29-يوليو-2020

الحاجة إلى التمييز بين الصراع الديمقراطي والصراع مع الديمقراطية

 

تعرف تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس منعرجُا غير مسبوق كانت انطلاقته مع انتخابات 2019. ولئن عبّرت نتائجها عن مزاج عام ينتصر للديمقراطيّة واستكمال بناء مؤسسات النظام السياسي الجديد ويدفع باتّجاه إصلاحات عميقة طال انتظارها، فإنّ ما عرفته الخطوات الأولى من تنزيل نتائج الاستحقاق الانتخابي الرابع في عمر التجربة من توتّر لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ مقدّمات لمعارك سياسيّة طاحنة تداخل فيها الصراع الديمقراطي مع الصراع المستهدف للديمقراطية وامتدّ أثرها إلى مؤسسات الدولة في الرئاسة والبرلمان والحكومة، فعطّل دورها المنصوص عليه بصريح الدستور وهدّد تواصل المسار. 

اقرأ/ي أيضًا: منها الزغرادة والباراشوك والبراميل.. السجل الجديد للسٍّباب بين الأحزاب والنواب

مستجدّات مهمّة

الحياة السياسيّة الجديدة منذ 2019 صانعةٌ للخبر، وحيويّة المسار فيما عرفه من مستجدّات مثيرةٌ، غير أنّ ثلاثة منها كانت الأهمّ في المشهد والأشدّ تأثيرًا عليه ورسمًا لوجهته. وتتمثّل في دخول الدستوري الحر إلى البرلمان، وفوز قيس سعيّد برئاسة الجمهوريّة بتفويض شعبي تاريخي، وانتخاب راشد الغنّوشي رئيسًا للبرلمان. ولم تكن أكثر التقديرات نجاحًا في تبيُّن ثوابت المشهد وانتباهًا إلى متغيّراته قادرة على تخيّل مآلات العملية السياسية ووصولها السريع إلى أقصى مستويات التوتّر وصراع النّفوذ والمواقع في أعلى مؤسسات الدولة. 

تعرف تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس منعرجُا غير مسبوق كانت انطلاقته مع انتخابات 2019

ولعلّ أكثر المتغيّرات حيويّةً علاقة قيس سعيّد براشد الغنّوشي، فلا علامة سياسيّة كانت تشير إلى ما آلت إليه من مشاحنات وردود متبادلة لا تكاد تتوقّف. فقيس سعيّد كان اختيار النهضة في الدور الثاني بعد أن سقط مرشّحها عبد الفتاح مورو في الدور الأوّل بالمرتبة الثالثة. وكانت استطلاعات الرأي تشير إلى أنّ الحالة الوحيدة التي لا يفوز فيها قيس سعيّد بالرئاسة هي عندما يكون الدور الثاني منافسةً بينه وبين عبد الفتّاح مورو. ثمّ إنّ قيس سعيّد بدا الأقرب إلى النهضة من جهة المرجعيّة التي يوحي بها خطابه. واعتُبر عند "نمط  المجتمع التونسي" ومحيطه السياسي صنيعة النهضة. وذهب الخيال السياسي ببعضهم إلى أنها قد تكون خذلت مرشّحها من أجله. فسعيّد، بتقديرهم المحكوم بملابسات الدور الأول، يقف على يمينها بمناهضة خطابه للدولة المدنيّة وحقوق المرأة ومكتسبات الحداثة.

منذ الحملة الانتخابات الرئاسيّة ظهر تقاطع قيس سعيّد والدستوري الحر في مناهضتهما المنظومة الديمقراطيّة ونظامها السياسي: الأول باسم الثورة وزخمها والثاني باسم القديم ونزوعه الذي لا يتوقّف إلى العودة والرغبة الجامحة في إيقاف التجربة. ومثّلت رئاسة راشد الغنوشي البرلمان نقطة يلتقيان عندها، رغم اختلاف الغايات. فهو عند الدستوري الحر وريثِ التجمّع خصمٌ لا يذكّر إلا بماض من الصراع ومن التنافي المتبادل ورمز لقوّة سياسيّة لا مكان لها في تونس. وهو عند قيس سعيّد ممثّلٌ لنظام سياسي هجين وديمقراطيّة تمثيليّة مفوّتة صار جزءًا من الأزمة التي تعصف بالبلاد. لذلك كان المشهد السياسي وتطوراته المتلاحقة صورة من تفاعل هذه المستجدّات الثلاثة. 

