مقال رأي
طريف أن يتحوّل النقاش العام في تونس عن التداول على السلطة/المسؤولية من مجال المؤسسات الرسمية للدولة قبل الثورة إلى المؤسسات الحزبية والمدنية بعدها، فلم يعد امتحان التمديد اليوم يتمحور حول رئاسة الجمهورية بعد تحديد العهدة الرئاسية بدورتين على الأكثر مع قدم قابلية النص الدستوري للتعديل، بل بات يُطرح الامتحان، اليوم وبالخصوص، في علاقة بأهم مؤسستين في البلاد: أكبر حزب باعتبار معيار الوزن البرلماني على الأقل وهو حركة النهضة، وأكبر منظمة وطنية وأعرقها هي الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يفخر أنصاره دائمًا بالهتاف له "الاتحاد الاتحاد.. أكبر قوة في البلاد".
وطريف أيضًا أن امتحان الإدارة الديمقراطية يُطرح اليوم وبالتزامن في مؤسستين لا غرو أنهما الأكثر تأثيرًا في الحياة العامة للبلاد طيلة السنوات التسع الماضية، وكلّ منهما يدّعي، وفي بعض إدعائهما صحة، أنهما لعبا دورًا محوريًا في إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، إذ يُستذكر دور المنظمة الشغيلة في الوساطة بين الفرقاء السياسيين في أزمة 2013 ضمن الرباعي الراعي للحوار، ولا يُغبن دور النهضة في المرحلة التأسيسية وتحديدًا ما يتعلق بوضع ركائز ديمقراطية لازالت نموذجًا في المحيط العربي.
طريف أن يتحوّل النقاش العام في تونس عن التداول على السلطة/المسؤولية من مجال المؤسسات الرسمية للدولة قبل الثورة إلى المؤسسات الحزبية والمدنية بعدها
ولكن، يبدو أنه بعد مساهمتهما في هذا المسار الديمقراطي، حان الدور أمام النهضة واتحاد الشغل لممارسة هذه الديمقراطية داخلهما، وليس التداول على المسؤولية إلا اللحظة الأكثر تعبيرًا عن هذه الممارسة. غير أن بعض المؤشرات المتتالية تشير، بوضوح، إلى عسر داخل قيادة الحركتين على هذا التداول على وقع التدافعات الداخلية ومحاولات "التمديد" تارة بعنوان الاستمرارية وتارة بعنوان المصلحة العليا للمؤسسة بل ربُما يأتي الحديث عن مصلحة وطن دُفعة واحدة في بقاء فلان أو علان في قيادة المنظمة أو الحزب، بعد أن كنا نسمع عقودًا عن مصلحة هذا الوطن في بقاء القائد أو الزعيم.
اقرأ/ي أيضًا: النضج الديمقراطي التونسي.. تحية وبعد؟
حركة النهضة، التي تفاخر أنها حزب مؤسسات وأنها تُقاد بحوكمة ديمقراطية داخلية لا صوت يعلو فيها إلا صوت قرارات المؤسسات الحزبية (شورى، تنفيذي، إلخ)، حددت، منذ مؤتمرها العلني الأول بعد الثورة، في الفصل 31 من نظامها الأساسي الذي يُفاخر بأنه "دستور الحركة"، عهدة رئيس الحزب بفترتين فقط. وكان من المنتظر أن ينعقد في ماي/آيار 2020 المؤتمر الحادي عشر للحزب والذي سيُسلّم بموجبه رئيس الحركة راشد الغنوشي دفة القيادة لغيره تطبيقًا للنظام الأساسي، بيد أنه لا المؤتمر سينعقد في موعده، ولا مؤشرات تؤكد المضي نحو تغيير في قيادة الحركة خاصة بعد أن أصبح رئيسها رئيسًا للبرلمان، ولعلها "حجّة" مضافة بعنوان "توازن القيادة" بين المسؤولية الرسمية والمسؤولية الحزبية.
