أساسيًا في خطابه السياسي وفي تأسيس ممارسته وقراراته، وبغضّ النظر عن صدق نواياه، فهو يقود حربه ضد الفساد بطريقة فاسدة.
ومستويات هذا الفساد متعدّدة من بينها وفي مقدّمتها المعالجة القضائية سواء من حيث سياقها أو ممارستها. ولعلّ من المهمّ التشديد، بداية، أن الاحتجاج لا يستهدف المحاسبة بوصفها استحقاقًا لا ريب فيه بل الطريقة المتوخاة باسمها ولتحقيقها. بل يجب أن نقرّ أن تعطّل المحاسبة واستشراء الإفلات من العقاب هي مطبّات شابت سنوات انتقال ديمقراطي لم يسر في الجادّة كما ينبغي. ولكن كلّ ذلك لا يؤسس إلى إيقاف القطار وفرض سكّة جديدة لن تؤدي إلا للعودة للوراء، على نحو توظيف مكافحة الفساد لفرض تتبعات قضائية مشوبة بغياب ضمانات المحاكمة العادلة.
نقرّ أن تعطّل المحاسبة واستشراء الإفلات من العقاب هي مطبّات شابت سنوات انتقال ديمقراطي لم يسر في الجادّة كما ينبغي ولكن كلّ ذلك لا يؤسس إلى إيقاف القطار وفرض سكّة جديدة لن تؤدي إلا للعودة للوراء
المشكلة البيّنة في التتبعات القضائية المثارة بالخصوص ضد رجال الأعمال المنسوب إليهم ارتكاب جرائم فساد مالي والاستيلاء على المال العام، هو مباشرتها في ظلّ وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء المفتقد راهنًا لضمانات استقلاليته. بات القاضي، في الوضع التشريعي والواقعي الجديد، تحت ترهيب السلطة السياسية التي احترفت توجيه الطلبات العلنية والمباشرة للقضاء "لتحمّل مسؤولياتهم التاريخية" بل ترهيبهم وتهديدهم.
افتقد القضاة للمناخ الذي يمنحهم القدرة على اتخاذ قرار سليل تطبيق القانون طبق اجتهادهم، بعد معاينة أن اجتهادات زملاء لهم أدت إلى إعفاء عدد منهم، أو إيقافهم عن العمل. في خضمّ هذا المحيط السّام، يتصاعد اتخاذ القرارات التي تريدها السلطة السياسية أو على الأقل التي لا تغضبها، وذلك ما يفسّر إسهال إصدار بطاقات الإيداع بسجن الإيقاف. لا يمكن بذلك ضمان محاكمة قضائية سليمة ونزيهة.
المشكلة البيّنة في التتبعات القضائية المثارة بالخصوص ضد رجال الأعمال المنسوب إليهم ارتكاب جرائم فساد مالي هو مباشرتها في ظلّ وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء المفتقد راهنًا لضمانات استقلاليته
والمعضلة الأخرى التي تجعل المعالجة القضائية لملفات الفساد فاسدة بذاتها هي شبهة توظيفها من السلطة السياسية لإجبار رجال الأعمال المعنيين للانخراط في مسار الصلح الجزائي. وهو المسار الذي أثبت فشله حتى الساعة والحال أن الرئيس يعوّل عليه لتأمين 13500 مليار دينار وفق قوله. أتمّت لجنة الصلح عهدتها الرئيسية الممتدة طيلة 6 أشهر ثم انتهت العهدة الثانية والأخيرة في شهر نوفمبر المنقضي، ولا معلومات رسمية حول نتائج عملها، في حين أعلن رئيس الدولة عزمه تعديل المرسوم المنظّم لها.
يوجد انطباع، في أقل توصيف، أن التتبعات القضائية المتسارعة في وقت قصير غايتها إجبار المعنيين بالتتبع على القبول بالصلح بالشكل الذي تريده السلطة السياسية. والحال أن منطق الإجبار يتعارض، واقعًا، مع مفهوم الصلح بذاته. بذلك يصبح القضاء مجرّد آلية ضغط لا أكثر، وهو ما يجعل التتبعات لا تستهدف في العمق إصدار حكم قضائي عادل في نهاية المطاف، بل تخيير المنسوب إليه الجريمة بين المضي في مسار صلحي ذي إطار مؤسساتي ومضموني سياسي وإداري من جهة، أو البقاء في سجن الإيقاف ضمن مسار قضائي محكوم بترهيب السلطة السياسية دائمًا من جهة أخرى. فالمحاسبة القضائية في سياق غياب ضمانات المحاكمة العادلة تتحوّل إلى انتقام.
يوجد انطباع، في أقل توصيف، أن التتبعات القضائية المتسارعة في وقت قصير في حق بعض رجال الأعمال غايتها إجبار المعنيين بالتتبع على القبول بالصلح بالشكل الذي تريده السلطة السياسية
الفساد في مكافحة الفساد يبدأ، في الأساس، في ضرب الرقابة المتبادلة والمتوازنة بين السلط. يتعلق الأمر بالسياق السياسي المؤسساتي الذي يحكم ويسود في إطاره رئيس الدولة فوق جميع السلط والمؤسسات. وتفصيلًا ضمن هذا الجانب، أعدم رئيس الدولة هيئة مكافحة الفساد الغائبة مطلقًا عن مشهد الهيئات الوطنية بعد 25 جويلية 2021، وتأكّد إعدامها بإلغاء التنصيص عليها في دستور 2022. أدى غياب هذه الهيئة لتعطّل عديد المهام الموكلة إليها من بينها وليس أقلّها تلقّي التصاريح بالمكاسب والمصالح الذي يشمل فئات عديدة بينها القضاة وأعضاء لجنة الصلح، وهو ما يضعف وسائل الرقابة ومكافحة الفساد بوجه عامّ.
في الختام، لا يمكن ادعًاء الشفافية والنزاهة في مكافحة الفساد بطريق ملغومة بالمفاسد. الغاية لا يمكن أن تبرّر الوسيلة هنا على وجه التحديد. لأن الوسيلة متى كانت فاسدة لن تؤدي، في هذا الموضع وبشكل آلي، إلا لنتيجة فاسدة، في كل الأحوال.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"