مقال رأي
لعل من أهم النقاط التي اشتغلتُ عليها في كتابي "الجيوبوليتيك التونسي" (منشورات سوتيميديا، 2024) هي محورية قوى "السيولة المالية" الخليجية في الجيوسياسة العربية، لاسيما الدور السعودي في المنطقة، وكيف أصبحت محور السياسة العربية لتفتك عمليًا أدوار دول وحواضر وازنة تاريخيًا وجغرافيًا وديموغرافيًا خاصة في حالة مصر وسوريا والعراق. لا يمر أسبوع حتى نشهد خبرًا يحيلنا على ذلك. سنركز في هذا المقال على المنظور الجيوسياسي السعودي تحديدًا في الإقليم المغاربي بما في ذلك تونس.
آخر الأخبار في سياق دور دول "السيولة المالية" الخليجية خاصة السعودية في علاقة بتونس، وعلى هامش مشاركتها في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية المنعقدة بالرياض من 27 إلى 30 أفريل/نيسان الجاري، وقعت وزيرة الاقتصاد والتخطيط فريال الورغي السبعي يوم الأحد 28 أفريل/نيسان مع هاني سالم سنبل الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة (ITFC) على اتفاقية إطارية جديدة للتعاون للسنوات الثلاث القادمة بقيمة مالية بـ 1.2 مليار دولار أي ما يناهز 3.78 مليار دينار، ستخصص لتمويل واردات بعض الشركات العمومية من المواد الأساسية كالنفط الخام والمنتجات البترولية.
للإشارة فإن هذه المنظومة متفرعة عن "البنك الإسلامي للتنمية" (IsDB) ومقرها في السعودية، كما أن المساهم الأساسي فيهما أيضًا السعودية. سيوفر ذلك غطاء ماليًا يقلّل الصعوبات في دفع عقود الشراءات الخارجية بالعملة الصعبة أمام الميزانية التونسية التي تواجه عجزًا كبيرًا هذه السنة.
السعودية مع الاتحاد الأوروبي (مع دور سياسي متقدم لإيطاليا) وأيضًا الجزائر، هي دول تمثل "المظلة المالية" لتونس خاصة منذ 25 جويلية 2021
يطرح ذلك موضوع مغزى المنظور السعودي لدوره في الإقليم وخاصة تونس. نشير هنا إلى الملاحظات الأساسية التالية:
أولًا، مثلما أسلفنا القول في مقال سابق، فإن الأطراف الثلاثة، المملكة مع الاتحاد الأوروبي (مع دور سياسي متقدم لإيطاليا) وأيضًا الجزائر تمثل "المظلة المالية" لتونس خاصة منذ 25 جويلية/يوليو 2021. يطرح ذلك خاصة التنسيق الإيطالي السعودي في خصوص تونس.
كان لافتًا تصريح وزير الخارجية الإيطالي في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023: "لقد كنت في الرياض واتفقنا مع حكومة المملكة العربية السعودية على سلسلة من الإجراءات لمساعدة إفريقيا وتونس" وذلك في سياق زيارة وفد إيطالي رفيع المستوى إلى الرياض.
كانت صحف إيطالية قبل عام أشارت إلى أن رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني قد اتصلت بنظرائها السعوديين والإماراتيين للمساعدة في الدعم المالي لتونس. من الملاحظ أيضًا أن الدعم المالي السعودي حصل آخر شهر جويلية/يوليو 2023 بدعم للميزانية بقيمة 500 مليون دولار إثر الاتفاق في قرطاج منتصف نفس الشهر بين الاتحاد الأوروبي والرئيس قيس سعيّد.
نحن هنا إزاء دور سعودي تقليدي متشابك مع الدور الغربي المتوسطي وفي تنسيق مع الناتو للحفاظ على تأثير قوي في المنطقة المغاربية، ويعود إلى سنوات طويلة ومن ذلك تمويل الرياض لشراء تونس الطائرات النفاثة في مواجهة "التهديد الليبي" منتصف الثمانينات على سبيل الذكر لا الحصر.
