27-أبريل-2024
إبراهيم بلغيث

المحامي إبراهيم بلغيث صاحب الدعوى المرفوعة لدى المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان التي يطالب فيها بالعودة للشرعية الدستورية

 

إبراهيم بلغيث هو محامٍ لطالما عُرف بمواقفه المدافعة عن الحقوق والحريات، وهو صاحب الدعوى المرفوعة لدى المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وقد نجح في استصدار حكم وُصف بـ"التاريخي" في شهر سبتمبر/أيلول 2022 يطالب الدولة بإلغاء الأمر الرئاسي عدد 117 والعودة للشرعية الدستورية في غضون عامين.

حول مستجدّات تنفيذ الحكم وآفاقه، وموقف الهيئة الوطنية للمحامين من تردّي الوضع الحقوقي، ومسائل أخرى، أجرينا هذا الحوار مع المحامي إبراهيم بلغيث المستقرّ حاليًا خارج تونس بسبب ما يصفه بـ"الوضع العصيب" الذي تشهده الحقوق والحريات والقضاء في الوقت الراهن.

 

  • مرّ أكثر من عام ونصف منذ استصدارك لحكم وُصف بالتاريخي يقضي بإلزام المحكمة الإفريقية للدولة التونسية بإلغاء الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 (المتضمن للتعليق الجزئي للعمل بدستور 2014 وبالخصوص لتفويض رئيس الدولة لنفسه بتولّي السلطتين التنفيذية والتشريعية عبر مراسيم) والعودة إلى الديمقراطية الدستورية في غضون عامين؟ هل من جديد حول تفاعل الجهات الرسمية بتونس مع هذا الحكم وهي المطالبة بتقديم تقارير نصف سنوية حول تنفيذه؟

قدم المكلف العام لنزاعات الدولة في حق الدولة التونسية قبيل انقضاء أجل الستة أشهر الأولى تقرير التنفيذ متمسكًا بكون الحكم أصبح غير ذي جدوى لأنّ خارطة الطريق الذي ضبطها قيس سعيّد بصدد التنفيذ وأن مجلس نواب الشعب سيصوت قريبًا على قانون المحكمة الدستورية.

وتعليقًا على ذلك، قدّمنا ردًّا لاحظنا فيه أن تقرير التنفيذ ليس حكمًا على الحكم أو جدواه إنما هو بيان للإجراءات المتخذة لتنفيذ الحكم خاصة أن ما بني على باطل فهو باطل ولا يمكن البناء على نصوص أمرت المحكمة بإلغائها بما يعني أن الدولة التونسية ترفض تنفيذ الحكم. كما أدلينا بمرسوم ميزانية الدولة الذي خصص فيه مبلغ صفر دينار للمحكمة الدستورية بما يفضح ما احتواه تقرير المكلف العام من مغالطة فضلًا عن أن الأمر يتعلق بمحكمة دستورية على معنى دستور 2014 القانون الأساسي الصادر بشأنها.

في انتظار تنصيص المحكمة الإفريقية في تقريرها السنوي إلى الاتحاد الإفريقي أن الدولة التونسية توقفت عن تقديم التقارير الدورية بالتالي امتنعت عن تنفيذ الحكم  سيصبح مجلس وزراء الاتحاد الإفريقي هو المسؤول عن اتخاذ الوسائل الكفيلة بضمان تنفيذ الحكم عملًا بالفصل 29 و30 و31 من البرتوكول الخاص بالميثاق الإفريقي لإنشاء المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب 1997 والفصل 81 من نظامها الداخلي وهو ما نعتزم متابعته ومطالبة الجهاز المختص بالاتحاد بإصدار إدانة وعقوبات ضد الأشخاص المتسببين في خروج تونس عن الديمقراطية الدستورية.

 

 

  • الحكم الصادر عن المحكمة للإشارة كان بإجماع كل قضاة المحكمة الإفريقية. هل يمكن التذكير بالخروقات والانتهاكات التي ارتكزت عليها المحكمة لإصدار حكمها؟

يتعلق الأمر أساسًا بخروقات حقوق الإنسان التالية:

  •  1/ الحق في الوصول إلى العدالة على معنى الفصل 7 و 26 من الميثاق الإفريقي والفصل 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

ويتعلق الأمر بغياب محكمة دستورية للطعن في تطبيق الفصل 80 والنصوص المنجرة عن ذلك. وغياب محكمة مختصة للطعن في اختصاص رئيس الجمهورية في إصدار جملة من الأوامر وفحواها خاصة أنّ المحكمة الإدارية كمحكمة يمكن الالتجاء إليها فقه قضائها ثابت في تبني نظرية أعمال السيادة أي أنها لا تتعهد إلا بالمقررات الإدارية، أما تلك التي تتعلق بعلاقة السلط ببعضها فتخرج عن اختصاصها، وهي في الواقع حقيقة سهلت توفر شرط استنفاذ التقاضي المحلي المشترط لقبول الدعوى.

