28-يوليو-2023
 احتجاجات في تونس ديسمبر 2022

الاستفراد بالسلطة لا يضمن النجاعة داخل الدولة ولا يضمن التنمية للشعب (صورة من احتجاجات في ديسمبر 2022/ياسين محجوب/Nurphoto)

مقال رأي 

 

اختار الرئيس قيس سعيّد، كعادته، عدم الاحتفاء بذكرى عيد الجمهورية الموافق ليوم 25 جويلية من كل عام، وذلك على طريقته في عدم الاحتفال بالأعياد الوطنية الرسمية كعيد الاستقلال أيضًا، ولكن ما كان له أن يتجاوز الذكرى الثانية لإعلانه "التدابير الاستثنائية" عام 2021 التي كانت بوّابة للانقلاب على المسار الديمقراطي بالبلاد.

الفشل الذريع في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي هو العنوان الأساسي في إثبات أن قرارات 25 جويلية 2021 لم تؤد المطلوب لدى داعميها وقتها، بل بالعكس زادت في المتاعب المعيشية للتونسيين

لكن لم يخرج سعيّد ليقدم خطابًا ليكاشف الشعب حول حصيلة سنتين من استفراده بالسلطة، بل اكتفى بجولة في حي شعبي بالسيجومي وبوسط العاصمة للاستماع إلى مشاغل الناس كما ورد في بلاغ رئاسة الجمهورية. والجملة الوحيدة ذات مضمون سياسي الواردة في البلاغ هو تأكيد رئيس الدولة أنه "لا رجوع للوراء". 

 

 

في الذكرى الثانية للانقلاب، في حال كانت الحصيلة الكارثية للسجل الحقوقي لسلطة سعيّد لا تهمّ "الشعب العريض" الذي لا تمانع فئات منه على تأكيد قابليتها بالتضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان من أجل الخبز، فإن الفشل الذريع في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي هو العنوان الأساسي في إثبات أن قرارات 25 جويلية/يوليو 2021 لم تؤد المطلوب لدى داعميها وقتها، بل بالعكس زادت في المتاعب المعيشية للتونسيين. وهذا مربط الفرس. الانقلاب لم يحلّ مشاكل التونسيين.

عديدة هي المؤشرات الدّالة على تصاعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية خلال السنتين الماضيتين من ذلك: ارتفاع نسبة التضخم بشكل قياسي من 6.4 في المائة في جويلية/يوليو 2021 إلى 9.3 في المائة في جوان/يونيو 2023 والترفيع في نسبة الفائدة المديرية مرّتين لتمرّ من 6.25 في المائة في جويلية/يوليو 2021 إلى 8 في المائة في جوان/يونيو 2023. مع تسجيل فقدان للمواد الغذائية الأساسية بشكل غير مسبوق.

عديدة هي المؤشرات الدّالة على تصاعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية خلال السنتين الماضيتين من ذلك ارتفاع نسبة التضخم بشكل قياسي مع تسجيل فقدان للمواد الغذائية الأساسية بشكل غير مسبوق

رئيس الدولة تبنى، في مواجهة مظاهر الأزمة، خطابًا مؤامراتيًا قوامه وجود لوبيات تقودها أطراف سياسية من خلف الستار لتجويع الشعب التونسي. في قضية "التآمر" مثلًا التي أثارتها السلطة ضد معارضين في شهر فيفري/شباط 2023، زعم سعيّد لدى استقباله وزيرة التجارة وقتها أن "المجرمين المتورطين في التآمر على أمن الدولة وبالإثباتات هم من يقفون وراء هذه الأزمات المتصلة بتوزيع السلع وبالترفيع في الأسعار".

والحال لا يوجد في ملف القضية ما يفيد تورّط أي معارض فيما يدّعيه رئيس الدولة. كان يسعى الرئيس للتغطية على فشله في توفير المواد الأساسية بكيل الاتهامات لـ"الخونة والعملاء" وبالاعتقالات التعسفية ضد المعارضين. هذا التوجه لا يمكن أن يدوم باعتبار أن الناس، بالنهاية، يتوجهون بالمسؤولية لمن يدير البلاد.

 

 

لم يسع سعيّد لمكاشفة الشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبأسبابها الفعلية وبالحلول الممكنة لمواجهتها. اختار، بخطابه الشعبوي، التغطية على الحقيقة والهروب للأمام. وعمل، في الأثناء، على تقديم وصفاته لتغطية العجز المالي والترويج لأحلام كبرى، ومن ذلك زعمه أن لجنة الصلح الجزائي التي استحدثها ستمكّن من توفير 13.5 مليار دينار، وهو رقم أعلنه للعموم ولا تُسنده أي دراسات أو مؤشرات علمية. عجز اللجنة على استرجاع أي مبلغ يُذكر طيلة عهدتها الأصلية الممتدة على 6 أشهر يؤكد الفشل الذريع لما كان يقدّمه سعيّد كحلّ للحيلولة دون التوجه للاقتراض الخارجي. ولا يُنتظر أن يؤدي تمديد عمل هذه اللجنة لمدة إضافية لتحقيق الرقم الذي يرجوه رئيس الدولة. 

