طابونة، باقات، خبز شعير أو غيرها من أنواع الخبز الموجودة في تونس تعكس علاقة وطيدة بين التونسي والخبز الذي يعتبر من أبرز العادات الغذائيّة في تونس. وهي من مخلّفات الحضارات المتعاقبة على البلد منذ القدم. فالرومان احتفوا بالخبز وتفنّنوا في صنعه وكذلك فعل قبلهم القرطاجيّون. وقد تجاوز الخبز مجرّد العادة الغذائيّة ليصبح موروثًا يرمز لثقافة استهلاك ويشير إلى فترات تحوّل في التاريخ التونسي ويلخّص أوجاع طبقات مسحوقة.
كيف تحوّل هذا الخليط من الدقيق والماء من مجرّد الاستهلاك إلى مرتبة الثقافة؟ وماهي الأسباب التي جعلته في قلب العملية السياسية في تونس؟
فكيف تحوّل هذا الخليط من الدقيق والماء من مجرّد الاستهلاك إلى مرتبة الثقافة؟ وماهي الأسباب التي جعلته في قلب العملية السياسية في فترات متفرّقة من تاريخ البلاد التونسية؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يكون الخبز محرّكًا للشعوب والثورات؟
- ماء، دقيق ونار.. الخبز مُغيّراً لنظام استهلاك البشر
في كتابه "تاريخ الخبز" ،يشرح الباحث جون آشتون كيف كان الخبز حاضرًا في فترة ما قبل التاريخ من خلال اكتشافه الذي كان بمحض الصدفة. لقد كانت لحظة اكتشاف الخبز فارقة في نظام استهلاك الإنسان البدائي. نظامٌ سيتطوّر بنسق مطّرد مع الحضارة الفرعونيّة أين أصبحت صناعة الخبز فنًّا وتنوّعت الوصفات والأشكال كما نلاحظ في مختلف المخلّفات الموجودة إلى اليوم.
يتفّق العديد من المؤرخّين أنّ الخبز من الفراعنة مرورًا بالحضارة القرطاجيّة وصولًا إلى الحضارة الرومانيّة، بات وسيلة لدراسة ملامح وتفاصيل الحياة في تلك الحقبة. لا بل إنّ أنواع الخبز وطريقة الإعداد والمكوّنات، تعكس طريقة عيش الطبقات الاجتماعية في تلك العصور. ههنا يتحوّل الخبز إلى آليّة لدراسة الحضارات وحتّى تاريخ الصراعات التي وجدت والتي كانت في أغلبها مرتبطةً أسَاساً بالبحث عن كيفيّة للبقاء.
كان الخبز في الحضارات القديمة علامة للثراء، لكن التقدّم العلمي والتطور كانا عاملان أساسيّان في دمقرطته مع تحقيق الرفاه في المجتمعات الأوروبيّة بعد الثورة الصناعيّة
ولئن كان الخبز في الحضارات القديمة علامة للثراء، فإنّ التقدّم العلمي والتطور كانا عاملان أساسيّان في دمقرطته مع تحقيق الرفاه في المجتمعات الأوروبيّة بعد الثورة الصناعيّة. والتي أتاحت تعصير عمليّة إعداد الخبز ليكون القرن العشرين هو بداية اكتشاف الخبز كما نعرفه اليوم.
من الإنسان البدائي إلى اليوم، كان تاريخ الخبز مرتبطًا في جزء منه بتونس. فهذه الرقعة الجغرافيّة التي كانت شاهدة على بزوغ وأفول العديد من الحضارات، احتفظت لنفسها بهذه العادَة الغذائيّة التي سجلت حضورها منذ قرون طويلة وصارت في كثير من الأحيان رديفة للحياة وتشبّثًا بالحقوق.
- الخبز كجزء من اليومي التونسي
يقف كمال (59 سنة) أمام المخبزة منذ الصباح ليشتري، ككل يوم، 6 باقات (الخبز الفرنسي وقد أصبحت الكلمة ضمن الدارجة التونسيّة تعني الخبز الطويل). يقول إنها حاجة عائلته اليوميّة من الخبز. ويضيف "حتّى عندما يكون الفطور أو العشاء كسكسي أو مقرونة لابدّ أن تجد الخبز حاضراً في المنزل".
يستهلك التونسيّون كثيراً من الخبز بمعدّل 70 كيلوغرامًا للفرد. وهي عادة تفسّر أسرار المطبخ التونسي الذي تأقلم على مرّ السنين ليكون الخبز فيه دائمًا مكوّنًا مهمًّا
ككمال، يستهلك التونسيّون كثيراً من الخبز بمعدّل 70 كيلوغرامًا للفرد. وهي عادة تفسّر أسرار المطبخ التونسي الذي تأقلم على مرّ السنين ليكون الخبز فيه دائمًا مكوّنًا مهمًّا. وأهميّته يمكن أن نستشّفها من أطباق كاللبلابي مثلًا. فهي خبز مفتّت يُضاف إليه المرق ومجموعة من المكوّنات الأخرى.
