27-يناير-2020

إعادة الاعتبار لمناضلين من قيادات المقاومة المسلحة التونسية عبر الكتابة التاريخية (صورة توضيحية)

 

شخصيات وقيادات مقاومة خطت اسمها من ذهب في معركة التحرير الوطني ضد الاحتلال الفرنسي، هم مناضلون أشاوس رفعوا السلاح في الجبال والمدن في شمال البلاد وجنوبها من أجل إخراج المحتّل واستقلال تونس، غير أن التاريخ الرسمي بعد الاستقلال همّشهم وتناساهم بل كانوا عرضة للملاحقات والسجون والتعذيب زمن انشقاق الحركة الوطنية قبيل الاستقلال على ضوء الصراع البورقيبي اليوسفي.

 تأتي الكتابة التاريخية ولو بعد عقود لنفض الغبار عن سيرة القياديين في المقاومة الطيب الزلاق والطيب غرسة تخليدًا لذكراهم وردًا للاعتبار إليهما

من بين هذه الأسماء، الطيب الزلاق والطيب غرسة اللذين نشطا في صفوف المقاومة المسلحة في منطقة الشمال الغربي، جمعهما إيثار الوطن والعمل على تحريره ثم عداء من سلطة "دولة الاستقلال" لاحقًا لمواقفهم السياسية، هو عداء انتهى بإعدام الأول والتنكّر للثاني في حياته بالسجن والملاحقات وبإقصاء أثره من الرواية الرسمية للتحرير الوطني بعد مماته.

ولكن تأتي الكتابة التاريخية ولو بعد عقود لنفض الغبار عن سيرة هذين البطلين المهمّشين تخليدًا لذكراهم وردًا للاعتبار إليهما في مجهود إحياء الذاكرة الوطنية زمن الاستقلال، وللتأكيد أن التاريخ يحفظ دائمًا الحقائق رغم محاولة الرواية الرسمية لطمس بعض أوجهها.

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال صالح بن يوسف.. تفاصيل جريمة دولة لم تسقط بالتقادم

الطيب الزلاق.. سيرة أول قائد مقاومة يُعدم بعد الاستقلال

"الطيب الزلاق قائد المقاومة المسلحة بالشمال الغربي التونسي" هو مؤلف للباحث في التاريخ حلمي غزواني منذ أن كان طالبًا في المرحلة الأولى بعد تأثره بالمصير المأساوي الذي انتهت به حياة القائد العسكري في صفوف المقاومة التونسية ضد الاحتلال الفرنسي.

يقول غزواني لـ"ألترا تونس" إن افتقار المكتبة التونسية لدراسة شاملة حول هذه الشخصية رغم أهمية الدور الذي قام به في الأحداث التي طبعت خمسينيات القرن الماضي، جعله يفكّر في الكتابة حول هذه الشخصية.

وولج الباحث في عمله لأرشيف وزارة العدل التونسية والرصيد الأرشيفي لمحكمة القضاء العليا ومحكمة أمن الدولة المتكون من 239 حافظة تغطي الفترة الممتدة بين 1955 و1992. ويتناول الأرشيف، حسب محدّثنا، المحاكمات السياسية في تونس ضدّ المعارضين بمختلف انتماءاتهم ومن بينها محاكمات المقاوم الطيّب الزلاق ومجموعته المكوّنة من سبعين رجلًا. 

مؤلف يرصد حياة القائد في المقاومة المسلّحة الطيب الزلاق

 

ويتنزّل هذا الكتاب في إطار الدراسات البيوغرافية وهي دراسات بدأت تلقى الاهتمام المتزايد من قبل الباحثين لدراسة شخصيات مهمّشة وينفض الغبار عن شخصيات منسيّة في إطار تاريخ المهمّشين. ويبيّن الغزاوني أن هذه الدراسات جديدة في علم التاريخ هي توجه جديد يفرض العودة لهذا التاريخ باعتبار أن "دراسة الجزء يساهم في فهم الكل".

