ثمّة من يمثل لهم التاريخ مجرّد أحداث أو ذكريات يتحدّثون عنها كزمن مضى وولّى، وبقي فقط يسمى بـ"الزمن الجميل". وربما حفظت تلك الأحداث والذكريات في كتب التاريخ، فيما حفظت الأغاني أو حتى العادات جزءًا من ذاكرة ذلك الزمن. لكن فمّة من يعشق تفاصيل ذلك التاريخ في كلّ شيء مجسّد مازال يشهد على حقبة مضت. فوحدها بعض الأشياء المجسدة القديمة استطاعت أن تحفظ رونق الزمن الجميل في أجسادها، وبقيت شاهدة على عصور جميلة. كأن تشاهد المعمار القديم في عدّة مدن وكيف شيّد ونقشت جدرانه، أو تلك الملابس القديمة وكيف تمت حياكتها وخياطتها وتزويقها، أو أي قطعة قديمة وطريقة صنعها وتصميمها.
ومن هنا بدأ جمع القطع القديمة والاتجار بها يتحوّل إلى مهنة تلاقي رواجًا في عدّة أسواق تونسية. وتحوّلت بمرور الزمن من مجرّد عشق عند البعض لجمع القطع القديمة، إلى تجارة ومهنة مهمة سرعان ما باتت تستقطب السياح الأجانب. فازدهرت عدّة محلات تجارية مخصصة لبيع "الأنتيكا" وتحولت إلى متاحف انتشرت في شوارع المدن العتيقة خاصة وفي أغلب المناطق التونسية.
مصطفى (أحد باعة الأنتيكا في السوق العربي) لـ"الترا تونس": أغلب الحرفاء أجانب أو بعض التونسيين المغرمين بشراء الأنتيكا والقطع القديمة
اقرأ/ي أيضًا: رضا الجندوبي.. صانع عود يبعث الروح في الخشب
وقد بدأت تجارة القطع القديمة في تونس من خلال بعض الباعة المتجولين الذين يجوبون الشوارع قديمًا ليبادلوا بعض الأواني القديمة المصنوعة خاصة من النحاس ببعض الأواني الحديثة المصنوعة من الأليمنيوم. وكانت كلمة "روبا فيكيا" التي يرددها الباعة عند تجولهم بالشوارع لا تعني فقط الملابس القديمة، بل كل شيء قديم من أثاث وأوان وملابس وأي شيء يمكن بيعه، ليبيعوها فيما بعد إلى كبار التجار ممن كانوا بدورهم يروجونها في الخارج بأسعار أحيانًا تكون خيالية لقيمتها التاريخية، أو لدقة صنعتها أو لندرتها، أو في محلات كبيرة منتشرة في عدّة مدن تونسية. كما ارتبطت تجارة "الأنتيكا" بالطبقة الأرستقراطية التي تتميز بشغفها بالقطع القديمة النادرة.
في "السوق العربي" بالمدينة العتيقة بالعاصمة تونس كما يسمى، وفي محلّ ضاق ببضاعته القديمة المتراكمة، بات بالكاد يتسع لموطئ قدم واحد، تتنقل فيه بحذر كبير حتى لا توقع بعض تلك القطع التي لم تكن موضوعة بشكل مرتّب، أغلبها غير ملمّعة يكسوها غبار سنوات عدّة، قطع نقدية، تماثيل نحاسية عتيقة، أو شمعدانات ومفارش. أشياء لا يعرف قيمتها سوى هواة جمع التحف وأصحاب محلات التحف الفنية. يتركونها كما هي دون تنظيفها أو تلميعها لتبدوا أكثر قدمًا وجمالًا وفق ما يقوله لـ"الترا تونس" مصطفى وهو أحد باعة "أنتيكا" في السوق العربي.
ويضيف أنّ ذلك السوق يعتبر من أشهر وأقدم الأسواق التي يتخصص بعض تجارها في بيع التحف العتيقة منذ السبعينيات، حيث كان يتوافد سابقًا مئات الإيطاليين والفرنسيين من عشاق الأنتيكا، ويوجد في أغلب محلّات بيع القطع القديمة كلّ المنتوجات المنزلية بما فيها الأثاث ومستلزمات المكاتب والفنادق، إلى جانب عديد المصنوعات اليدوية من فخار وأوان نحاسية وملابس تقليدية ومفروشات قديمة.
ويشير محدّثنا إلى أنّ أغلب حرفائهم أجانب أو بعض التونسيين المغرمين بشراء الأنتيكا والقطع القديمة، مضيفًا أنّ أسعار بعضها مناسب للجميع نظرًا لتوفرها بكثرة في السوق، خاصة بعض القطع النحاسي في حين أن بعض القطع الأخرى باهظة الثمن نظرًا لندرتها وقدمها.
