16-يونيو-2021

بلقاسم بن عمارة: بات ليس من السهل الحصول على الحجارة لصنع الحليّ (مريم الناصري/ الترا تونس)

 

ينغمس على طاولة صغيرة بمسماره لينقر جديلة الفضة، وينقش فيها خطوطًا تبدو لبعضنا مُجرّد خطوط اعتباطية، ولكنّها بالنسبة للحرفي أبي القاسم بن عمارة خطوط تروي تاريخ القبائل في تونس، لا سيما البربر والأمازيغ. ذلك التاريخ الذي يقبله البعض ويعترف به كجزء من المجتمع التونسي فيما يرفضه آخرون. واختار هو أن يُعيد تشكيل العديد من جدائل الفضة إلى قطع خبرها سابقًا، وكانت ومازالت تُشكل أبرز أنواع الحليّ التونسي التقليدي خصوصًا الحليّ الأمازيغي

بلقاسم بن عمارة لـ"الترا تونس": اخترتُ أن أصنع الحليّ التقليدي القديم وأزيّنه بخرز المرجان والزُمرّد وعديد الأحجار التي كانت ومازالت تزوّق الحليّ التقليدي التونسي ولا سيما الفضة منه

منذ أكثر من ثلاثين سنة تعمل يداه على تحويل صفائح وجدائل الفضة إلى لوحات فنية. ويستمر في طرق الجديلة بالمسمار والمطرقة حسب إيقاع الرسم الذي يريد نقشه. ليقوم فيما بعد بتسخين القطعة حتى يُشكّل الشكل الذي يريده لها. يقول إنّه اختار أن يصنع الحليّ التقليدي القديم ويُزيّنه بخرز المرجان والزُمرّد وعديد الأحجار التي كانت ومازالت تزوّق الحليّ التقليدي التونسي ولا سيما الفضة منه، لأنّ العديد من مُحبي الفضة خاصة يعشقون الأحجار وتأثيرها على الإنسان والتي يُعتقد أنّ بعضها فأل خير، أو مصدر رزق أو لاعتقاد البعض أنّها تُبعد الحسد.

أحجار تزيين الحليّ (مريم الناصري/ الترا تونس)

ويتابع بن عمارة لـ"الترا تونس" أن اللون الأخضر رمز للخصوبة والحياة الجيّدة، فيما يرمز اللون الأزرق إلى الهدوء والسلام، بينما يرمز اللون الأحمر إلى الحياة والقوة والشجاعة. وعديد الألوان الأخرى التي ترمز إلى عدّة أمور، واستعملت منذ القديم في الحليّ الأمازيغي". مضيفًا أنّه يجمع تلك الحجارة من عديد الحرفيين في عدّة جهات، "وبات ليس من السهل الحصول عليها، فقط المرجان متوفر نظرًا لأنّه يُنتج في تونس".

صناعة الفضة في أغلب الورش ماتزال مهنة حرفية يدوية لم يصل إليها هدير الآلة، وتنتشر خاصة في القُرى والأرياف، فيما تختلف أحجام ذلك الحليّ ونقوشه واستخداماته من منطقة إلى أخرى. ويتميز أغلبه بطابعه الأمازيغي في الأساس. ولا يمكن للنساء الاستغناء عنه، ليس بسبب انخفاض سعره أو توفره بسهولة، ولكن لرمزيته.

اقرأ/ي أيضًا: صناعة النحاس في تونس.. حرفة عتيقة متجددة

والمدن العتيقة في تونس وسوسة والقيروان والمنستير وغيرها تعدّ من أقدم المناطق المعروفة بانتشار محلات حرفيي صناعة الفضة على الرّغم من أنّ عدد الحرفيين في تلك الأسواق بات لا يتجاوز العشرات. ولكنّ العديد منهم حافظوا على صناعة الحليّ من الفضة بأساليب وطرق تقليدية.

بلقاسم بن عمارة لـ"الترا تونس": يُمكن أن يبلغ سعر بعض الحليّ التي أصنعها من الفضة 1500 دينارًا (500 دولار) أو أكثر، خصوصًا تلك النادرة منها

يُضيف بلقاسم "إنّ الحليّ المصنوع من الفضة تختلف أحجامه وأشكاله من جهة إلى أخرى. فليس ما يُلبس في الشمال الغربي مشابه لما يوجد في الجنوب أو في المناطق الساحلية على الرّغم من كونه يتشابه في النقوش والتفاصيل التي تُزين "الخمسة" و"الخلال" و"ناب الجمل" و"العين" و"تانيت" وغيرها من الأشكال التي توجد في الأقراط والضفائر والتيجان والخلالات والصدريات والخلاخل وغيرها من الحليّ التونسية التي تتزين بها المرأة بصفة عامة، والعروس بصفة خاصة خلال حفل زفافها، وتوجد تقريبًا في أغلب الجهات.

