16-نوفمبر-2019

يتبوأ العم محمد سهودة ركنًا قصيًا ليخلق من رحم الرمل والرماد "خبز الملة" (يسرى الشيخاوي/ ألترا تونس)

 

في منطقة "عنڨ الجمل" في نفطة التابعة لمحافظة توزر، يتبوأ العم محمد سهودة ركنًا قصيًا ليخلق من رحم الرمل والرماد "خبز الملة". هي النار المستعرة في الحطب التي دلتنا إلى هذا الرجل الذي يمتهن بيع هذا الخبز منذ ما يزيد عن الثلاث سنوات، وفق حديثه مع "ألترا تونس".

رجل ببشرة سمراء يختزل شمس الجنوب في ثناياها، ومن حرّها يؤوي رأيه في لحاف بلون الرمل الذي يجلس عليه ببساطة ودون تكلف. ركبتاه مثنيتان، ويداه تمسكان عصًا يداعب بها الرماد ليهيأه سكنًا لعجينة "خبز الملة" أو "خبز الرماد" كما يسميه البعض.

محمد سهودة لـ"ألترا تونس": اكتسبت عادة إعداد عجينة خبر الملة من الدقيق والطحين والماء من رعي الإبل والماعز في قلب الصحراء

 

رجل ببشرة سمراء يختزل شمس الجنوب في ثناياها (يسرى الشيخاوي/ ألترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: خبز "المجامع".. عشّ العصفور الذي يزّين مائدة عيد الأضحى

وأنت تتابع عملية خلق هذا الخبز تتضح لك معالم تسميته بـ"خبز الرماد"، فالرماد يلفه قبل أن يعانقه رمل الصحراء الساخن بفعل امتصاص حرارة الحطب قبل أن يتحول إلى رماد. وقبالة العم محمد سهودة، كومة من الحطب تحترق على شفا الرماد لتخلق له رفقة جديدة، وحول الرماد والنار ارتفع سور صغير من الآجر يحدّ به مجاله الرمزي.

رغم أن خبر الملة مدسوس في الرمل والرماد فإنه عصي على أن تعلق به ذرة واحدة منهما بعد نفضه

وعن تفاصيل صنع "خبز الملة"، يقول محدثنا إنه يعد عجينة من الدقيق والطحين والماء دون أية إضافات أخرى، مشيرًا إلى أنه اكتسب هذه العادة من رعي الإبل والماعز في قلب الصحراء. والرعاة يتوغلون داخل الصحراء بحثًا عن خصب يسد جوع الماشية، وزادهم في هذه الرحلة بعض الطحين والدقيق والماء يخلطونهم ويصنعون منهم عجينة يدسونها في رمل الصحراء بعد أن تدر النار الرماد، وحينما تجهز يشربونها مع لبن الإبل أو الماعز، وفق حديث سهودة.

وبعد تحضير العجينة، التي وضعت في إناء يحفظها ويقيها ذرات الرمل المتناثرة، يتولى شاب يساعده عجنها بضربات خفيفة بكف يده ويلقيها في سكنها الذي هيأه العم محمد سهودة. وبعد أن تسكن العجينة التي اتخذت شكلًا دائريًا إلى الرماد تتدثر به أيضًا وتُطمر بمساعدة العصا الخشبية وتبقى على تلك الحالة بين خمس وست دقائق. وشيئًا فشيئًا ينتفخ الخبز مؤذنًا باقتراب استوائه فيتهيأ صانعه إلى إخراجه من الرمل المستعر ويتلقفه الشاب الذي يساعده بمنديل وينفض عنه الرماد فتبدو "الخبزة" صافية بلون الصحراء.

شيئًا فشيئًا ينتفخ الخبز مؤذنًا باقتراب استوائه فيتهيأ صانعه إلى إخراجه من الرمل المستعر (يسرى الشيخاوي/ ألترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: عن خلق "الملسوقة".. هل جرّبت أن تصافح النار يوميًا؟

ورغم أنه مدسوس في الرمل والرماد، فإنه عصي على أن تعلق به ذرة واحدة منهما بعد نفضه، كما أن مذاقه متمايز عن مذاقات أنواع أخرى من الخبز، إنه خبز بطعم الصحراء. وخبز الملة ينضج وتفوح رائحته أثناء نفض الرماد والرمل عنه ولكن لونه لا يتغير كثيرًا، ولا تحترق جنباته، وهو ما يرجعه العم محمد سهودة إلى ما سماها بالنار "المزوزي" أي تلك النار الحامية التي تمتد إلى الرمل فيختزنها ويبثها في العجينة فيما بعد.

الرمل المستعمل لإعداد خبز "الملة" صاف من قلب الصحراء لأن الرمل المالح الموجود في بعض الأماكن يتحجر بسرعة ويعيق عملية الطهي

وأما عن الرمل المستعمل لإعداد الخبز، فيؤكد محدثنا أنه رمل صاف من قلب الصحراء لأن الرمل المالح الموجود في بعض الأماكن يتحجر بسرعة ويعيق عملية الطهي، مشيرًا إلى أنه من الضروري تغييره بين الفترة والأخرى. وفيما يخص الحطب، فهو مرعى الإبل في الصحراء يجلبونه حينما ييبس ويذهب اخضراره ويسمونه "الزينة" أو "الحماضة" والنار التي يشعلها لا تدر دخانًا.

ليكون خبز الملة بعضًا من الصحراء، فيد رجل تربى فيها وسلم ثنياها عجنت وحركت نارًا اشتعلت بحطب من رحمها وبعثت الحرارة في رمل من قلبها.

يعد محمد سهودة عجينة من الدقيق والطحين والماء دون أية إضافات أخرى (يسرى الشيخاوي/ ألترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الكرّادة".. رجال "الزقوقو" الذين لا نراهم

السياحة الأيكولوجية في تونس.. سياحة بديلة وصديقة للبيئة