هامشيّة المرجعيّة الديمقراطيّة 

ممّا تجدر ملاحظته أن المسار الديمقراطي نجح في استيعاب أشدّ خصومه من ممثّلي النظام السابق وجرّهم إلى سقف المنظومة الديمقراطية بعد أن كانوا يستهدفونها من خارجها. وفرَض عليهم صراعا ديمقراطيًا هو جزء من مسار بناء الديمقراطية وطريق إلى تسويات تاريخية لا يمكن لهذا المسار أن يستقرّ بدونها. وكانت انتخابات 2014 نقطة تحوّل مهمّة في هذا الاتجاه ومؤشّر على انتفاء مبرّرات الصراع المستهدف للديمقراطيّة والتفرّغ للصراع الديمقراطي ومحصّله السياسي المتمثل في استكمال بناء مؤسسات النّظام الديمقراطي وتوسيع المشتركات والتنافس داخله في خدمة الصالح العام.

اقرأ/ي أيضًا: تونس في مجلس الأمن.. فرصة ثمينة أم اختبار عسير؟

بعد ثمانية أشهر من انتخابات 2019 يمكن ملاحظة انحدار مهمّ في التجربة يسهل رصده في مؤشّرات ثلاثة بارزة. أوّل هذه المؤشّرات عودة الصراع المستهدف للديمقراطيّة، إلى جانب الصراع الديمقراطي وأنّ الصراعين يدوران داخل المنظومة الديمقراطيّة وبأدواتها. والمؤشّر الثاني وهو الأخطر هو الخلط بين هذين المستويين عند القوى الديمقراطيّة. وثالث هذه المؤشرات هامشيّة المرجعيّة عند الأحزاب الديمقراطيّة. من ذلك أنّ استهداف مؤسسة البرلمان بتعطيل سيرها الطبيعي لا يمكن أن ينزّل إلا ضمن الصراع المستهدف للديمقراطيّة وشروطها، ومن ناحيّة أخرى تمثّل أخطاء رئيس مجلس النوّاب في تسييره مكتب المجلس والتي يكاد يقوم عليه إجماع مستوى من مستويات الصراع الديمقراطي. ولكنّ الذي نرى هو الخلط بين هذين المستويين. ولو افترضنا جدلًا أنّ خلافًا جدّ بين نائبين عن التيّار الديمقراطي وحركة النهضة بلغ درجة التشابك بالأيدي، وأنّ خلافًا مثله جدّ بين نابين عن الدستوري الحرّ وحركة النهضة فإنّ الاشتباك الأوّل لا يخرج عن الصراع الديمقراطي، في حين لا يمكن تنزيل الاشتباك الثاني إلاّ ضمن استهداف الديمقراطيّة فالدستوري رغم وجوده داخل قبّة البرلمان فإنّ لا يعترف بالديمقراطيّة والدستور وبحقّ الاختلاف. 

نجح المسار الديمقراطي في استيعاب أشدّ خصومه من ممثّلي النظام السابق وجرّهم إلى سقف المنظومة الديمقراطية

من ناحية أخرى لا يختلف موقف القوى الديمقراطيّة من توجّه الرئيس قيس سعيّد وأدائه عن موقفها من عبير وحزبها. فالرئيس سعيّد لم يخف يومًا موقفه الجذري من النظام السياسي والمنظومة الحزبيّة. ويعبّر عن وجهة نظر أوضح ما فيها غموضها. وهو لم يكتف بالعرض النظري بقدر ما مرّ إلى تنفيذ ما يعتقده من خلال مؤسسة تمّ تفويضه لقيادتها من أجل أدوار واضحة ومهمّات محدّدة أولها أن يكون رئيسًا لكلّ التونسيين لا جزءًا من صراعهم. ولم يعمل كثير من الديمقراطيين على استجلائها فقد كانت الحاجة إلى قيس سعيّد في صراعها البيني سببًا كافيًا عندها لكي تغضّ الطرف عن مساءلة هذا المشروع القريب من التصورات الأناركيّة التقليديّة والمقاربات الشعبويّة للسياسة. 

تحوّلات في طبيعة النظام السياسي 

ولا خلاف في أنّ لقيس سعيّد الحق الكامل في بلورة تصوّر مختلف عن السائد. وإنّ كثيرين مثله لا ينظرون بعين الرضا إلى الديمقراطية التمثيليّة الحاليّة وضرورة تطويرها إلى تجربة تشاركيّة تدمج أوسع الفئات التي همّشتها الدولة الوطنية وفشلت في إدماجها وجعلت منها ظلالًا لها. ولكنّ الأصل في الثقافة الديمقراطيّة والأخلاق السياسيّة أن يكون تنفيذ الفكرة وتحويلها إلى سياسة واختيارات ومواقف وبرامج يكون بعد تزكيتها بالاختيار الشعبي الحرّ. وهذا متاح في المنظومة الديمقراطيّة نفسها. 

