27-نوفمبر-2023
الطبقة الوسطى في تونس

دراسة: الطبقة الوسطى في تونس كانت تمثل قبل 2011 حوالي 60% من المجتمع (صورة توضيحية/ الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

الترا تونس - فريق التحرير

 

خلُصت دراسة أعدّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول "مشروع ميزانية 2024 وإشكاليات الاعتماد على الذات"، إلى أنّ الطبقات الفقيرة والمتوسطة خلال سنة 2023، هي التي تحمّلت بالأساس "عبء الاعتماد على الذات"، وأنّ عدة فئات كانت ضحايا سياسة التقشف التي واصلت الدولة انتهاجها سنة 2023، فضلًا عن تراجع الطبقة الوسطى في تونس منذ 2011 إلى قرابة النصف.

دراسة: تراجعت الطبقة الوسطى في تونس بصفة ملحوظة منذ 2011، وما بقي منها أصبح يعاني من التداين وتكاليفه المجحفة من أجل الحفاظ على نفس الموقع الاجتماعي

  • الطبقة الوسطى في تونس تتراجع منذ 2011 إلى 30%

تراجعت الطبقة الوسطى في تونس، وفق الدراسة، بصفة ملحوظة منذ 2011، في ظل ضعف كبير ومتواصل لنسبة النمو واكتساح المنطق السلعي لكل مجالات الحياة والأزمة المستمرة للمالية العمومية وضغوطات التضخم المالي المستمر في مستويات عالية.. ذلك أن الطبقة الوسطى كانت تمثل قبل 2011 حوالي 60% من المجتمع وتراجعت منذ ذلك الوقت حتى أصبحت تمثل حوالي 30%، نسبة ضئيلة منها التحقت بشريحة الأغنياء التي تعززت صفوفها بـ"كناطرية" الاقتصاد الموازي الذي عرف انتعاشة مشهودة في ظل انهيار الدولة وانتشار الفساد، والنسبة الأخرى الأكبر من الطبقة المتوسطة التحقت بصفوف الشرائح السفلى الضعيفة والمعوزة، حسب الدراسة.

أما ما تبقى من طبقة وسطى، فقد أصبح يعاني من التداين وتكاليفه المجحفة من أجل الحفاظ على نفس الموقع الاجتماعي. ذلك أنه وقع تسجيل ارتفاع هام للحسابات المدينة (وهي الحسابات التي تسمح لأصحابها بالسحب بمبلغ يزيد عن المبالغ المودعة أو ما يعرف بـRouge) التي بلغت قيمتها 671 مليون دينار وذلك بالتوازي مع زيادة الديون المصنفة (creances douteuses) بـ 1466 مليون دينار مما ساهم بقدر كبير في ارتفاع قائم القروض البنكية. في المقابل تطورت الحسابات الخاصة للادخار بـ 4% فقط (نتيجة ضعف النمو والتراجع القوي للقدرة الشرائية) مما انجر عن هذه الوضعية المتسمة بالضغط على التمويلات البنكية ازدياد في شح السيولة الذي بلغ في المعدل 15546 مليون دينار نهاية السداسي الأول من سنة 2023.

دراسة: الطبقات الفقيرة والمتوسطة خلال سنة 2023، هي التي تحمّلت بالأساس "عبء الاعتماد على الذات"

  • عبء الاعتماد على الذات تحملته أساسًا الطبقات الفقيرة والمتوسطة سنة 2023

استعرض المختص في الاقتصاد، الدكتور عبد الجليل البدوي، الذي صاغ هذه الدراسة، ما وصفه بـ"التوزيع غير العادل للأعباء التي نتجت عن هذا التمشي الإرادي سنة 2023، إلى جانب هشاشة مصادر الاعتماد على الذات"، حيث أنّ نسبة كبيرة من هذا العبء تحملته الشرائح الاجتماعية ذات الدخل الضعيف والمتوسط تتصدرها فئات العاطلين عن العمل والمباشرين لأشغال هشة خاصة في القطاع الموازي. 