المحامي إبراهيم بلغيث: ارتكزت المحكمة الإفريقية في حكمها على جملة من خروقات حقوق الإنسان تتعلق بالحق في الوصول إلى العدالة وبحق الفرد في المشاركة في الحياة العامة واحترام الحق في ضمانات حقوق الإنسان

  • 2/ حق الفرد في المشاركة في الشؤون العامة لبلده على معنى الفصل 13 من الميثاق و الفصل 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وما يقتضيه ذلك الحق من احترام ما أصدره الشعب من دستور وقوانين عبر ممثليه بما في ذلك مراعاة مبادئ توازي الشكليات والتسلسل الهرمي لمصادر القانون وقواعد الاختصاص من جهة والرجوع للشعب صاحب السيادة وفق القانون الانتخابي من جهة أخرى.
  • 3/ احترام الحق في ضمانات حقوق الإنسان على معنى الفصل الأول من الميثاق الإفريقي.

 

  • المادة الثلاثون من اتفاقية إنشاء المحكمة الإفريقية تلزم الدول المعنية بالامتثال للحكم خلال الفترة الزمنية المحددة. لكن هل توجد آليات ملزمة وجزاء عن عدم الامتثال؟ وهل باشرت إجراءات لتحفيز التنفيذ بصفتك صاحب الدعوى؟

لا توجد آليات ملزمة أو جزاء عن عدم الامتثال لأحكام المحكمة محددة مسبقًا على خلاف التقاضي الوطني لكن الاتحاد الإفريقي تحديدًا مجلس الوزراء هو مكلف بمتابعة تنفيذ الأحكام مفوض باتخاذ جميع الوسائل التي يراها لضمان احترام أحكام المحكمة والمسألة غير مقننة. 

إبراهيم بلغيث: ننتظر صدور التقرير السنوي للمحكمة الإفريقية لمتابعة الإجراءات أمام الاتحاد الإفريقي والعمل على أن يتخذ مجلس وزرائه قرارًا مبدئيًا ورمزيًا لمطالبة السلط في تونس بالرجوع للديمقراطية الدستورية وإلغاء النصوص الخارقة لحقوق الإنسان

وكما يمكن أن يفهم نخرج بذلك من مجال القضاء الدولي في مفهومه القانوني الضيق لتدخل عوامل قانونية تؤثر على تنفيذ الحكم طبعًا سياسية بامتياز تتعلق بنفوذ الدولة المعنية وعلاقاتها داخل مجلس الوزراء.

كما سبق وإن أشرت في الرد على السؤال الأول نعم، أنا بصدد متابعة الإجراءات، وبعد الرد على المكلف العام أنا الآن بصدد انتظار صدور التقرير السنوي للمحكمة لمتابعة الإجراءات أمام الاتحاد الإفريقي والعمل على أن يتخذ مجلس وزرائه قرارًا مبدئيًا ورمزيًا على الأقل لمطالبة السلط القائمة في تونس بالرجوع إلى الديمقراطية الدستورية وإلغاء النصوص الخارقة لحقوق الإنسان مثلما نص الحكم.

 

  • العديد توقّع أن تنسحب الدولة التونسية من ميثاق المحكمة بعد صدور الحكم ضدها، على غرار ما قامت به دول أخرى مثل تنزانيا وكوت ديفوار على النحو الذي جعل 8 دول إفريقية مصادقة اليوم على قبول اختصاص المحكمة. فهل تتوقّع انسحاب تونس من قبول الاختصاص خاصة بعد تتالي الدعاوى ضدها في الفترة الأخيرة أم لا؟

المحامي إبراهيم بلغيث: طالما لا توجد طرق إكراه على التنفيذ لا يقلق النظام القائم صدور أحكام ضده.. وقد اختار ألا يصدر عن أي من ممثليه أي تعليق بشأن المحكمة الإفريقية وأحكامها

للأسف طريقة إنتاج القرار السياسي في تونس اليوم تجعل منه كالقوة القاهرة مستحيلة الدفع والتوقع، لكن لا أعتقد أن ذلك يخدم مصالح رأس النظام الذي يطالبه الغربيون بالحفاظ على حد أدنى من مظاهر احترام حقوق الإنسان حتى يمكن أن يتعاملوا معه أمام الرأي العام لدولهم. وطالما لا توجد طرق إكراه على التنفيذ لا يقلق النظام القائم صدور أحكام ضده وقد اختار ألا يصدر عن أي من ممثليه أي تعليق بشأن المحكمة الإفريقية وأحكامها.

