"أصبحت تونس مسرحًا أين يتلاكم الشيطان والرب الصالح، أين يحاور القدر الحرية. معتقل، تتصادم فيه الرغبة بالخواء"، هكذا رثا بن بريك، في كتابه "نيويورك... ضاحية تونس" (دار الجنوب، 2015)، تونس التي ما انفكت الأنظمة المتعاقبة على حكمها تراود دولتها تبغي تطويعها لتأبيد سلطتها واستمرار سلطانها، فيما تستمرّ مأساة طبقات لا يذكر يومًا أنّ أفرادها رفعوا أكثر من الكرامة شعارًا..
في إطار تطويع الدولة، وصف الرئيس التونسي قيس سعيّد مؤخرًا القضاء بالوظيفة والمرفق العمومي، بدل السلطة القضائيّة، بعد أن سبق أن هرسل وضغط، عبر خطاباته، القضاة لاتخاذ أحكام ضد من يصفهم بـ"الفاسدين"، ليعيد بالتالي ملف "إصلاح القضاء" إلى الواجهة، مع ما يصحبه من ذكريات تعود إلى سنة 2012، عندما حاولت حكومة الترويكا تطويع القضاء تحت شعار إصلاحه...
ما الذي يريده سعيّد من القضاء؟ هل هناك نيّة جديّة للإصلاح؟ أم هي محاولة أخرى لتطويع القضاء وتحويله إلى هراوة ثانية، إلى جانب الأمن، ليستتبّ له الأمر؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نحاور فيما يلي، المحامي والقاضي السابق أحمد صواب، الرئيس الشّرفي للقضاة الإداريين.
- لماذا هذا الحنق وهذا التحامل من قيس سعيّد على القضاة؟
لنتفق أولًا أنه في جميع الحضارات والأزمنة ومنذ بداية الأنظمة السياسية، هناك أصناف من القضاة:
- هناك العملة النادرة وهم القضاة العادلون: هؤلاء لا يخافون أحدًا، يحكّمون ضمائرهم ويحكمون وفق القانون. وإن كان هناك اعوجاج في القانون، يصوّبونه ويقرّبونه بجرعة من الإنصاف إلى الحق. وهؤلاء قلّة قليلة للأسف.
- القضاة التقنيّون: هؤلاء يطبّقون القانون بحذافيره، دون أي تصوّر لدولة القانون والحرّيات، دون فلسفة قانون أو روح القانون.
- القضاة الموظّفون: هؤلاء يأتمرون بأمر السلطة. وهؤلاء أغلبية للأسف كذلك.
- وأخيرًا القضاة الفاسدون، بالمعنى المالي، هؤلاء قلّة لكنّهم قابلون للابتزاز.
صواب: ما يفعله سعيّد عبر خطاباته محاولة لتخويف وتركيع القضاة عبر هرسلتهم والضغط عليهم. ولئن اعتمدت كل الأنظمة المتعاقبة هذه الممارسات، فإن سعيّد يمارسها بطريقة أفظع
طبيعيًا، تسعى كل سلطة للسيطرة ومغالبة السلط الأخرى. وتاريخيًا، أكثر السلط سعيًا للسيطرة هي السلطة السياسية: بمكوّنيها التنفيذية والتشريعية. لهذا أشار الدستور لضرورة التوازن بين السلط. ما يفعله سعيّد عبر خطاباته، محاولة تخويف وتركيع القضاة عبر هرسلتهم والضغط عليهم. وللإشارة، مارست كل الأنظمة المتعاقبة هذه الممارسات. لكن سعيّد يمارسه بطريقة أفظع ومفضوحة. لهذا سمّيته أنا بقضاء 25 جويلية. ودليل آخر، إلى جانب ما حدث سابقًا من إقامات جبرية، هو الحكم القضائي الأخير الذي صدر ضد الرئيس السابق.