ولا خلاف أن حركة النهضة تعرف مناخًا داخليًا طيلة السنوات الماضية يزداد توترًا لعلّ آخر مظاهره الاستقالات المتتالية منها استقالة أمين العام زياد العذاري في علاقة بمسار تشكيل الحكومة، والقياديين الشابين هشام العريض وزيادة بومخلة، ولكن مثلت استقالة عبد الحميد الجلاصي، النائب السابق لرئيسها وعضو مجلس الشورى ولكن قبلها "رجل التنظيم"، كما يهوى للعارفين بشؤون النهضة تسميته، عنوانًا لحدّة المناخ المتوتر لرجل كان يرفع طيلة سنوات مطلب الإصلاح الداخلي ويبدو أنه لم ير بدًا من الاستمرار في الحركة التي انضم إليها منذ أربعين عامًا، بعد تكرر وعود يبدو أنه علم أن منتهاها غياب الإرادة الجدية لتغيير "حقيقي" في أساليب الحوكمة وطرق اتخاذ القرار.
وقد استحوذ هذا الجانب على النصيب الأوفر من نص استقالته المطوّلة، إذ تحدث عن "إدارة ممركزة"، و"إدارة ذاتية وعائلية للملف السياسي" و"احتكار العلاقات الداخلية والخارجية"، و"احتكار المال واستعماله أداة للتحكم والترويض والعقاب" بل تحدث عن "تلاعب بالرأي العام النهضوي". وشبّه المؤتمر القادم وفق ما يُراد الإعداد له بمؤتمر الحزب الدستوري عام 1974 حينما "تم الانقلاب على الديمقراطية داخل الحزب الأول" قائلًا: "شخصيًا لست مستعدًا لتحمل الأعباء الأخلاقية والسياسية لإعادة مؤتمر 1974". وأشار الجلاصي، إلى سيناريوهات يُعدّ لها، عن "التأبيد" و"التمديد" مضيفًا "انتهى زمن التبادل بصفقات بوتين –ميدفيديف"، وهو يشير إلى سيناريو ممكن بتغيير المواقع داخل قيادة الحزب مع بقاء عصب القيادة الحالية التي تساوم بالمال كما قال الجلاصي وهو العالم بدقائق الحزب منذ عقود.
يبدو أنه بعد مساهمتهما في هذا المسار الديمقراطي، حان الدور أمام النهضة واتحاد الشغل لممارسة هذه الديمقراطية داخلهما، وليس التداول على المسؤولية إلا اللحظة الأكثر تعبيرًا عن هذه الممارسة
اقرأ/ي أيضًا: حركة النهضة.. الانقسام المؤجّل؟
يظل السؤال، هل ستدفع هذه الاستقالة في صورة عدم التراجع عنها نحو مراجعة حقيقية لترتيبات القيادة الحالية للمؤتمر القادم وتحديدًا بخصوص الجدية ليس فقط للتداول على القيادة بل الأهم حوكمة الحزب من حيث إعادة إنتاج القرار الجمعي من داخل مؤسساته بعيدًا عن "استقواء" القيادة/الشخص بالمال أو بالعلاقات الخارجية أو بالمجموعات النافذة داخليًا، أم ستمثل هذه الاستقالة فرصة للتخفف من عبء داخلي والمضي في ترتيبات مؤتمر يُنظر إليه بأنه حاسم في تاريخ الحركة في علاقة بالمسألة التنظيمية؟
يطول الحديث، واقعًا، عن التحولات داخل النهضة طيلة سنوات ما بعد الثورة في علاقة بالتصنيفات، والاصطفافات، وموازين القوى، ودور العائلة، وفاعلية العلاقات الخارجية، ومنافذ التمويل وغيرها، ولكن قيادتها، رأسًا راشد الغنوشي والمجموعة التي تكوّنت من حوله التي تستمد نفوذها من نفوذ رئيسها فقط، أمام امتحان الديمقراطية الداخلية، وهو ليس امتحان هيّن لأن مضمونه الإجرائي هو الفصل بين مؤسس الحركة الإسلامية والمؤسسة ذاتها، وهذا امتحان سيحمل ارتدادات ليس داخليًا نهضويًا أو وطنيًا فقط، بل أيضًا في مجال أوسع في علاقة بملف إدارة الأحزاب الإسلامية.