ويُمكن أن يبلغ سعر بعض الحليّ التي يصنعها بلقاسم من الفضة 1500 دينارًا (500 دولار) أو أكثر، خصوصًا تلك النادرة التي لم يعد يقدر العديد من الحرفيين على صناعتها أو نقشها أو تلك المزينة بأحجار مختلفة الألوان. 

اقرأ/ي أيضًا: فيديو: "قفة" العروس التونسية.. تقليد راسخ

محل الحرفي بلقاسم بن عمارة بالقرية الحرفية بالدندان (مريم الناصري/ الترا تونس)

في محلّه الصغير بالقرية الحرفية في الدندان، كانت بعض النسوة يُقلّبن الحليّ ويتساءلن عن أسعار بعضها. باحثات عن الفريد منها والمختلف مهما كان سعرها. يطلبن منه بعض الحليّ المزركش خاصة بالحجارة النادرة والقديمة، والمختلفة عما هو سائد اليوم، والمصنوعة بطريقة قديمة تبدو وكأنّها تعود للسبعينات أو أقدم. 

بلقاسم بن عمارة لـ"الترا تونس": كل قطعة لديّ لا تشبه الأخرى، أصنع كلّ واحدة بطريقة مختلفة.. وأغلب حرفائي من الأوروبيين لا العرب

"عقد الزواج"، و"ناب الجمل" و"الخمسة" و"السمكة" وغيرها من الأشكال، جميعها مرصفة في محلّه بعناية. ذات أشكال مختلفة وألوان كالتي كنا نرى جداتنا يرتدينها. يقول "كل قطعة لديّ لا تشبه الأخرى، أصنع كلّ واحدة بطريقة مختلفة، ذات أحجام كبيرة وأشكال هندسية بارزة، كالمثلث المقلوب أو الدائرة التي يتوسطها هلال، أو تلك القلادة على شكل أسطوانة وتسمى عقد الزواج، فسابقًا كان العقد يحفظ في أسطوانة من الفضة" حسب قوله، فاعتمد ذلك الشكل وصنع منه عقدًا نسائيًا يرمز إلى عقد الزواج سابقًا. ويُعتبر اليوم من بين أكثر قطع الحليّ رواجًا، وفق قوله. إضافة إلى "الوشقة" وهي وعاء صغير على شكل دائري ذات غطاء مزركش بالحجارة كانت تضع فيه النسوة كل الحليّ. ولأنّها باتت غير موجودة، صنع الحرفي منها أشكالًا صغيرة تعلّق على شكل قلادة مزينة بألوان مختلفة من الحجارة.

معروضات الحليّ من صنع الحرفيّ بلقاسم بن عمارة (مريم الناصري/ الترا تونس)

وقد كانت الحليّ عند النساء الأمازيغيات رمزًا لطرد العين والحياة الصحية الجيدة. كما أنّها ترمز إلى الانتماء القبلي، نجدها في الغالب من الفضة في القرى والأرياف، وتعد "الخُمسة" من أشهر الأشكال المنتشرة في كامل القرى والمدن التونسية وهي على شكل اليد تعلّق على الملابس التقليدية أو تلبس في أغلب الحليّ وتسمى أيضًا يد فاطمة. لذا نجدها موجودة في أغلب الحليّ الذي يصنعه بلقاسم نظرًا لأنّها تعرف إقبالًا كبيرًا. كما يشير الحرفي إلى أنّ أغلب حرفائه من الأوروبيين لا العرب. إذ إنّ العرب صاروا يقتنون الذهب غالبًا لقيمته المادية. فيما يبحث بعض الأوروبيين عن القطع النادرة من الفضة ذات الأشكال الفريدة". 

وقد باتت اليوم تلك القطع من الحليّ باهظة الثمن ليس لقيمتها المعدنية، وإنّما لقيمتها الفنية، ولطريقة صنعها، والنقوش والأحجار التي تحتويها. هي مجوهرات أمازيغية أتقن فيها الحرفي تنسيق ألوان الحجارة وإبراز دقة الأشكال كي تحيل على قيم جمالية غير متكررة في كل القطع. وأشكال هندسية بديعة بكل ما جادت به ذاكرته الشعبية.

تسخين قطعة الحليّ قبل تشكيلها (مريم الناصري/ الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيديو: مع جمال بن سعيدان..رحلة في عشق تونس العتيقة

"الأنتيكا".. رزق للفقراء وهواية لبعض الأثرياء