 

  • ظهر لافتًا أن قاضية في المحكمة الإفريقية وهي الجزائرية شفيقة بن صاولة كانت قد أعلنت في أكثر من مرّة، وعلى خلاف رأي بقية أعضاء المحكمة، دعمها لإصدار تدابير مؤقتة تقضي بتأجيل الانتخابات التشريعية المبكرة التي كانت قد انتظمت نهاية عام 2022. والمعلوم أن قضاة المحكمة يتم ترشيحهم للعضوية من دولهم والجزائر سبق أن أعلنت دعمها للسلطات في تونس منذ 25 جويلية/يوليو 2021، بل وظهرت حليفًا للرئيس سعيّد. فكيف يمكن تفسير موقف القاضية الجزائرية؟ هل يمكن الجزم أنه يعكس استقلالية قضاة المحكمة الإفريقية عن مواقف دولهم؟

 

القاضية المحترمة شفيقة بن صاولة لا تمثل الجزائر ولا النظام الجزائري أو تتبنى مواقفه. صحيح أن القضاة تختارهم وتزكيهم دولهم لكن من الخبراء في حقوق الإنسان والأكفّاء وغالبًا ما يكون أعضاء المحكمة ممّن سمعتهم ليسوا في حاجة إلى بروز أو تكوين. وعليه فالقضاة حتى وإن كانوا مزكين ومدعمين من بلدانهم فعليهم ما يعرف بواجب النكران أي لا يجب أن يعتدوا بمن عيّنهم أو انتخبهم في آرائهم.

وليست المرة الوحيدة التي يختلف فيها قاضٍ من قضاة المحكمة مع باقي الهيئة وتنشر أراؤهم المختلفة مع الحكم بما يثري النقاش القانوني وفقه قضاء المحكمة. وعمومًا قضاة المحكمة لا يتأثرون بمواقف دولهم من الأطراف المتداعية وهو ما يفسر عدم تناقض أحكام المحكمة عمومًا وإن كانت هناك تحولات فقه قضائية فهي في الغالب معللة ومتناسقة. 

 

  • تعدد الدعاوى عبر المحكمة الإفريقية في الأشهر الماضية متحفّزة من الحكم الذي كانت قد استصدرته، وهي دعاوى تعلّقت بالخصوص بالملاحقات ضد المعارضين السياسيين الموقوفين وقد صدر بالفعل أمر تدابير مؤقتة في شهر سبتمبر/أيلول 2023 بخصوص عدد من هؤلاء المعارضين. لكن أيّ نجاعة من هذه الدعاوى في ظل عدم امتثال الدولة للأحكام والتدابير الصادرة؟

التقاضي الدولي عمومًا هو تقاضٍ استراتيجي، أي أنّ نجاعته لا تقاس بمدى تطبيقه على أرض الواقع أو إذعان الدولة المعنية له، بل بالإدانة والسلطة المرجعية التي تمثلها المحكمة بما هي محكمة موضوعية مختصة في حقوق الإنسان.

إبراهيم بلغيث: التقاضي الدولي هو تقاضٍ استراتيجي، أي أنّ نجاعته لا تقاس بمدى تطبيقه أو إذعان الدولة المعنية له، بل بالإدانة والسلطة المرجعية التي تمثلها المحكمة بما هي محكمة موضوعية مختصة في حقوق الإنسان

وصدور تدابير مؤقتة أو أحكام ضد دولة هي من نوع تلك التراكمات التي تتصدى للخروقات المنهجية والآلية والتي تخلق ديناميكية محفزة للذود عن حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات. علاوة على ما لتأثير تلك الأحكام على الرأي العام الوطني والدولي باعتبار مصداقية المحكمة ومهنيتها. 