لم يسع سعيّد لمكاشفة الشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبأسبابها الفعلية وبالحلول الممكنة لمواجهتها. اختار، بخطابه الشعبوي، التغطية على الحقيقة والهروب للأمام

المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لتحصيل قرض بقيمة 1.9 مليار دولار لم تؤد لاتفاق مع السلطات التونسية بعد رفض سعيّد برنامج "الإصلاحات" المكلفة على السلم الاجتماعية. ليس المشكل في رفض سعيّد باعتبار الشبهات الحافّة بـ"إصلاحات" لا تُرى، واقعًا، إلا كـ"إملاءات"، ولكن المشكل هو غياب استراتيجية واضحة لحكومته لتجاوز عجز المالية العمومية.

قرض صندوق النقد أهميته ليست في قيمته بل فيما يمثله من بوابة لترميم الموثوقية في المؤسسات التونسية أمام المانحين. والمشكل أيضًا أنه لا يمكن ادعاء المحدّد السيادي في مواجهة صندوق النقد أمام انهيار الجبهة الداخلية: رئيس يدير البلد لوحده ولا يستمع إلا لصدى صوته.

هذه الوضعية تجعل السلطات تحت وضعية ابتزاز لأن خياراتها محدودة. وفي هذا الجانب، يأتي الحديث عن فرصة الإيطاليين، التي يقودها اليمين الشعبوي، لتحصيل اتفاق مجز لهم في علاقة بالهجرة غير النظامية مقابل السعي لتأمين خط تمويل أوروبي. مذكرة التفاهم الممضاة بين تونس والاتحاد الأوروبي، خلال شهر جويلية/يوليو 2023، تبيّن التناقض بين خطاب سعيّد حول المعالجة الإنسانية لملف الهجرة غير النظامية وقبوله بالشروط الأوروبية خاصة ما يتعلق بالإرجاع القسري للمهاجرين وهو ما يخالف الضوابط الحقوقية الأوروبية ذاتها.

 

 

إن الدرس الأساسي لكارثية الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية لسعيّد هو أن التفرّد بالسلطة ليس ضمانة لنجاعة إدارة البلاد أولًا وللتنمية ثانيًا. دائمًا ما كانت تنتشر أصوات، في خضم الصعوبات الاقتصادية خلال الانتقال الديمقراطي، أن الديمقراطية هي سبب سوء إدارة البلد بسبب تفتت السلطة والتغول النقابي وعدم الحسم في اتخاذ القرارات اللازمة.

بمعاينة حصيلة استفراد سعيّد بالسلطة طيلة سنتين، يتبيّن أنه فشل فشلًا ذريعًا في إدارة البلاد.. الاستفراد بالسلطة لا يضمن النجاعة داخل الدولة ولا يضمن التنمية للشعب

والاتهام حينها واقعًا لممارسات المسؤولين الذين صعدوا للسلطة بآليات الديمقراطية. فكان يوجد نداء انتشر في أوساط فئات واسعة من الشعب أن الديمقراطية لن تؤدي للرفاه وبالتبعية توجد حاجة لاستعادة "الرجل الواحد" الذي يقود البلاد. وهذا ممّا يفسّر الاحتفاء الملاحظ في الشارع الشعبي بقرارات 25 جويلية، وثم بما تأكد بالمطالبة بإرساء نظام رئاسي وهو ما تبناه الرئيس في دستوره مع إخلاله بمبدأ التوازن بين السلطات.

ولكن بمعاينة حصيلة استفراد سعيّد بالسلطة طيلة سنتين والتي كان خلالها الحاكم لوحده للبلاد بعد حلّه للبرلمان وممارسته للسلطة التشريعية عبر المراسيم، يتبيّن أنه فشل فشلًا ذريعًا في إدارة البلاد. لقد تأكد أن الاستفراد بالسلطة لا يضمن النجاعة داخل الدولة ولا يضمن التنمية للشعب. 

بالنهاية، إن ما يُحرج سعيّد واقعًا هو اليقين المتصاعد لدى فئات واسعة من التونسيين أنه غير كفء وليس قادرًا على إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية، وأن الحلول التي يقدمها ليست ناجعة، وأن خطابه المؤامراتي غايته التغطية على فشله.

تاريخ تونس ينبئنا أن الحركات السياسية كانت مرتبطة بتحركات احتجاجية مبناها مطالب معيشية، وهذا ما يخشاه أي حاكم سلطوي دائمًا

فكلما استمرّ سعيّد في طريقته الحالية في إدارة البلاد كلما تراجعت شعبيته، وهي شعبية أصلًا مبناها حالة النفور العام من الطبقة السياسية الفاعلة قبل 25 جويلية 2021. تاريخ تونس ينبئنا أن الحركات السياسية كانت مرتبطة بتحركات احتجاجية مبناها مطالب معيشية، وهذا ما يخشاه أي حاكم سلطوي دائمًا. ولذلك بقدر أهمية خطاب المعارضة حول استهداف سعيّد للحريات وبنائه لنظام حكم سلطوي، فعليها أيضًا التركيز على المسألة الاقتصادية والاجتماعية لتثبت، على الأقل، أنها ملتصقة بهموم التونسيين الذين دائمًا ما تراود أغلبيتهم شكوكًا حول اهتمام السياسيين الكلاسيكيين بمشاكلهم. فالناس لا تكره الديمقراطية ولا تعاديها، ولكن تكره ببساطة أن ترى تدهورًا في أوضاعها المعيشية. 

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"