وأكّد الباحث في التاريخ أنه "لا يمكن الطّعن بأي شكل من الأشكال في البحوث والدراسات التي تناولها أساتذة التاريخ وهي أعمال أكاديمية هامة جدًا من ناحية الزّخم التاريخي والمعلومات ولكنّها تبقى في الوقت ذاته قابلة للنقد" مبينًا أنه بالإمكان القيام ببحوث ودراسات أخرى ولكن من زوايا أخرى.

وأضاف أن التاريخ هو بحث في الإشكالية ولكلّ باحث طريقته في طرحها، مشيرًا إلى أن الموضوعية في هذا الباب غاية لا تدرك، حسب تعبيره، وأكد على ضرورة أن يضع الباحث لنفسه شروطًا للتناول، وهي أن لا يتموقع في تلك الفترة الزمنية وعدم الانطلاق من منطلقات سياسية.

حلمي الغزواني لـ"ألترا تونس": افتقار المكتبة التونسية لدراسة شاملة حول شخصية الطيب الزلاق رغم أهمية دوره في خمسينيات القرن الماضي جعلتني أفكّر في الكتابة حوله

اقرأ/ي أيضًا: الدعوات لإعادة كتابة التاريخ: إنصاف للحقيقة أم تصفية لحسابات سياسية؟

ويوّضح حلمي غزواني أنه اقتفى، في مؤلفه، أثر الطيب الزلاق منذ نشأته الأولى حتى لحظة إعدامه عبر بتسليط الضوء على الفترات التي مثّلت منعرجات حاسمة في سيرته للوقوف على أهم المحاور في حياة الرجل.

"أيها الشيخ الصعلوك بما أنك تدخّلت في ما لا يعنيك واتزعمت اللي أنت وطني مخلص في وقت إلي انت زعيم البايوعات إلى المراقب وغيره ولهذا ما عندك وين بتفلت من يديا طال الزمان أم قصر"، اقتبس الغزواني هذا المقطع من رسالة خطّها الزلاق الى الشيخ محمد بن مراد لوصف مستواه التعليمي، ولعلّ للتركيز على هذه النقطة للقائد الزلاق أبعاد اخرى، حيث رجّح الكاتب أن يكون لذلك علاقة بتجنيده القسري في صفوف الجيش الفرنسي سنة 1938 لأداء الخدمة العسكرية والمشاركة معه في الحرب العالمية الثانية بين سنتي 1939 و1945، قبل أن يؤسر سنة 1940 ويسجن بمحتشد "ستالاق 2 ب" ببولونيا.

صورة للطيب الزلاق

 

تعرّض الكتاب إلى محطات الزلاق في المقاومة وتطوّر مواقفه حسب السياق، لعلّ أبرزها الصراع اليوسفي البورقيبي الذي شقّ الحركة الوطنية منتصف الخمسينيات، لكن الكاتب ينقل شهادات تنطلق من العالم الخاص بالزلاق المقاوم لتدخل في الفضاء العام المشترك لتلك الحقبة منها تكوين الشعب اليوسفية بجهة سوق الأربعاء، ولجان الرعاية، و"صباط الظلام"، والمحاكم الاستثنائية، والاحتجاز، والتعذيب وحتى الظرفية الاجتماعية والاقتصادية بالجهة. ويتحوّل الطيب الزلاق من الشخصية الواقعية إلى النموذج والهيكل الذي تنسج معه بقية الشخصيات الاخرى والواقعية أيضًا.

كما تعرض المؤلف إلى فصول عودة الزلاق لحمل السلاح ومناصرة "الأمانيين" (نسبة للأمين العام صالح بن يوسف) منذ ديسمبر/كانون الأول 1955، ودعمه للثورة الجزائرية والعمليات المشتركة معها. لينتهي الكتاب بنهاية القائد الذي دفّعته السلطة حياته مقابل دعمه للشق اليوسفي، بإصدار حكم بإعدامه شنقًا نفّذ في غضون 7 أيام في شهر جويلية/يوليو 1956 بدعوى "المصلحة العليا للوطن"، وتعرض الباحث، في هذا الجانب، إلى أطوار محاكمته مع 70 فردًا من مجموعته. 