 

  • لنعد خطوة للوراء، اللجوء إلى التقاضي غير الوطني دائمًا ما يطرح مسألة أساسية بعنوان عامّ هو التدويل الذي يثيره أنصار السلطة دائمًا بمنطق المساس بالسيادة الوطنية والاستقواء بالخارج. كيف تتفاعل مع هذا الادعاء؟

التدويل مصطلح لا ينطبق على المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب لكون الأمر يتعلق بمحكمة اختارت الدولة حرصًا منها على توفير أكثر ضمانات لمواطنيها ولصون حقوقهم أن تعطي لهم الحق بمقاضاتها أمام المحكمة الإفريقية. وهي إن كانت محكمة دولية وإقليمية مختصة فهي دخلت ضمن المنظومة القضائية للدولة بمصادقة تلك الأخيرة على ولايتها وتلك المصادقة هي تعبير على السيادة الوطنية. فولاية المحكمة لم تفرض على الدولة التونسية بل الدولة التونسية بما لها من سيادة وافقت على ولاية المحكمة والإذعان لأحكامها وهو تمظهر من تمظهرات سيادة الدولة.

أما مصطلح الاستقواء بالخارج في هذه الحالة لا معنى له لأن الأمر يتعلق بمحكمة لا بمجلس أمن أو بدولة أو تحالف دول، والقول من مخلفات الشعبوية التي حاول من خلالها البعض الدفاع عن النظام القائم فتصبح السيادة هي عدم احترام الالتزامات القانونية للدولة والوطنية هي ولاء لشخص الحاكم أو نظامه وما إلى ذلك من سطحية وتحريف مما يستقيم منطقًا وقانونًا.

 

  • هل توجد علاقة بين صدور قرار المحكمة الإفريقية إثر الدعوى المرفوعة منك وقرارك بالاستقرار خارج تونس؟

لم أتخذ أي قرار للاستقرار بالخارج ولم يكن في الحسبان أن أبقى كل هذه المدة في الخارج. وأباشر أعمال مكتبي من الخارج. الأمر عرضيّ ومؤقت وله علاقة بالظرف العصيب الذي تعرفه الحقوق والحريات والقضاء في تونس والتحول الكبير في تعامل السلطة القائمة مع من يعارض سلطة الفرد أو يطالب بالرجوع إلى الديمقراطية.

 

  • العميد السابق عبد الرزاق الكيلاني وبشرى بالحاج حميدة وبشر الشابي وأنت، أربعة محامين موجودين اليوم بالخارج إضافة لعشرات من المعارضين والحقوقيين الذين يواجهون ملاحقات قضائية. نتحدث اليوم من جديد، وعلى غرار ما قبل الثورة، عن معارضين في المهجر. ماهي أوجه التنسيق في النضال الحقوقي والسياسي وآفاقها؟

هناك زملاء آخرون أذكر منهم الأستاذ منصور المبروك وغيره. بالنسبة للزملاء الذين يباشرون العمل السياسي لا أعرف مدى أوجه التنسيق بينهم لأني لا أنشط سياسيًا ويتجه سؤالهم مباشرة في الغرض. بالنسبة للعمل الحقوقي طبعًا أنا أرحب بكل المبادرات الحقوقية دون توظيف سياسي وإن كان من الطبيعي أن تكون للعمل الحقوقي آثار سياسية إلا أن الفصل بين الحقوقي والسياسي أمر منهجي وأساسي ومبدئي من وجهة نظري. 

 

  • إبراهيم بلغيث هو محامٍ أيضًا دائمًا ما رفع الصوت عاليًا في مواجهة انحياز العميد السابق إبراهيم بودربالة إلى السلطة وانخراطه في مشروعها الذي تبيّن أنه سلطوي بدرجة أولى. ونستذكر أنك قد رفعت دعوى بعد قراره تأجيل الجلسة العامة الانتخابية صيف 2022. ماهو نطاق المسؤولية التي يتحمّلها العميد بودربالة خاصة بعد جرّ المحاماة الرسمية لركاب السلطة بعد 25 جويلية؟

العميد بودربالة للتاريخ كان موقفه متوازنًا نسبيًا إبان انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 وأذكر أنه صرّح بان قيس سعيّد سلطة أمر واقع يمكن التفاعل معها إيجابيًا. لكن وعلى إثر صدور بيان مجلس الهيئة الوطنية للمحامين يوم 27 جويلية/يوليو 2021 على ما أتذكر وهو بيان لم يسبقه فيه ومحتواه أيّ مجلس هيئة، إذ أنه برر للانقلاب وخرق الدستور وأعلن الولاء لقيس سعيّد في سابقة تاريخية. وكما لو كان العميد بودربالة وأعضاء الهيئة في مزايدة، قرر العميد وضع كل بيضه في سلة قيس سعيّد وضحى باسمه وبمساره المهني والسياسي والمحاماة في سبيل ذلك مساهمًا بذلك في مخزنة المحاماة، على حد تعبير صحافي مغربي. وعليه فمسؤوليته جسيمة لكن ذلك لا ينفي خيانة أغلبية أعضاء مجلس الهيئة لمبادئ المهنة وحقوق الإنسان.