من جهة أخرى ولكن في نفس الإطار، اتحاد الشغل، أكبر منظمة في البلاد وأكثر هياكل البلاد انتسابًا على مستوى الأفراد، يعرف بدوره امتحانًا جديًا في علاقة بالتداول على المسؤولية وتحديدًا في علاقة بالالتزام بنظامه الأساسي الذي يحدد في الفصل 20 العهدة في المكتب التنفيذي بمدة 5 سنين قابلة للتجديد مرة وحيدة فقط، وهو ما يعني أن الأمين العام الحالي نورالدين الطبوبي وقيادات بارزة منها بالخصوص بوعلي المباركي وسامي الطاهري وحفيّظ حفيّظ وسمير الشفي وآخرين سيغادرون المقر المركزي للمنظمة في ساحة محمد علي في المؤتمر القادم المنتظر تحديد موعده في أفريل/نيسان المقبل.
إن قيادة كل من حركة النهضة واتحاد الشغل أمام امتحان جدّي لإثبات ديمقراطيتهما المدعاة داخل المؤسستين، وهذا الامتحان ليس شأنًا داخليًا بهما، بل شأنًا وطنيًا يهم كل تونسي
وبدأت قيادات وطنية حاليًا تتحدث علنًا عن إمكانية تعديل النظام الأساسي للمنظمة الشغيلة، ولم يتردّد بوعلي المباركي لاعتبار أن النظام "ليس قرآنًا" بمعنى أنه قابل للتعديل في اتجاه التمديد عمليًا، وهي خطوة بدأت، في المقابل، تلقى رفضًا علنيًا من قيادات وطنية أخرى تحديدًا على مستوى الجامعات العامة إضافة للقيادات الجهوية المنشرة في مختلف مناطق البلاد، وهي ترى أن الالتزام بقانون المنظمة هو خط أحمر ضمانًا للتداول على المسؤولية وتأكيدًا أن المنظمة العريقة أكبر من أي أشخاص، في الواقع تتزايد الأسئلة حول مصالحهم ومعاملاتهم المالية طيلة سنوات المسؤولية النقابية، وهذا ملف آخر.
بالنهاية، إن قيادة كل من حركة النهضة واتحاد الشغل أمام امتحان جدّي لإثبات ديمقراطيتهما المدعاة داخل المؤسستين، وهذا الامتحان ليس شأنًا داخليًا بهما، بل شأنًا وطنيًا يهم كل تونسي، فالمسألة تتعلق في جوهرها بمدى الالتزام بالممارسة الديمقراطية بالنسبة لمؤسستين، أكبر حزب وأكبر منظمة في البلاد، يقولان إنهما مستأمنان على حماية المسار الديمقراطي في البلاد، ولا مجال، بالنسبة لنا، لتقييم هذا الاستئمان إلا بالتزامهما بالممارسة الديمقراطية في البيت الداخلي.
إن مبدأ تحديد العهدة بفترتين، المحصّن دستوريًا في علاقة بقيادة الدولة، يجب أن يسود الحياة العامة في البلاد، داخل الأحزاب والمنظمات، وأن يُحصّن هذا التحديد مهما كانت المبررّات، للتأكيد على أن القوانين والمبادئ دائمًا أكبر من الأشخاص مهما علوا. إن جوهر الديمقراطية هو الاحتكام للجماعة والتداول على المسؤولية، وأنه لا يوجد أي شخص أكبر من المؤسسة التي ينتمي إليها.
اقرأ/ي أيضًا: