26-أكتوبر-2023
المزارعات الناشئات في تونس

التغيرات المناخية جعلت المزارعات الناشئات يكابدن للخروج بأخف الأضرار من الجفاف وإنقاذ محاصيلهن (مريم الناصري/ الترا تونس)

 

منذ ثلاث سنوات تقريبًا، أطلقت سارة مباركي مشروعها الفلاحي الصغير في قريتها بمنطقة حيدرة من محافظة القصرين. لم يقتصر عملها على الغراسات والزراعة، بل اعتمدت في نشاطها الفلاحي على إنتاج العديد من المواد الفلاحية سواءً النباتية أو الحيوانية. 

سارة هي في الأصل خريجة إعلامية منذ ستّ سنوات. لم تنتظر الحصول على وظيفة في القطاع العمومي أو حتى الخاص. إذ كانت على قناعة بأنّ حلم الوظيفة صعب التحقق في هذا الظرف، حسب قولها. 

تبدأ يومها منذ الساعة الخامسة صباحًا، لتُخرج مواشيها باكرًا، للرعي إلى حدود الساعة السابعة، لتعود فيما بعد لتفقد غراساتها وريّها. كما تعتمد على بعض النسوة من الجهة في جمع الخضر والغلال حسب موسم كل إنتاج. 

سارة مباركي (مزارعة ناشئة): لم أتوقع أنني سأواجه بعد سنة واحدة من بعث مشروعي الفلاحي تحديات كبرى جراء التغيرات المناخية ونقص الأمطار والجفاف وها أنا اليوم مضطرة لشراء خزانات مياه لريّ الزراعات كلفة الواحد منها تناهز الـ100 دينار

لم تحتج سارة إلى أي تكوين في المجال الفلاحي، بالنظر إلى أنّها تربت في وسط ريفي تعتمد عائلتها فيه على الفلاحة لتوفير قوتها. لكنها لم تكن تتوقّع أن تواجه بعد سنة فقط من بداية مشروعها تحديات كبيرة جراء التغيرات المناخية ونقص الأمطار والجفاف، الذي أثر على أغلب المزارعين ممن تكبدوا خسائر كبيرة جراء نقص الأمطار. 

أكدت سارة أنها كانت تعول على الفلاحة البعلية، لا سيما وأن قريتها تسجل عادة نسبة مقبولة من التساقطات خلال فصل الشتاء. ولا تملك سارة في أرضها بئرًا لريّ غراساتها في حال انخفضت نسبة الأمطار. تقول لـ"الترا تونس": "حفر بئر مكلفٌ جدًا، وقد تصل كلفته إلى 10 آلاف دينار أو حتى أكثر، والأصعب من توفير المال هو الحصول على رخصة لحفر بئر، خصوصًا في هذه الفترة، نتيجة تشدد السلط في هذا الشأن بجميع الجهات من أجل الحفاظ على المائدة المائية".

وتضطر سارة اليوم إلى شراء خزانات مياه لري أشجارها، فيما خففت من مساحة زراعة الخضروات نظرًا لتكلفة المياه المرتفعة. إذ تبلغ كلفة خزان الماء الواحد 100 دينار ولا يسقي سوى قرابة خمسين شجرة مثمرة، الأمر الذي رفع كلفة الإنتاج. 

 

 

التغيرات المناخية جعلت المزارعين والمزارعات يكابدون منذ سنتين للخروج بأخف الأضرار من الجفاف وإنقاذ محاصيلهم وغراساتهم وأشجارهم المثمرة إضافة إلى مواشيهم وأبقارهم. وحدهم كبار المزارعين والمستثمرين ممن يملكون آبارًا استطاعوا مواجهة نقص مياه الأمطار والسدود. 

وبحسب وزارة الفلاحة التونسية فإن مساحة الأراضي المزروعة تصل إلى حوالي 10 ملايين هكتار. ويعتمد عدد كبير من الفلاحين على الري عبر الآبار، فيما يلجأ آخرون إلى الري بمياه الشرب، لذا أقرت وزارة الفلاحة إجراءات مستعجلة نهاية مارس/آذار الماضي من أجل التحكم في الموارد المائية، وفرضت نظام حصص ظرفي لتزويد المياه الصالحة للشرب، ومنعت استعمال مياه الشرب في ري الحدائق وغسل السيارات وفي الاستعمالات الفلاحية أيضًا.

التغيرات المناخية جعلت المزارعات الناشئات يكابدن للخروج بأخف الأضرار من الجفاف وإنقاذ محاصيلهن وغراساتهن إضافة إلى مواشيهن وأبقارهن لا سيّما المزارعات اللاتي لا يملكن آبارًا

وتسبب قطع المياه حسب نظام الحصص في تضرر مزارع الفلاحين ممن كانوا يعولون على مياه الشرب في ري زراعاتهم. إذ تشير عائشة قبلاوي صاحبة مشروع فلاحي إلى أنّها  لم تستطع منذ العام الماضي إنتاج أي زراعات بسبب قلة الأمطار وعدم امتلاكها بئرًا للري. 

وتقول عائشة في حديثها لـ"الترا تونس" إنها بعثت مشروعها الفلاحي منذ أربع سنوات بعد حصولها على تمويل  بدعم من وزارة المرأة لتشجيع النساء على بعث مشاريع خاصة. 