 

  • هل تعتقد أن موقف الهيئة الوطنية للمحامين راهنًا في مستوى ما هو مطلوب في مواجهة تردي الوضع الحقوقي واستهداف المحامين، خاصة بعد بيان 21 مارس/آذار 2024 الذي اعتبره العديد من المراقبين عودة للجادة وافتكاك للمبادرة من جديد؟

موضوعيًا يمكن أن نأمل أن نزيف التزلف والانبطاح والتذلل للسلطة ممثلة في مالكها الوحيد قيس سعيّد قد بدأ يتوقف ببيان 21 مارس/آذار 2024. لكن هل يتعلق الأمر بتغيير تكتيكي أو استراتيجي في الموقف؟ لا زال الأمر غير واضح وفي كل الحالات دون المطلوب حتى وإن كان أحسن من السابق.

 

  • لا يخفى عليك أن عديد الأصوات داخل المحاماة تتهّم المحامين الحقوقيين بوجه عام بأنهم يسعون إلى جرّ المحاماة إلى معاركهم السياسية وأيضًا الحزبية وذلك على حساب مصالح المهنة. كيف تتفاعل مع هذا الادعاء؟ 

الخطاب ليس بجديد وهو قديم قدم المحاماة التونسية، فمناصرو السلطة دائمًا ما كانوا يرمون معارضيها بالتسييس ويسعون إلى خلق علاقة زبونية مع النظام: الحياد مقابل المكاسب.

المحامي إبراهيم بلغيث: العميدان إبراهيم بودربالة وحاتم المزيو  لا يجدان حرجًا في التصريح بأنّ من أولويات المحاماة إنجاح مسار 25 جويلية وهو عين التسييس وهو أشنع من الولاء للأحزاب بالنسبة لعميد أو مجلس هيئة

الطريف أن العميدين إبراهيم بودربالة وحاتم المزيو يتبنيان ذلك الطرح ويدعيان المهنية، لكنهما في الآن ذاته لا يجدان حرجًا في التصريح بأنّ من أولويات المحاماة إنجاح مسار 25 جويلية وهو عين التسييس بل كذلك الولاء لقيس سعيّد وهو أشنع من الولاء للأحزاب بالنسبة لعميد أو مجلس هيئة.

 

  • لم تحقق المحاماة مكاسب مهنية منذ 25 جويلية، بل على العكس تم إلغاء دسترتها كإلغاء تمثيليتها في المجلس الأعلى المؤقت للقضاء والمحكمة الدستورية، ناهيك عن تصاعد الملاحقات القضائية ضد المحامين. لكن رغم ذلك لا يزال يراهن البعض، بما في ذلك داخل هياكل المهنة، على إمكانية تحصيل مكاسب خاصة قانون جديد للمحاماة، ويؤسس بذلك لعدم اتخاذ مواقف حاسمة قد تعتبر صدامية ضد السلطة اليوم. هل تقدّر أن مشروعية تأمين المحاماة الرسمية لضمانات ومكاسب مهنية تستلزم بالضرورة تقليص الدفاع عن الحقوق والحريات أم أن معادلة متوازنة بينهما تبقى ممكنة؟

المحامي إبراهيم بلغيث: من يطالب اليوم السلطة القائمة بإصدار قانون جديد لمهنة المحاماة هو يقدمها قربانًا ويعطي فرصة لرئيس لا يخفي عداءه وكرهه للمحاماة 

من يطالب اليوم السلطة القائمة بإصدار قانون جديد لمهنة المحاماة هو يقدمها قربانًا على مذبح انقلاب 25 جويلية ويعطي فرصة لرئيس لا يخفي عداءه وكرهه للمحاماة وعدم مبالاته بحق الدفاع والإجراءات التي يراها عائقًا أمام ما يقرره هو من حقيقة ليعبث بالمحاماة ويجرد المحامين بالنص من المكاسب وضمانات المباشرة المضمنة بمرسوم 2011 للمحاماة كما جردهم منها اليوم بالممارسة. وكما قالت العرب قديمًا إذا لم يكن من الموت بدّ فمن العار أن تموت جبانًا.