وقد تبقى في أحد تلك المحلات ممسكًا بقطعة نحاسية أو لباس تقليدي لدقائق عدّة تتأمل في تفاصيل تلك النقوش أو طريقة خياطتها وتزويقها. وقد تبدو قطعة عايدة من النحاس، ولكنّ سعرها قد يصل إلى الألفي دينار، فهي لا تباع لمعدنها النحاسي بل لقيمتها التاريخية إذ يعود تاريخ صنع بعضها مثلًا إلى أكثر من 150 سنة.
فاضل بن ابراهيم (مغرم بشراء الأنتيكا) لـ"الترا تونس": أسعار القطع القديمة مرتفعة قليلًا في تونس لكنّها تبقى مناسبة مقارنة ببعض المحلات العربية
اقرأ/ي أيضًا: صناعة الأواني الخشبية: عادة قديمة وتجارة تزدهر في المواسم الكبرى
وحتى تلك الملابس القديمة على غرار الفرملة والجبة والمحرمة المطرزة تكون باهظة الثمن تتراوح فيها الأسعار بين 300 وألفي دينار، نظرًا لقدمها إذ تعود إلى أكثر من ستين سنة، كما أنّها صنعت يدويًا. كما تباع بعض المجوهرات والحلي المصنوع من الفضة أو القطع المزخرفة بالمرجان بأسعار تفوق وزنها أو سعر الفضة، لأنّها مجوهرات قديمة ونادرة.
ويقول عبد الكريم، أحد الشباب المغرم بتجارة "الأنتيكا"، إنّه "يعشق تفاصيل كلّ قطعة جمعها ورتبها في محلّه الصغير من ملابس وحلي وبعض القطع النحاسية الصغيرة"، مضيفًا أنّه يغار على كلّ قطعة يبيعها لأنّه يعرف أنّ قيمتها التاريخية تفوق قيمتها المادية. وقد يبيعها إلى شخص قد لا يقدّر قيمتها بقدر ما يقبل عليها فقط لتزويق بيته، أو لبيعها خارج البلاد.
على صعيد آخر، يبيّن محدّثنا أنّ عدد باعة القطع العتيقة يعدّون على أصابع اليد بينهم من ورث المهنة عن الأب وجعل منها مجرّد تجارة مربحة دون أن يدرك قيمة ما لديه في المحلّ أو ما يشتريه ويبيعه، لأنّه فقط ورث عملًا يعيش منه، بينما يوجد عشرات الباعة ممن يعشقون التاريخ وقيمة كلّ قطعة قد خلّدت حقبة زمنية معنية، وفق تصريحاته.
ويشير إلى أنّ بعض تجار التحف القديمة باتوا يشتكون من قلة المصادر التي يحصلون منها على البضاعة لأنّها غالبًا ما كانت تأتي من القصور القديمة والبيوت العتيقة، وكانت قديمًا تباع بكثرة، لكن اليوم لا تباع نظرًا للتفطن إلى قيمتها ولا يقع بيعها أو التفريط فيها سوى في حالة الاختلاف على الميراث أو السفر وبيع كلّ الأملاك.
وهنا، في ذلك السوق بالمدينة العتيقة بالعاصمة تونس، تفوح روائح الزمن الجميل، لوهلة تشعر وكأنّك بالفعل تتجوّل في زمن الستينيات أو السبعينيات، أجهزة راديو تعود إلى أوائل القرن العشرين، ساعات رملية عتيقة، نقود، أوان وعديد المحتويات التي تعج بها مجموعة من المحلات التجارية.
كان فاضل بن ابراهيم (48 سنة) يقلّب تمثالًا من النحاس. قطعة يقول البائع إن ثمنها 750 دينارًا، يحاول الزبون مع التاجر لتخفيض سعرها قليلًا، وينتقل ليتأمل قطعة ثانية وثالثة، وحال نفسه يطمح لو يستطيع شراء أغلب القطع التي أعجبته.
يقول بن ابراهيم لـ"الترا تونس" إنّه مغرم جدًا بكل ما هو قديم وعتيق، مغرم بتفاصيل الأشياء البسيطة منها كالرحى المصنوعة من الحجر أو أي قطعة نحاسية بات لونها باهتًا، وبالشمعدان القديم وبعض المفارش أو حتى الأكواب القديمة. يشتري البعض منها كلّما وفر بعض المال، وأغلب ما زيّن به بيته كانت قطع قديمة حوّلته إلى متحف، على حدّ قوله.
ويلفت إلى أنّ أسعار القطع القديمة مرتفعة قليلًا في تونس لكنّها تبقى مناسبة مقارنة ببعض ما لاحظه في محلات عربية لبيع "الأنتيكا" كان قد زارها. ويبرز محدثنا أنّ "هواة الأنتيكا غالبًا من يهتمون بكلّ ما هو تاريخي، وقادرون على تقييم التحف الفنية وتحديد قيمتها التاريخية والمادية، وتمييز الحقيقي منها والمزور. فهي تجارة لا تخلو أيضًا من عمليات الغش"، وفق تقديره.
اقرأ/ي أيضًا:
"سوق القايد" في المدينة العتيقة بسوسة.. حفر في ذاكرة الحرف والفنون