الطيب غرسة.. مهندس معركة "الربع ساعة الأخيرة"

في قالب السيرة الذاتية أيضًا، يسرد مؤلف "سيرة المناضل المنسي الطيب غرسة"، رحلة بحث كاتبه عادل غرس الله، الابن الأوسط للشخصية، عن سجل ذكريات والده المناضل متقصيًا أثره في ذاكرة والدته "عيشة" وأخيه "عبد المجيد"، ومراوحًا بين فصول حياة الوالد والأسرة بين جبل برقو (ولاية سليانة) والعاصمة تونس في رحلة الكفاح والحياة.

يقول غرس الله، في حديثه لـ"ألترا تونس"، إنه أراد في هذا الكتاب أنه عمل على إبراز لحظات كفاحية من حياة والده كما عاشها في الخمسينيات بسرد لجملة من مآسي طيلة ربع قرن أي من الوقت الذي انخرط فيه الطيب غرسة في الحزب الحر الدستوري التونسي في الثلاثينيات إلى أن تحول به نضاله إلى الكفاح المسلّح بجبل برقو في الخمسينيات.

يسرد مؤلف "سيرة المناضل المنسي الطيب غرسة" رحلة بحث كاتبه عادل غرس الله، الابن الأوسط للشخصية، عن سجل ذكريات والده المناضل متقصيًا أثره في ذاكرة والدته "عيشة" وأخيه "عبد المجيد"

في مراوحة بين الذاتي والموضوعي، صوّر صاحب السيرة التقاطعات بين المستوى الشخصي في علاقة بحياة الأسرة والنشاط السياسي لوالده والتضييقات من قوات المستعمر إذ علقت به بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 1942 تهمة "التآمر ضد سلامة الدولة مع شتم العَلَم المُثلّث الفرنسي".

وهو ما لم يمنعه من التنقل من قرية الى قرية ومن مدينة الى مدينة في منطقة سليانة "يدعو الناس سرًّا وعلانيّةً للصمود أمام استفزازات جنود وجندرمة الفرنسيس وعملائهم من التوانسيين"، كما ورد في المؤلف. ثم تحوّل نضاله في الخمسينيات إلى الكفاح المسلّح بعد التشاور مع المجاهد عبد القادر زروق ليشرع في ربيع 1952 في تنسيق حركة الثوار المسلّحة بجبال برقو.

وينقل الكاتب عن الراوية، الزوجة "عيشة"، إن الطيب غرسة كان "الدماغ المنسّق والمخطّط للخطوط العريضة للحركة المسلّحة بيْد أنّ القيادة التنفيذية للعمليّات المسلحة بجبل برقو كانت بيد المقاوم الشهيد سالم الورغمي بعدما كانت أوّل مرة في يد حسن العيادي". وتضيف أنه كان يرشد جماعة من الثّوار ليطلعهم على خبايا الوادي وثنايا الجبل وليعرّفهم ببعض الأهالي الموالية للمقاومة الوطنية.

الطيب غرسة هو أحد قادة المقاومة التونسية المسلحة في جبل برقو (صورة توضيحية)

 

وكان ينفذ الثوار مأموريات خاصة من شأنها عرقلة "حياة الفرنسيس" الخاصّة والعامّة فكانوا يقطعون أسلاك وأعمدة الهاتف بين مناطق عديدة بربوع سليانة بين "الرّبع" وسليانة وقعفور وبوعرادة حتّى يصعّب على سلطات الاحتلال التواصل بعضهم ببعض، وذلك كما ورد في المؤلف. وكان بيت المقاوم الطاهر غرسة بزنقة الطبيب بـ"سوق القرانة" بتونس المدينة بين 1952 و1954 مربضًا للثوار والمقاومين للاستراحة والاختباء.