 

  • يقدّر البعض أن الوعي الحقوقي في صفوف المحامين، مقارنة بزمن الاستبداد، تراجع بدرجة لافتة خاصة في صفوف الشبان على النحو الذي تعكسه التوازنات اليوم داخل جمعية المحامين الشبان أو في محدودية تفاعل القواعد الشبابية مع المستجدات الأخيرة. هل تؤيد هذا التقدير وإلى ما تفسّره؟

للأسف معهد المحاماة الحلم الذي ناضلت أجيال من المحامين من أجله لم ينجح في زرع جذوة الوعي الحقوقي في رواده وخريجيه الذين غالبًا ما انتفضوا ضد سوء إدارته وعدم تقدير القائمين عليه لهم وللمهنة كما يكتشف طلبة المعهد حقيقة العديد من أعضاء الهياكل وزبونيتهم ومحاولات الاستقطاب بما لا يبقي للمهنة ومبادئها أي اعتبار لديهم. 

والمبادئ ورسالة المهنة تصبح شعارات صورية تذكر للضرورة الشعرية. والتأديب لا يتخذ إلا ضد من لا سند له وقدوتهم في ذلك ما عاينوه وما اكتشفوه في بعض أساتذتهم وشيوخ المهنة وهياكلها. ومن المنطقي أن ينخرطوا في منطق انتهازي ومادي ولا يعيرون الوعي أو النشاط الحقوقي أي أهمية إلا إذا كان فيه منفعة مادية. 

المحامي إبراهيم بلغيث: من الطبيعي خاصة بعد الفشل الذريع للتجربة الديمقراطية أن يتراجع الوعي الحقوقي لدى الشبان لكن ذاك لا يعني استحالة تشكل وعي حقوقي جديد 

ويكفي بالتالي لانتخابات الجمعية أو الهياكل إسداء الخدمات أو المنافع الشخصية أو حتى الإيهام بذلك وهو ما تجيده مجموعات مصالح نافذة منها ما هو أيديولوجي ومنها ما هو مهني وإن كانت الحدود متداخلة. 

من جهة أخرى، مدارس ومعاهد وكليات ومجتمع ووسائل إعلام والنظام السياسي في السبعينات والثمانينات والتسعينات مختلفة بصورة تكاد تكون جذرية عن العقود التي تلتها. وبالتالي من الطبيعي خاصة بعد الفشل الذريع للتجربة الديمقراطية أن يتراجع الوعي الحقوقي لدى الشبان لكن ذاك لا يعني استحالة تشكل وعي حقوقي جديد يستخلص العبرة والدروس من الأجيال والتجارب السابقة. 

ولا ننسى أن الاستبداد الجديد لم تمضِ على قيامه إلا سنتان حتى وإن كان فشله ذريعًا وعليه يجب ترك الوقت الكافي لانبجاس وعي جديد فدخول الكهف كالخروج منه حسب أمثولة أفلاطون يحجب النظر لبعض الوقت. كما أن ردود فعل المجتمع تتطلب وقتًا أكثر من رد فعل الفرد.

 

  • في الختام، ماهي الخطوات العملية المطلوبة اليوم لاستعادة الدور الريادي للمحاماة في التصدي للمسار السلطوي واستعادة الديمقراطية مع ضمان الحقوق والحريات العامة، وذلك سواءً بالنسبة لهياكل المهنة من جهة أو المحامين الحقوقيين من جهة أخرى؟

لا توجد حلول معجزات ومن المنطقي أنه يجب على المهنة ومنتسبيها الالتفاف حول مبادئها لا أشخاص ممثلي هياكلها. ولا أعيد اختراع العجلة عندما أؤكد أن التضامن والدفاع عن حقوق الإنسان والمثابرة والإصرار والتضحية  وحسن اختيار الهياكل وضبط السياسات الاتصالية الناجعة ونسج العلاقات الوثيقة والبناءة مع المهن والقطاعات الأخرى وترك الزبونية والانتهازية والفساد والتعصب الأيديولوجي والحزبي وتوظيف التأديب والتكوين هي كلها شروط لاستعادة الدور الريادي الطبيعي للمحاماة التونسية لا للتصدي للمسار السلطوي واستعادة الديمقراطية مع ضمان الحقوق والحريات العامة فقط بل كذلك لبناء دولة القانون والمؤسسات واكتساب تونس مقومات السيادة الحقيقية.