كما تضمّ هذه الفئات أيضًا، المتحصلين على أجور قارة لم يقع تعديلها لمواكبة ارتفاع غير مسبوق للأسعار وأخيرًا الحرفيين الصغار والمؤسسات الصغيرة والصغيرة جدًا التي كانت ضحية صدمات خارجية متتالية بدون دعم كاف من طرف السلط فضلًا عن صغار الفلاحين الذين يعانون منذ سنوات من ارتفاع مستمر لأسعار كل عناصر الإنتاج الفلاحي بالإضافة إلى استمرار الجفاف منذ خمسة سنوات متتالية، وفق الخبير.

العاطلين عن العمل والمباشرين لأشغال هشة خاصة في القطاع الموازي والمتحصلين على أجور قارة لم يقع تعديلها لمواكبة الارتفاع غير المسبوق للأسعار.. هم من بين ضحايا سياسات التقشف

تتميز كل هذه الفئات إذن، إما بغياب الدخل بسبب البطالة أو بضعف الدخل بسبب هشاشة العمل أو بدخل قار بسبب غياب القدرة أو الإرادة على تعديله، أو بدخل غير قار لكن متواضع ولم يتمكن أصحابه بتغييره قصد مواكبة متغيرات ظروف السوق ومواجهة الصدمات المتكررة نظرًا لصغر حجم مشاريعهم وقلة مواردهم ولخضوعهم لأطراف مهيمنة ومحتكرة لأنشطتهم خاصة بالنسبة للفلاحين والذين يتعاطون أنشطة في إطار المناولة، حسب الدراسة.

وتمثل كل هذه الفئات -رغم اختلاف أوضاعهم المهنية والاجتماعية- ضحايا للسياسات التقشفية التي وقع مواصلة العمل بها سنة 2023 ولو بنسق بطيء لا يستجيب لإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي. مما يجعل أن الخلاف بين الأطراف كان بالأساس حول جدولة ونسق الإصلاحات وليس حول مضمون السياسات مما يمثل نقطة ضعف هامة في مسار الاعتماد على الذات، وفق البدوي.

خلاف تونس مع صندوق النقد الدولي كان بالأساس حول جدولة ونسق "الإصلاحات" وليس حول مضمون السياسات، ما يمثل نقطة ضعف هامة في مسار الاعتماد على الذات

  • على ماذا قامت هذه السياسات التقشفية؟
  • الحد من خلق مواطن شغل خاصة في القطاع العمومي طبقًا لإملاءات الصندوق مما تسبب في استقرار البطالة في مستويات عالية وفي تنامي العمل الهش في القطاع الموازي وحسب وزارة المالية، فقد تراجع عدد الموظفين إلى 655 ألف سنة 2022 مقابل 660 ألف سنة 2021 ووصل هذا العدد إلى 659961 سنة 2023 كما واصلت نسبة البطالة استقرارها في مستويات تفوق 15%.
  • البحث عن التقليص من نسبة الأجور في القطاع العمومي وبالخصوص في الوظيفة العمومية من الناتج الداخلي الخام طبقًا كذلك لإملاءات الصندوق علمًا أن هذه النسبة قد تراجعت من 14.7% سنة 2022 إلى 14.4% محينة سنة 2023 وستبلغ 13.5% مبرمجة لسنة 2024 حسب مشروع ميزانية 2024.

الحد من خلق مواطن شغل خاصة في القطاع العمومي والبحث عن التقليص من نسبة الأجور في الوظيفة العمومية فضلًا عن تقليص النفقات العمومية هي من بين ركائز سياسة التقشف

  • العمل على تقليص النفقات العمومية ذات الإنتاجية المؤجلة المتسببة في تراجع أهم الخدمات الاجتماعية وفي تدهور جودتها (صحة، تعليم، نقل، ضمان بيئة سليمة..). علمًا أن الفئات المذكورة سابقًا تمثل أهم الفئات التي هي في حاجة أكيدة لمثل هذه الخدمات الاجتماعية نظرًا لضعف مداخيلها وعدم قدرتها على مواجهة انتشار المنطق السلعي واللجوء عند الحاجة إلى القطاع الخاص لمواجهة الانهيار الكمي والنوعي للخدمات الاجتماعية العمومية. وقد سجلت الدراسة في هذا المجال، تواصل تراجع نسبة النفقات العمومية الموجهة إلى الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم حيث تراجعت هذه النسبة من 25.8% سنة 2022 إلى 23.5% محينة سنة 2023 بالنسبة للتربية كان على التوالي من 14.8% إلى 13.4% وبالنسبة للصحة كان على التوالي من 6.8% إلى 6.3% وبالنسبة للتعليم العالي كان على التوالي من 4.4% إلى 3.8% علمًا أن سنة 2023 قد تميزت بالخصوص بتدهور فضيع للنقل العمومي أدى إلى تنامي الاستياء والاحتياجات والغضب الشعبي وإلى ايلاء رئاسة الجمهورية عناية خاصة بهذا الملف.

