تصدير: "عيد بأيّة حال عدت يا عيد.. بما مضى أم بأمر فيك تجديد" ـ أبو الطيب المتنبي
تدرك الثقافة الشرقية وخصوصًا العربية الإسلامية أن الأعياد الدينية هي تردد بين حضور الوجود من خلال مظاهر الاحتفال المتنوعة المحفوفة بجمال كل حركة يأتيها المجتمع المتديّن ويأتيها المسلم الذي أتمّ صيامه وقيامه كنوع من الخلاص وتعمير الذات بقدر بسيط من الجمال ومحبة في الدنيا الزائلة فتراه يعود إلى سجيته الأولى مرحًا فيتقيّف ويتعطّر ويتزاور ويشيع الخير بين الناس ويتبادل الهدايا.. وبين حضور الغياب بكسر جدار الموت والفجيعة التي تبقى ذكراها مقلقة لا تفارق كلمّا فارقنا حبيب أو عزيز وذلك بالذهاب إلى المقابر والاحتفال مع الموتى اعتقادًا من المجتمع أن الموت هو آخر الحيوات قبل الدينونة الكبرى ودخول الجنة، حيث الخلود والأبدية.
تنوّعت مظاهر العيد وأشكال الاحتفال من بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر بل وأحيانًا من بيت إلى آخر
هنا تسكن فكرة العيد بين الحياة والموت وتفكير الإنسان في البعث بعد أن بنى له كونًا مقدّسًا على الأرض يصله بالله والآخرة، من هنا تظهر أيقونة العيد وتتجلّى تلك الارتسامات الروحية التي نلمح فيها نسغ الرومنسي والعجائبي والحالم والشاعر. العيد نوع من التعالي الأرضي ولحظة كونية يمنحها الإنسان للإنسان تقرّبًا إلى ربه، وقد تنوّعت مظاهر العيد وأشكال الاحتفال و"التعييد" من بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر بل وأحيانًا من بيت إلى آخر.
في تونس، وهي أرض عرفت من الخصوبة الحضارية نصيباً وافرًا ومرّ على أديمها كل التاريخ البشري منه المدهش واللامعقول والسحري والخيالي والأسطوري والمؤنس والطارد والفاجع والأليف والمتلألئ، يأتي العيد كخلاصة مبهرة لكل ذاك الرصيد الناصع من الحياة التونسية الضاربة في القدم فيسكن سريرة الإنسان التونسي ودخيلائه ويطبع تجاويفها إلى الأبد ويتجلّى كفرحة تحملنا إلى بيوتنا السماوية.
اقرأ/ي أيضًا: عيد بنكهة تونسية.. هذه عادات التونسيين للاحتفال بعيد الفطر
عيد الفطر في تونس هو خلاصة نفسية مستمدة من الخاصيات الروحية لشهر رمضان المعظم وهو المنطقة القصوى لدين قدّم نفسه كالإكسير المطهّر والشافي للروح، لكنّه في نفس الآن عيد يقطف ممّا ينبت تاريخ الأرض التونسية وينصبغ بها.
لكل مدينة أو جهة تونسية خصوصية ما في الاحتفال بعيد الفطر تميزها وتجعل من الأهل يفاخرون بها بين الجهات.
يأتي العيد في تونس كخلاصة مبهرة لكل الرصيد الناصع من الحياة التونسية الضاربة في القدم فيسكن سريرة الإنسان التونسي ودخيلائه ويطبع تجاويفها إلى الأبد
- رمزي المحواشي (أنثروبولوجي): عندما تتحول المقابر إلى مراكز للاحتفال بعيد الفطر
"الترا تونس" تجوّل بين هذه الخصوصيات الحضارية في احتفال التونسيين بعيد الفطر، فالتقى الأستاذ رمزي المحواشي، المختص في علم الإناسة أو الأنثروبولوجيا والباحث بالجامعة التونسية، الذي حدثنا عن تنوع النسيج الاحتفالي بتونس المتعلق بالأعياد عمومًا وعيد الفطر خصوصًا فروى لنا أن الشمال الغربي التونسي تبدو مدنه زاخرة بالمظاهر والسلوكات الاجتماعية الاحتفالية بعيد الفطر أو "العيد الصغير" لا نجد لها شبيهًا في جهات أخرى.