نحن حاليًا إزاء دور سعودي تقليدي متشابك مع الدور الغربي المتوسطي وفي تنسيق مع الناتو للحفاظ على تأثير قوي في المنطقة المغاربية
ثانيًا، هناك مسوغات سعودية خاصة فيما يخص تمويل الميزانية التونسية وهي أساسًا توسيع النفوذ السعودي في ذاته وفق تصور جيوسياسي عام. فالتأثير السعودي في المنطقة عبر السيولة المالية فقط انتهى. نحن إزاء مرحلة هيمنة تتمظهر في استثمارات ضخمة داخل المجال الجيوسياسي العربي، مع تحويل الصحراء إلى وجهة جاذبية سياحية واستثمارية كونية ضخمة، عوض أن تكون منطقة طاردة، جاذبة فقط لبعض العمالة العربية. وقد عبر وزير المالية السعودي عن هذا التوجه في منتدى دافوس سنة 2023 برفضه إسناد اتفاقات صندوق النقد دون أن يكون هناك ضمان لعائدات في المقابل.
ومن ثمة أصبح أيضًا من الرئيسي توسيع مجال "التراب الوطني" إما بالحصول على مواقع سيادة جديدة أو عبر حيازة مساحات أراض واسعة للاستثمار الاقتصادي، إما بالسيطرة على تيران وصنافير مثلًا في قلب البوابة البحرية من البحر الأحمر نحو إيلات (والطريق البحري-البري الجديد نحو حيفا)، أو ببساطة بالاستثمار في مشاريع تتيح النفوذ في أراض واسعة، من ذلك مشروع "رأس الحكمة". لا يوجد حتى الآن مؤشر على مشاريع ضخمة مماثلة في تونس، لكن لن يكون من المفاجئ إن وُجدت مستقبلًا.
هناك سعي سعودي للحد من توسع النفوذ الإيراني وعدم ترك فراغات في المنطقة عمومًا، ومحاولة استعادة المبادرة في إطار مفاوضات وقف إطلاق النار وتقديم عرض سعودي شامل يزيد من شروط التطبيع
ثالثًا، هناك طبعًا السياق الخاص بالصراع العربي الإسرائيلي، وخاصة السعي السعودي للحد من توسع النفوذ الإيراني وعدم ترك فراغات في المنطقة عمومًا، ومحاولة استعادة المبادرة في إطار مفاوضات وقف إطلاق النار وتقديم عرض سعودي شامل يزيد من شروط التطبيع لكن أيضًا يجعل السعودية تقود مساره في عموم المنطقة.
وقد أشارت المجلة الإيطالية "بانوراما" في عدد 21 أفريل/نيسان 2024 حول العلاقة بين التنسيق الإيطالي-السعودي من جهة وتزايد التمويل السعودي في تونس بموجة أخرى من التطبيع يمكن أن تشمل تونس خاصة إن عاد ترامب إلى البيت الأبيض.
في اعتقادي، نحن هنا إزاء تقدير مبالغ فيه حيث وإن تجنب الرئيس سعيّد تمرير قانون تجريم التطبيع فمن الواضح عبر إصراره في خطابه على رفض التطبيع وخاصة إعلاء سقف الموقف من الصراع بالحديث عن فلسطين "من النهر إلى البحر" ومن ثمة الرفض الضمني لقرارات الأمم المتحدة خاصة منها التقسيم، من الواضح أنه لن يذهب إلى التطبيع. وسيكون مسنودًا هنا بلا ريب بحليفه وجاره الغربي الجزائر. الدور السعودي هنا يبدو في أقل الحالات بوضع مكابح كي لا تقترب إيران أكثر من المنطقة المغاربية عمومًا وتونس خاصة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"