في شهر رمضان تبرز أيضًا ظاهرة تبذير الخبز التي يتحدّث عنها الإعلام التونسي سنويًّا. ولكنّ هذه الظاهرة تعكس حالة نفسيّة للتونسي الذي يربط استقراره وأمنه الغذائي بالخبز. ففي شهر الصيام، تُضاعف كميّات الخبز وكأنّ التونسي يستبطن عمليّة امتناعه عن الطعام ليوم كامل ويعوّض ذلك من خلال شراء كميّة أكبر من الخبز. وهذه المكانة التي يحتلها الخبز كمكوّن غذائي انعكست في الخطاب اليوميّ وباتت ركيزة أساسيّة في الاستقرار السياسي.
- مخاتلات الخبز: بين مسارب الخطاب ومطبّات السياسة
تعكس اللغة، في أغلب الأحيانِ، أهمّ ملامح شخصيّة وثقافة المتكلّم. في تونس ثمّة العديد من الأمثال التي تؤكّد مكانة الخبز في أذهان التونسيين. "الخبزة مرّة" للدلالة على صعوبة عمل أو مهنة، "يلقّط في خبزة" وتعني أنّ المعنيّ بالأمر يحاول أن يكسب قوت يومه.
البروليتاريّ يعمل يوماً كاملًَا ليتمكّن من توفير الخبز. هذه الصورة مجازيّة ولكنّها تشرح كيفيّة اشتغال التفكير إذاَ ما تعلّق الأمر بالخبز في تونس
لقد ارتبط الخبز بالبقاء عند الطبقات الكادحة. فالبروليتاريّ يعمل يوماً كاملًَا ليتمكّن من توفير الخبز. هذه الصورة مجازيّة ولكنّها تشرح كيفيّة اشتغال التفكير إذاَ ما تعلّق الأمر بالخبز. وهي مقاربة لم تستطع بعض الحكومات أن تفهمها. فقد عمدت حكومة مزالي مثلاً إلى الترفيع في سعر الخبز ممّا أدّى إلى احتقان كبير وانتفاضة سمّيت "انتفاضة الخبز" سنة 1984. كذلك حصل في الثورة التونسيّة عندما نزل العديد من المواطنين حاملين الخبز. وهي ظاهرة تناولها العديد من الباحثين بالدرس وأكدوا قيمة الخبز في المجتمع التونسي.
ما تعيشه البلاد التونسيّة من أزمة اقتصاديّة هذه الأيام أعاد الحديث عن الخبز مجدّدًا بالمعنى المجازيّ والحرفي للكلمة. فندرة المواد الأساسيّة فتحت الباب أمام نقص في كميّات الخبز في فترات متباعدة نسبيًّا. وعاد شبح الاضطرابات ليخيّم على الشارع التونسي في غياب أو نقص هذا المكوّن الأساسي الذي تدعمه الدولة منذ عقودٍ طويلةٍ.
ندرة المواد الأساسيّة فتحت الباب أمام نقص في كميّات الخبز في فترات متباعدة نسبيًّا وعاد شبح الاضطرابات ليخيّم على الشارع التونسي
- قيس سعيّد ومسألة الدعم: الخبز حجر عثرة أمام منظومة نيوليبراليّة؟
منذ بداية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، كانت حكومة نجلاء بودن تتهرّب من مسألة الدعم المطروحة من طرف الصندوق. والتي تعتبَر عَصَب الدولة الراعية كما تمّ إرساؤها منذ ستيّنيات القرن الماضي. تتمثّل هذه الإشكاليّة أساسًا في أنّ المواد المدعّمة كالخبز تثقل كاهل الدولة لأنّها لا تصل فعلًا إلى مستحقّيها إذ تقتني جميع الطبقات الخبز بنفس السعر (200 ملّيم).
وقد عجزت حكومة نجلاء بودن عن إيجاد حلول لتوجيه الدعم ذلك أنّ الإشكال الأساسي يتمثّل في تدهور القدرة الشرائيّة للمواطنين وتفقير الطبقة المتوسّطة. فباتت الإجابة عن سؤال من يستحقّ الدعم فعليًّا أمراً صعبًا للغاية.
الخبز المدعوم هو بمثابة صمّام الأمان وآخر معاقل الدفاع عن الدولة الراعية
أمام هذه المطبّات، يعتبر العديد من المراقبين للشّأن التونسي أنّ الخبز المدعوم هو بمثابة صمّام الأمان وآخر معاقل الدفاع عن الدولة الراعية لأنّ رفع الدعم بدأ فعليًّا مع تزايد أسعار المحروقات وبداية الحديث عن زيادات قادمة تطبيقاً لتوجيهات صندوق النقد الدولي.
لطالما كان الخبز محرّكًا للثورات في تاريخ تونس الحديث. وأمام أهميّة هذا المكوّن الغذائي المتجذّر في عادات التونسيّين، بات الرئيس التونسي قيس سعيّد في إحراج حقيقي لأنّه كان يشير في خطاباته إلى الجانب الاجتماعي الذي يُلقَى على عاتق الدولة. في حين أنّ الحكومة التونسية تتخّذ مجموعة من الإجراءات التي تمسّ من قوت المواطن وتقترب من الخطوط الحمراء التي كلّما تجاوزتها السلطة وجدت التونسيّين في الشوارع يحتجون من أجل "الخبزة".