  • الحد من نفقات الدعم على أساس أن دعم الاستهلاك يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء. ذلك أن 20% من السكان ذوي المداخيل العالية يتمتعون ب30% من الدعم في المقابل 20% من السكان ذوي المداخيل الضعيفة لا يتمتعون إلا بـ 12% من قيمة الدعم. وعلى هذا الأساس تميزت سنة 2023 بتراجع حجم نفقات الدعم، ونسبته من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بسنة 2022. بعد أن بلغت النسبة 8.3% سنة 2022. والجدير بالذكر أن هذا المنحى التراجعي الذي يندرج ضمن إملاءات صندوق النقد الدولي رغم نسقه الضعيف إلا أن تأثيره قوي نسبيا نظرا أن نسبة الدعم في النفقات الغذائية لدى أصحاب المداخيل الضعيفة والمتوسطة مرتفعة وتفوق 20%. لذلك فإن تراجع نفقات الدعم يؤثر نسبيًا أكثر على ضعفاء الدخل مقارنة مع ذوي الدخل المرتفع نظرًا أن نسبة النفقات الغذائية من إجمالي النفقات أضعف بكثير لدى أصحاب المداخيل العالية كما أن نسبة نفقات الدعم في النفقات الغذائية ضعيفة كذلك بالنسبة لهذا الصنف الاجتماعي.

مشروع ميزانية 2024 غلب عليه الحرص على تحقيق توازنات مالية تمكن من الحد من عجز الميزانية العمومية مع اعتماد مفرط على موارد الاقتراض خاصة منها الاقتراض الخارجي

  • ميزانية 2024 دون ما يتطلبه مواصلة العمل بالاعتماد على الذات

تبرز الدراسة أنّ إعداد مشروع قانون المالية والميزانية العمومية لسنة 2024، وقع في ظرف اقتصادي صعب جدًا وفي مدة وجيزة نسبيًا. وأنّ هذا المشروع وقع تقديمه للبرلمان التونسي يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لمناقشته قبل المصادقة النهائية عليه يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول القادم، ومن خلال قراءة إجمالية تتميز هذه الميزانية بالمعالم الكبرى الآتية:

  1. هذا المشروع يندرج كسابقيه في إطار اعتماد سياسات تقشفية طبقًا لتوصيات صندوق النقد الدولي، لكن مع الحرص فى اعتماد نسق أقل من الذي يوصي به الصندوق وذلك انطلاقًا من رغبة واضحة على تفادي المزيد من تدهور الأوضاع الاجتماعية التى تبقى هشة للغاية وتبعث على الانشغال والتخوف.
  2. هذا المشروع لا ينطلق من مشروع تنموى بديل وشامل بل يكتفي بالاستناد إلى المخطط 14 المكرس لنفس الاختيارات النيوليبرالية ولنفس السياسات التقليدية مع الاكتفاء باستعراض المفاهيم الجديدة المتداولة في المجال التنموي خاصة منها مفاهيم التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر.. والتي لا يمكن العمل بها بصفة جدية بدون اعتماد سياسات انتعاش اقتصادي واختيارات طموحة تمكن من تجاوز ضعف ومحدودية منوال التنمية حالي.
  3. هذا المشروع، لم يتمكن من ترجمة الحرص على تعميق مسار الاعتماد على الذات وضبط تمشٍ إرادي شامل ومتكامل، بل غلب على هذا المشروع الحرص بالأساس على تحقيق توازنات مالية تمكن من الحد من عجز الميزانية العمومية مع اعتماد مفرط على موارد الاقتراض خاصة منها الاقتراض الخارجي الذي بقي مجهول المصادر في نسبة عالية منه.