04-مارس-2019

كشفت رواية "الطلياني" عن وجهيْن متباينيْن لليسار التونسي

 

بعد أن تناولنا في الجزء الأول من القراءة التحليلية لصورة اليسار التونسي في رواية "الطلياني" لصاحبها شكري المبخوت المعالم الأساسية لبطلي الرواية عبد الناصر وزينة، نواصل في الجزء الثاني استعراضنا لهذه الصورة من خلال التعرض لخصوصية العلاقات داخل أوساط الطلبة اليساريين زمن الرواية وتحديدًا بخصوص كيفية إدارة الخلافات والصراعات.

إذ يتّصف اليساريّ في المرحلة التلمذيّة بالجرأة والتمرّد سلوكيًا والنباهة معرفيًا، وهي خصال تجعله موضوع استقطاب من قبل النقابيين والأساتذة المتحزّبين، فيكتسب اليساريّ الناشئ شيئًا فشيئًا مهارات حجاجيّة ويمتلك القدرة على توظيف الأسلحة الكفيلة بتبكيت الأعداء وإرباكهم. هذه الأسلحة تتنامى وتتجدّد من طور النعومة الإيديولوجيّة إلى محطّة النضج الجامعيّ إلى فترة الاحتراف المهنيّ والحزبيّ والنقابيّ، فتتّخذ شيئًا فشيئًا أشكالًا أكثر تنوّعًا وأشدّ تعقيدًا وأقوى خطورة.

اقرأ/ي أيضًا: صورة اليسار التونسي في رواية "الطلياني".. نضالات وصراعات (2/1)

تهمة التحرّش وشبهة "الخْوَانْجي"

يُحسن اليساريّ منذ نعومة تجربته السياسيّة كسب معارك السيطرة والهيمنة داخل المؤسّسات، ومن الوسائل المعتمدة استثمار الشبهات الأخلاقيّة والسياسيّة. فقد جعلت الرفيقة زينة القيّمَ العامّ عاجزًا عن معاقبتها أو تأنيبها بعد اتّهامه بالتحرّش، بذلك أيقن أنّه "وقع في الشرك ولا منقذ له" (الصفحة 46)، فظلّ "مُطأطئ الرأس خائر القوى لا يعرف كيف يداري الفضيحة"، ولكي تُحقّق الاكتساح التامّ والنفوذ المطلق وتحمي نفسها من الكيد والانتقام وظّفت زينة سلاحًا أوثق وأخطر من شأنه أن يجعل خصمها منصاعًا عاجزًا مرتبكًا. إذ ردّت على المدير لمّا وبّخها لفرط تطاولها عليه: "إذن ستنتقم للقيّم العامّ... أنت خوانجي، أَعْرِفُ ذلك، تكره المرأة، وتعادي سياسة الدولة..." (الصفحة 46).

يُحسن اليساريّ منذ نعومة تجربته السياسيّة كسب معارك السيطرة والهيمنة داخل المؤسّسات، ومن الوسائل المعتمدة استثمار الشبهات الأخلاقيّة والسياسيّة

هذه التهمة السياسيّة حتّى إن كانت كيديّة مثّلت خاصّة في تسعينيات القرن العشرين مصدر ترهيب للعديد من المواطنين لا سيّما المثقفين والموظّفين، ولطالما اتّهم الإسلاميون بعض خصومهم اليساريين بالتواطؤ مع النظام في التحريض عليهم والحرص على تصفيتهم والسعي إلى استئصالهم، وهي صورة تجسّدت قصصيًا من خلال رواية "الطليانيّ". وتؤكّدها شهادات واقعيّة متعدّدة المصادر، بيد أنّ الناظر في التجربة اليساريّة يهتدي إلى أنّ الصراع الداخليّ بين أجنحة هذا التيّار السياسيّ الإيديولوجي أخطر أحيانًا من مواجهاتهم ضدّ النظار وضدّ الإسلاميين.

المناضِلة اليساريّة والطعون الأخلاقيّة

تواجه المناضِلَةُ اليساريّة ألوانًا من الإيذاء الذي يبلغ ذروته من خلال الطعون الأخلاقيّة، إذ "لم يتوان خصوم الرفيقة زينة من الإسلاميين وغير الإسلاميين من تكنيتها بعاهرة الثورة"، وقد عرف القياديّ عبد الناصر بطريقته الخاصّة أنّ من استنبط هذه الكنية طالبٌ بعثيّ ينتمي إلى الطليعة العربيّة" (الصفحة 50).