اقرأ/ي أيضًا: صدور حكم يقضي بسجن المرزوقي: استياء وتنديد واسعان في تونس
- لكن يدّعي سعيّد أنّه يريد الإصلاح عبر ما يصفه "التطهير". ما الذي يريده ولا يقوله؟
لو أراد سعيّد كما يدّعي إصلاح القضاء، له تفقدّية بوزارة العدل تخضع مباشرة لوزيرة العدل التي تخضع بدورها لسلطة الرئيس. يعني أنّ أي قاض محل شكوك يحال على التفقدية وانتهى الموضوع. وكان الأجدى أن يمارس ضغطه على المجلس الأعلى للقضاء لو حاول الأخير التدخّل في ملفات قضاة محل اتهام. كذلك له النيابة العمومية، التي يمكن أن يحيل لها الرئيس الملفات التي يدعي أنها بحوزته. أمّا ما يريده سعيّد فهو زرع الخوف لدى القضاة لاستغلالهم، استعمالهم وتوجيههم نحو خصومهم: المرزوقي مثلًا اتهمه مباشرة في مجلس وزراء. يذكّرنا هذا بما قام به نور الدين البحيري سنة 2012.
صواب: الرئيس لا يؤمن باستقلالية القضاء بل يعتبره مرفقًا عموميًا، كما أنّه لا يحترم أحكامه.. وما يفعله في كل مرة هو ترذيل للقضاة عبر الوصم والإيحاء لإحراجهم وبث الخوف فيهم
سعيّد لا يؤمن باستقلالية القضاء بل يعتبره مرفقًا عموميًا. كما أنّه لا يحترم أحكام القضاء كما حدث في أحداث عقارب عندما عمد للتعسّف على القرار الصادر بغلق مصب القنة. وما يفعله كل مرة هو ترذيل للقضاة عبر الوصم والإيحاء، لإحراجهم وبث الخوف. كما تعلم أغلب القضاة محافظون ويتجنّبون المواجهة مع السلطة، وسعيّد يحاول استغلال ذلك لوضع يده على القضاة.
- لكن هناك من يعتبر أن هذا من صلب الإجراءات الاستثنائية. أليس لهذا قام بتفعيل الفصل 80؟
كما أشرت في مرّات سابقة، سعيّد خرق الدستور شكلًا عندما جمّد المجلس وأقال الحكومة، وخرق كذلك مقاصد الدستور. ما هو المغزى من تفعيل الفصل 80؟ أليس إرجاع دواليب الدولة إلى سيرها العادي؟ ما يقوم به سعيّد الآن ليس إرجاع دواليب الدولة، بل قلبها لصالحه، لهذا يسمّى ما قام به انقلابًا. وكلّ يوم هو يبتعد أكثر فأكثر عن الدستور والقانون وأصبح رئيسًا مارقًا، لهذا، بالنسبة لي، هو رئيس سلطة فعلية.
- في هذا السياق، دعا كل من محمد عبو والمنصف المرزوقي أجهزة الدولة لدفع سعيّد نحو الاعتدال، وتقييد سلطته. وصف البعض هذا بالدعوة إلى العصيان. ما رأيكم في هذا؟
بالنسبة لي، الدولة في حالة احتضار. لهذا وجب الحفاظ على الأقل على الهيكل، أو كما يسمّى بالشقف. يجب التفريق بين الدولة والنظام. هذا الرئيس لا يؤمن بمدنية الدولة، ولا بالحقوق والحريات.
صواب: قيس سعيّد يشكّل خطرًا على البلاد والديمقراطية، ويجب مقاومته بطريقة مدنية متحضّرة، مع ضرورة المحافظة على الدولة وتجنّب إلحاق أضرار بها
كذلك، على المستوى الاقتصادي، ليس اجتماعيًا ولم يقدّم شيئًا للناس. مثلًا أين هي مؤسسة العناية بالشهداء والجرحى التي وعد بها يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2019؟ وكثير من الوعود الأخرى: المدينة الصحية، القطار من الشمال إلى أقصى الجنوب، المشاريع التي وعد بها متساكني سيدي بوزيد بعد عامين؟ وليس تقدّميًا أيضًا، بدليل موقفه من الأقليات الجنسية ومسألة المساواة في الميراث. بالنهاية، هذا الرجل يشكّل خطرًا على البلاد، والديمقراطية، يجب مقاومته، طبعًا بطريقة مدنية متحضّرة، مع ضرورة المحافظة على الدولة، وتجنّب إلحاق أضرار بها.