اقرأ/ي أيضًا: الجرائم الفرنسية ضدّ التونسيين والثأر غير المنسي

ولم يغفل الأثر معركة جبل برقو والتي يطلق عليها "معركة الربع ساعة الأخيرة" عندما حاصرت قوات الاستعمار الفرنسي المجهزة بمدافع وأسلحة ثقيلة ومصفّحات ودبّابات وآليات حربية حديثة جبل برقو ردًا على قتل 4 جنود فرنسيين.

ويسرد المؤلف وقوع المناضل غرسة في قبضة اليد الحمراء وتعذيبه، ثم اصطدامه بالصراع التاريخي البورقيبي اليوسفي وكأنه قدر مناضلي معركة التحرير الوطني، فـ"الطيب غرسة هو الآخر طموحه في الاستقلال يصطدم بالمعاهدة البورقيبية الفرنسية التي تعطي شرعية التصرف في مصير التوانسة على الصعيد الداخلي والخارجي، وأن الدولة البورقيبية تلتزم في هذه المعاهدة بتسخير البلاد وأهلها وثروتها لفرنسا إذا ما احتاجت لذلك".

لكن الطيب غرسة بحسب ما جاء في السيرة حسم أمره بقوله: "أنا لا أريد إلاّ الجلاء التام عن أرض الوطن وبالتالي الاستقلال التّام، هذا ما كافحتُ ضد الاستعمار من أجله أكثر من نصف حياتي اليوم. إذاً فصالح بن يوسف قد يكون أصدق نضالاً من الزعيم بورقيبة الذي يتعاطف كثيراً مع من يُسميهم هو -الفرنسيون الأحرار-".

مثّل انسجام القيادي في المقاومة الطاهر غرسة مع مواقف صالح بن يوسف وقربه منه سببًا في تعرّضه للسجن والمضايقات التي وصلت إلى حد المداهمات واختطاف الأبناء والترهيب

تتشابه الأحداث فيستحضر المؤلف "العصابات التي امتهنت اختطاف وإرهاب وتعذيب واغتيال الوطنيين من مؤيدي الأمانة العامة في كامل التراب التونسي"، ويتحدث الكاتب عن "صبّاط الظلام" قرب قصبة تونس العتيقة حيث كان يدير حسن العيادي عمليات التعذيب، ومعتقل ببني خلاد بقيادة عمر شاشية، ومعتقل دار الحزب بالقصبة تحت إشراف حسين بوزيان، ومعتقل بجهة سوق الأربعاء بقيادة محجوب بن علي.

وينقل الكاتب عن أخيه عبد المجيد الذي كان أيضًا ضحية لغم زرعه المستعمر وأفقده بصره منذ الصغر، وصفه لمعتقل "صباط الظلام" الذي اقتيد إليه يوم ما وينقل ما سمعه وما نقله له مرافقه من مشاهد تعذيب في المكان، ليكون بمثابة شهادة على العصر لانتهاكات طالت أسرة مناضل ساهم في معارك التحرير ضد المستعمر الفرنسي.

إذ مثل انسجام القيادي في المقاومة الطاهر غرسة مع مواقف صالح بن يوسف وقربه منه سببًا في تعرّضه للسجن والمضايقات التي وصلت إلى حد المداهمات واختطاف الأبناء والترهيب، ودفعت بالرّجل إلى اعتزال السياسة والعودة إلى مسقط رأسه جبل برقو وخطابه إلى منجي سليم  كرد فعل على اغتيال صالح بن يوسف إلى حين وفاته الفجائية يوم 15 أوت/أغسطس سنة 1962.

هي هجرة قسرية للسياسة بسبب الممارسات القمعية للسّلطة، غيّبت الطيب غرسة عن الرواية الرسمية للحركة الوطنية وحرمته من صفة "مقاوم" قبل أن يتحصل عليها بعد حوالي 57 سنة من وفاته بموجب قرار جبر ضرر بمنح صفة "مقاوم" صادر عن هيئة الحقيقة والكرامة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطاهر بن عمار: موقّع وثيقة الاستقلال الذي غُيبت بصماته

علي الزليطني.. قصة أحد مناضلي الاستقلال المنسيين