 

صورة
التغيرات المناخية جعلت الفلاحات الناشئات يكابدن لمجابهة الجفاف (مريم الناصري/ الترا تونس)

 

وقد خيّرت عائشة بعث مشروع فلاحي في منطقتها لا سيما وهي تعيش في  إحدى قرى سجنان في محافظة بنزرت. وتملك عائلتها أرضًا فلاحية، فاستثمرت التمويل في زراعة بعض النباتات العطرية والخضر والعديد من الغراسات التي لا تحتاج إلى تكوين فلاحي. كما ركزت بعض بيوت تربية النحل لإنتاج العسل خاصة وأنّ أرضها جبلية وتتوفر على مراعي للنحل. 

لكن كغيرها من الفلاحات الناشئات، واجهت عائشة منذ سنتين مشكل التغيرات المناخية وأزمة نقص مياه الأمطار، خاصة وأنّها تعيش في منطقة مرتفعة ولا يوجد بمقربة منها أي سد أو بحيرة للتزود بالماء، كما لا تتوفر أرضها على أي بئر، فأغلب الفلاحين في تلك الجهة يعتمدون بالأساس على الأمطار خلال الشتاء والري بمياه الشرب خلال فصل الصيف. 

تسبب قطع المياه حسب نظام الحصص الذي أقرته وزارة الفلاحة من أجل التحكم في الموارد المائية في تضرر مزارع الفلاحين ممن كانوا يعولون على مياه الشرب في ري زراعاتهم 

وتؤكد محدثة "الترا تونس" أن استعمال مياه الشرب يكلفها فاتورة باهظة، فيما أدى قطع المياه خلال فترات عدّة إلى تلف محاصيلها وزراعاتها خلال فصل الصيف، مما أثر بالخصوص على النباتات التي تعتمدها لرعي النحل وإنتاج العسل.

وعلى خطى عديد الفلاحين، تضطر إلى شراء خزانات مياه بقيمة 120 دينار للخزان الواحد بمعدل مرتين في الشهر لسقي زراعاتها، لكنها قلصت من المساحة المزروعة نظرًا لارتفاع كلفة مياه الري. 

وقد أكد منسق المرصد التونسي للمياه علاء المرزوقي لـ"الترا تونس" أنّ "الجفاف الذي تسبب في تراجع حاد في منسوب مياه السدود أثر بشكل كبير على جميع الفلاحين في كل الجهات خصوصًا المناطق الأكثر جفافًا"، مرجحًا أنّ "هذا الوضع قد يستمرّ لسنوات نظرًا لتواصل تأثير التغيرات المناخية وتسببها في نقص الأمطار".

 

صورة
الجفاف الذي تسبب في تراجع حاد في منسوب مياه السدود أثر بشكل كبير على الفلاحين (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

وأشار المرزوقي إلى أنّ "الدولة مطالبة بوضع خطط وبرامج لمواكبة التغيرات المناخية والاستعداد لأي أزمات أخرى ومواجهة الفقر المائي الذي يعتبر اليوم مشكلًا عالميًا ولا يقتصر على تونس فقط". 

كما أكد المرزوقي أنّ "على الدولة أن تضع استراتيجية واضحة لمساعدة الفلاحين وخصوصًا الفلاحين الناشئين لمجابهة نقص المياه لما يمثله ذلك من تأثير كبير على الأمن الغذائي". 

منسق المرصد التونسي للمياه علاء المرزوقي: الدولة مطالبة بوضع خطط وبرامج لمواكبة التغيرات المناخية ومواجهة الفقر المائي ولا بدّ من وضع استراتيجية واضحة لمساعدة الفلاحين وخصوصًا الناشئين لمجابهة نقص المياه

في المقابل، أشار منسق المرصد إلى " وجود عدّة زراعات مستنزفة للثروة المائية خصوصًا زراعة الورقيات"، مؤكدًا "ضرورة وضع استراتيجية لمجابهة مشكل استنزاف المياه وخصوصًا من قبل المستثمرين الذين يعتمدون على تصدير النسبة الأكبر من الإنتاج"، وفقه.

وقد أطلقت تونس مشروعًا لمساعدة النساء على تجاوز التأثيرات المناخية في أفق 2025. وتستهدف الخطة التي أعلنت عنها وزارة المرأة إلى توفير مصادر دخل بديلة للنساء اللاتي يهدد الجفاف مصادر دخلهن، ولا سيما العاملات في القطاع الزراعي، إلى جانب مقاومة التغيرات المناخيّة من خلال تغيير السلوكيات العامة للإنسان، والتعويل على دور المرأة الفاعل في إحداث هذه التغيرات.

 

صورة
عدد العاملات في القطاع الفلاحي يفوق 600 ألف عاملة وفق وزارة الفلاحة التونسية (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

وتخطط وزارة المرأة لتمكين المرأة وتعزيز صمودها ضد التغيرات المناخية عبر مضاعفة عدد المجامع التنموية النسائية والترفيع في الاعتمادات المخصصة لبرامج التمكين الاقتصادي لأمهات التلاميذ المهددين بالانقطاع المدرسي، والدعم الاقتصادي للأسر ذات الأولويّة. كما رصدت الوزارة اعتمادات بقيمة 1.5 مليون دينار لإحداث 10 مجامع خلال عام 2023. 

وبحسب وزارة الفلاحة فإن عدد العاملات في القطاع الفلاحي يفوق 600 ألف عاملة، ويمثلن قرابة 80 بالمائة من اليد العاملة في المجال الزراعي. فيما تغيب إحصائيات دقيقة عن عدد صحابات أو باعثات المشاريع الفلاحية.