منذ سقوط حكومة الجملي صار التنافس الذي تطوّر إلى صراع بين الحزب الأول ورئيس الجمهوريّة. وعرف صراعهما مع أزمة حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة طورًا جديدًا مجاله الصراع على "عهدة التكليف" وصل إلى حدّ قطع الطريق المتبادل الحركة والرئيس. وعلى قاعدة هذا الصراع قام فرز جديد يتّجه إلى أن يكون توتّرًا بين النظام شبه البرلماني والنظام الرئاسوي. ففي الأيام الأخيرة مثّل التكليف الجديد لهشام المشيشي وزير الداخليّة في الحكومة المستقيلة تحديًا عمليًا للمنظومة الحزبيّة. ورغم أنّ التكليف جاء من خارج الأحزاب وعلى أنقاض تكليف أوّل لا يختلف في علاقته بالتمثيل الحزبي وعمقه البرلماني عنه وانتهى إلى المأزق السياسي الحالي، فإنّه فُهم من قبل الأحزاب الديمقراطيّة على أنّه حلقة من حلقات صراع قيس سعيّد وحركة النهضة. وفي أحسن الأحوال هو استهداف لحزب وليس لفكرة الحزب والمنظومة الحزبيّة وأساسها الديمقراطي. 

إنّ عدم التمييز بين الصراع الديمقراطي والصراع مع الديمقراطية وتعمّد الخلط بينهما ستكون له نتائجه المباشرة في الأيّام القليلة القادمة على ديمقراطيّة تؤتى من داخلها

مرّة أخرى تطفو على سطح المشهد علاقة الأحزاب الضعيفة بالديمقراطيّة وثقافتها السياسيّة. وإذا كانت تجربة المسار الديمقراطي صمدت في وجه رياح عاتية واجهتها من خارجها (لوبيّات المصالح من هذا الخارج) وهي تكابد من أجل البلوغ بالمسار الى غاياته فإنّ عدم التمييز بين الصراع الديمقراطي والصراع مع الديمقراطية وتعمّد الخلط بينهما ستكون له نتائجه المباشرة في الأيّام القليلة القادمة على ديمقراطيّة تؤتى من داخلها. 

ليست المرّة الأولى التي يُستهدف فيها النظام السياسي الجديد، فالرئيس الباجي قائد السبسي سعى في هذا الاتجاه (نظام رئاسي)، بعد فوز حزبه نداء تونس بالرئاسات الثلاث في 2014. غير أنّ النظام الرئاسي يمثّل عنده سدرة منتهى. في حين يهدف قيس سعيّد، من خلال ما يبدو من مؤشّرات، إلى نظام رئاسوي هو ليس أكثر من أداة نحو انتظام أفقي شعبوي غامض.   

ففي جولات السجال السياسي الأخير، ومع التكليف الجديد يعرف النظام السياسي شبه البرلماني انزياحًا نحو نظام رئاسوي، فقيس سعيّد هو اليوم رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة (المكلّف ليس أكثر من وزير أوّل لديه) وهو المحكمة الدستورية. ولم يكن من أصوات من الحقوقيين وخبراء القانون الدستوري والسياسيين تنبّه إلى هذا الانزياح غير مضمون العواقب إلاّ أصواتُا قليلة يمثّل القاضي أحمد صواب أصدقها لهجة وأعلقها بروح القانون ومقاصده في مرحلة دقيقة، ويمثّل عصام الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري أقواها وأكثرها التزاما بالمرجعيّة الديمقراطيّة للمسافة الحقيقيّة التي تفصله عن جهتي التجاذب. 

يعيش المشهد السياسي والبرلماني على وقع مطلب سحب الثقة من رئيس البرلمان. وهو إجراء لا يخرج عن التقاليد الديمقراطيّة البرلمانيّة لو كان جرى في سياق تمييز واضح بين الصراع الديمقراطي والصراع المستهدف للديمقراطية. لكنّه يجري في الملابسات المعلومة وهو ما يجعل من مستقبل المسار الديمقراطي واستمرار شروطه من أهمّ الانشغالات في المرحلة القادمة.

  

اقرأ/ي أيضًا:

عندما تلتقي السلفية بالشعبوية: ائتلاف الكرامة ومرونة السلفية السياسية في تونس

هل تغيّر موقف رئيس الجمهورية من المشهد الليبي؟