- طيّب، من الناحية السياسية، ما رأيكم فيما جاء من نقاط في خارطة الطريق التي طرحها سعيّد؟
منذ وقت الرومان، الاستثناء هو دكتاتورية مؤقتة. هل تعلم متى تنتهي حالة الاستثناء هذه؟ على أقل تقدير وفي أفضل الحالات: أفق أفريل/نيسان 2022. ثم هناك الكثير من المسائل العالقة لم توضّح بعد: من سيشرف على الانتخابات؟ ومن سينقح القانون الانتخابي؟ وكيف سيكون شكله؟
اقرأ/ي أيضًا: تونس: سعيّد يتجنب كشف أوراقه والمعارضة تتجهز لشهر من الضغط والاحتجاجات
من الناحية السياسية، هو يسعى لتنفيذ مشروعه الفردي الخاص، في مقاربة تذكرنا بلويس الرابع عشر: الدولة، هي أنا. بالنسبة لي، قيس سعيّد مرّ من حالة سياسية إلى حالة دستورية ثم حالة نفسية.
- ألا ترى أن الإعلان عن الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022، وكأنه أعلن مسبقًا نتيجة الاستفتاء المزمع إجراؤه يوم 25 جويلية المقبل؟
طبعًا، هذا كان واضحًا ومتوقّعًا على فكرة. لهذا ما سيقوم به ليس استفتاء وفق المواصفات القانونية والسياسية، لكن استفتاء بيعة لشخصه. فضلًا عن هذا، هو دومًا يستحضر "دي غول" في خطاباته. "دي غول" عندما أعلن الاستفتاء، تعهّد بالاستقالة إن لم تكن نتيجة الاستفتاء لصالحه. هو لم يتعهّد بهذا. يعني فلنفرض أنه سيكون استفتاءً نزيهًا، ولو أنّي أستبعد ذلك، لو لم تكن نتيجة الاستفتاء لصالحه، ماذا سيفعل؟ وماذا بعد ذلك؟
صواب: تقديرات سقوط سعيّد قريبًا مطروحة بشدّة. لهذا على القوى الحية التي ليست لها مطامع سياسية أن تتولى قيادة فترة ما بعد سعيّد
- في هذه الحالة التي ذكرت، يعني بالحديث عما بعد سعيّد، كيف يمكن أن يكون البديل؟
هذا هو جوهر المشكل وهذا هو السؤال المطروح الآن على المعارضة وعلى القوى الحية في البلاد. هل تعلم، يوم 13 جانفي/يناير 2011، وحتّى سويعات قليلة بعد ظهر 14 جانفي/يناير، لم يتوقّع أحد أن يسقط النظام. كان هذا غير مطروحًا بالمرة. ورغم ذلك، ضمنت القوى الحية في البلاد استمرارية الدولة وحافظنا عليها.
بالمقارنة مع ما يحدث الآن، فإن تقديرات سقوط سعيّد قريبًا مطروحة بشدّة. لهذا على القوى الحية التي ليست لها مطامع سياسية، أن تتولى قيادة فترة ما بعد سعيّد، وعلينا أن نتجنّب تولّي السياسيين القيادة كما حدث ربيع 2011. في تلك الفترة لم يكن هناك مجتمع مدني جاهز للتأطير والمتابعة. أما الآن لدينا مجتمع مدني قوي ومؤثر. وهذا هو البديل، أن يتوّلى المجتمع المدني فترة انتقالية قادمة.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار|حمزة المؤدب: رهان المرحلة إدارة التناقضات وأشك أن سعيّد قادر على ذلك
حوار| محمد الصحبي الخلفاوي: الديكتاتورية الليبرالية مطروحة في تونس وهذا خطير..