اقرأ/ي أيضًا: "أجمل الذّنوب".. جدل حول جنس المؤلف وتغريبة للطلبة التونسيين

محنة المناضلة اليساريّة التي تنهال عليها سهام فتق الشرف سواء من الرفاق أو"الإخوان" تُردّد صدى محنة المرأة المتحرّرة التي اختارت خوض المعارك المعرفيّة والإعلاميّة والنقابيّة، لذلك عاتب عبد الناصر في رواية "الطلياني" الرفيقَ البعثيَّ مصدر الكُنية الخبيثة، وذكر له أن "المرأة في مجتمعاتنا العربيّة تُهاجم في الجانب الأخلاقيّ السلوكيّ حين تقف في الفضاء العامّ ومنه الساحة الطلّابيّة لإضعاف موقعها فيه وإثنائها عن المشاركة النضاليّة أو التعبير عن آرائها الندّ للنّدّ مع الرجال" (الصفحة 51).

يمكن للتهمة الأخلاقيّة أن تتسبّب في تعطيل المسار الفكريّ لأيّ امرأة مستقلّة كانت أو يساريّة أو إسلاميّة، بيد أنّ التشبّث بالحريّة إذا تخطّى مرتبة الصفة إلى منزلة الهويّة جعل المناضلة أشدّ صمودًا، هذا شأن الرفيقة زينة فقد رفضت أن يُصادر حقّها في التعبير، فالمثقف عندها ينبغي أن" ينتقد دون حسابات"، وقد تمسّكت بهذا الاختيار رغم نصيحة عبد الناصر التي اتّخذت بعدًا ذاتيًا وموضوعيًا في قوله: "حين تنتقدين اليسار فإنّ كلامك يصبّ في مصلحة الأعداء شئت أو أبيت وبصرف النظر عن نواياك أو منطلقاتك" (الصفحة 60).

الوشاية والاندساس

كلّما أعرض اليساريّ في الوسط الجامعيّ عن الإجابات النمطيّة والانقياد الأعمى وراء التوجيهات دُعي شفويّا إلى "الانضباط" السياسيّ والنقابيّ، لكن إن واصل التفرّد وتمادى في التمرّد عن "الاصطفاف" الأعمى فكرًا وخطابًا وسلوكًا رماه الرفاق بتهم من شأنها أن تعزله وتجعله موضوع شكّ وريبة من قبل عشيرته الإيديولوجيّة. هذا شأن زينة فقد حثّها الأصدقاء والخلّان على ترك نقد الماركسيّة اللينينيّة على نحو علنيّ" (الصفحة 30)، ودعاها المقرّبون إلى الكفّ عن انتقاد اليسار الستالينيّ (الصفحة 68). وحينما تمسّكت بحريّتها في التفكير والتعبير، عمد الرفيق المحامي صاحب مكتب بباب بنات إلى بثّ إشاعة عبْر بعض الطلبة مفادها أنّها "برجوازيّة تدمّر رموز الثورة وتخدم أعداءها، وهي لا شكّ عميلة لأمن الدولة مندسّة تخدم أجندات مشبوهة" (الصفحة 68).

 إن واصل اليساري في التمرّد عن الاصطفاف الأعمى فكرًا وخطابًا وسلوكًا رماه الرفاق بتهم من شأنها أن تعزله وتجعله موضوع شكّ وريبة من قبل عشيرته الإيديولوجيّة

لا شكّ أنّ النظام كان مساهمًا في إشاعة الفتنة بين الطلبة، وكان حسب ما أثبتته بعض مُخرجات ثورة الحريّة والكرامة يجنّد طلبة يحترفون الوشاية والاندساس بين المناضلين الصادقين العفويين، غير أنّ المشهد يصبح غامضًا معقّدًا مريبًا حينما يعمد المخبرون الحقيقيّون إلى اتّهام الشرفاء، فيختلط الأمر على المتابع فيختار الإعراضَ عن الشأن السياسيّ.

فقد وقعت بين يدي الرفيق عبد الناصر على سبيل الصدفة وثيقة تؤكّد تورّط بعض القادة اليساريين في الوشاية بزملائهم، إذ وجد ورقة مرقونة كتب عليها في الأعلى "إفادة" كان محتواها واضحًا، جاء فيها: "ظهر في كليّة الحقوق تيّار سياسيّ جديد يُسمّى ب"..."، (تجنّب الكاتب التصريح) ويقف وراءه المحامي ص/ق، وهو حسب المعلومات التي قدّمها لنا المحامي المذكور موجّه ضدّ المدعو ع/ع الذي استولى على التيّار الأصليّ في كليّة الحقوق وفي الأجزاء الجامعيّة الأخرى، أفدناكم بما عندنا، ولكم سديد النظر ن.ن".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "مأزق تشايكوفسكي" لشوقي برنوصي: تأمّلات في الذات والمجتمع

العنف والتصفية

يتدرّج بعض اليساريين في إدارة الخلافات الداخليّة من القصف الأخلاقيّ إلى الطعن السياسيّ إلى العزم على التصفية الجسديّة، هذا ما خطّط له "محام بارع عرف بوقوفه إلى جانب النقابيين في المحاكمات التي أعقبت أحداث الخبز في جانفي 1984" (الصفحة 64). قال مخاطبًا عبد الناصر القياديّ اليساريّ بكليّة الحقوق: "هذه العاهرة (يقصد الرفيقة زينة) ينبغي أن تُزاح، وإن لم تكن قادرًا على ذلك سأتصرّف".

وليحثّ زينة المتمسّكة بصوتها الحرّ على الحذر، نبّهها "الطلياني" وهما في مقام مودّة وثقة وحبّ إلى أنّ كليهما مستهدف و"أنّ أولئك الأوباش قطّاع طرق لا يتورّعون عن شيء خطير" (الصفحة 75). وحينما سألته عن الأخطار الممكنة أجابها: "الأخطار الممكنة تتراوح بين مجرّد التأديب بالضرب المبرّح الذي يخلّف كدمات وخدوشًا وجراحًا وبين استعمال آلة حادّة لطعنها أو ضربها في موضع حسّاس"، وأكّد لها أنّها "مجرّد سينايوهات ممكنة بناء على ما يعرفه عن واقعة كليّة منّوبة يوم 30 مارس/ آذار من سنة 1982، وقد كان الأستاذ المحامي من المخطّطين لها (الصفحة 76).

يمكن القول إنّ المسافة بين اليساري واليساري عند الخلاف قد تصبح أبعد من المسافة بين اليساري والإسلامي

إجمالًا، يمكن القول بأنّ المسافة بين اليساري واليساري عند الخلاف قد تصبح أبعد من المسافة بين اليساري والإسلامي، وقد أكّد لنا المشهد السياسيّ بعد ثورة الحريّة والكرامة ما يمكن نعته ببداية تصدّع الأنساق الإيديولوجيّة الصنميّة وانكسار المنظومات السياسيّة المغلقة، دليل ذلك ما نشاهده من توافقات بين أحزاب بينها تاريخ طويل من العداوات والمناكفات من جهة وما نرصده من تباعد بين تيّارات تنسل من رحمٍ فكري أو عقيديّ واحد من جهة أخرى.

يمكن الإقرار، إذًا، أنّ رواية "الطليانيّ" قد ساهمت بأسلوب فنيّ في الكشف عن وجهين متباينين لليسار التونسيّ كلاهما يتطلّع إلى ضمان شروط النجاح، الأوّل يرى السلامة والبقاء في التمسّك بالأصول دفعًا للتشتّت والتمزّق، والثاني يربط النجاح بالمراجعة والتطوّر رغبة في التأقلم والانسجام مع عالم متغيّر متبدّل "حداثته سيّالة". ولعلّ محنة اليسار لا تختلف كثيرا عن محنة الإسلاميين، هي محنة التوفيق بين الثبات والتحوّل سبيلًا للبقاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كمال الرياحي: الثورة الثقافية لامرئية وما حصل لـ"بيت الخيال" عمل داعشي (حوار)

بن عمّو مؤلف "عام الفزوع": شوقي الماجري أراد تزييف تاريخ "بن غذاهم" (حوار)