ويوضح المحواشي لـ"الترا تونس": "الاحتفال مثلاً بقرى مثل السرس ودشرة نبّر والدهماني والطويرف وغار الدماء من ولاية الكاف يصبح مكانه الأساسي مقبرة القرية، التي تتحول إلى المكان الأهم في الاحتفال في تماه بين الموت والحياة حيث تزول تلك الحدود الواهية بين الحياتين فتتحول دموع ذكرى الميت إلى نوع من الاحتفال واستحضار روح الميت من أجل المشاركة في فرحة العيد".
ويضيف "وتبدأ مظاهر الاحتفال في الأيام الأخيرة من شهر الصيام حيث يتم تنظيف المقبرة وتشذيب أشجارها وطلي قبورها باللون الأبيض وخلال يوم العيد ومنذ بواكير الصباح يتنقل الأهالي لزيارة موتاهم والتحلق حول القبور ونثر حبات القمح على القبور لتكون من نصيب الطيور وتقبل المعايدات بين الأهالي والعائلات وتوزع الحلويات ويمرح الأطفال في أبهى ملابسهم متنقلين بين القبور ومتعرفين على مرقد الأجداد، ويأتي الشيوخ وأيمّة المساجد والجوامع فيقضون كامل اليوم في المقبرة يقرؤون القرآن ترحمًا على الموتى ويأتي فقراء المجتمع المحلي لتلقي بعض المساعدات التي توهب في شكل أموال وما لذ وطاب من الحلويات المحلية الصنع مثل "الغريّبة" و"المقروض" و"البشكوطو" (بسكويت تقليدي).. وهكذا تتحول المقبرة في هذه القرى إلى مركز احتفال ومكان يغير من شكله وأدائه ليوم واحد في السنة.
المحواشي لـ"الترا تونس": "الاحتفال بقرى مثل السرس ودشرة نبّر والدهماني والطويرف وغار الدماء من ولاية الكاف يصبح مكانه الأساسي مقبرة القرية"
يحملنا الأستاذ المحواشي إلى قرية أخرى من قرى الشمال الغربي التونسي وهي كسرى من ولاية سليانة، مشيرًا إلى أن المجتمع الكسراوي هو مجتمع محلي صغير مازال محافظًا على عاداته الأمازيغية القديمة فهو لم يتخل عنها يومًا رغم تعاقب العديد من الحضارات ففي يوم عيد الفطر ينقسم الأهالي إلى قسمين يذهب الأول إلى مقام الولي الصالح سيدي إمحمد شرق القرية والثاني إلى مقام سيدي خلف الله غرب القرية ثم يعودون سيرًا على الأقدام مرددين أهازيج قديمة وتسابيح ومناجاة إلى الله... ويلتقون مجددًا وسط غابة الزيتون حيث تقوم النساء بربط أقمشة ملوّنة بأغصان وجذوع الزياتين العتيقة تبرّكًا و اعتقادًا منهم بأن المرأة هي رمز للخصوبة وأن دوران النساء بالزيتون من يجعل الغابة أكثر عطاء في الموسم الفلاحي القادم.
وأوضح المختص في الأنثروبولوجيا أن للعيد امتدادات في الوجدان القديم للتونسيين الأصليين فهو يستنهض في داخلهم ما خلفه الأجداد ولا يجدون ضيرًا في دمجه مع المقدس الإسلامي مادام لا يتنافى مع العقيدة الإسلامية ولا يمس من وحدانية الله. وأكد أن "هذا التنوّع في الاحتفالات بالعيد يقدّم تونس باختلافاتها الجميلة".
اقرأ/ي أيضًا: ينتظرها الأطفال وحتى الكبار: تعرف على قصة "مهبة العيد"
حملنا حديث الأنثروبولوجي التونسي رمزي المحواشي إلى مدينة أخرى لها خصوصية احتفالية بعيد الفطر تميزها عن باقي المدن التونسية وهي "قلعة الأندلس"، وهي مدينة ساحلية وفلاحية توجد بالشمال التونسي وقد أسسها الأندلسيون خلال الهجرة الموريسكية القسرية إثر سقوط غرناطة وقد حافظت هي الأخرى على العديد من العادات الأندلسية التي امتزجت بالمحلي التونسي.
المحواشي لـ"الترا تونس": "أهل قلعة الأندلس يوم عيد الفطر يجتمعون جميعهم بالشارع الرئيسي للمدينة وتحضر الشابات غير المتزوجات من أجل تقديم أنفسهن للحضور لعل ذلك يعجل بالخطبة أو الزواج.."
يحدثنا المحواشي "أهل قلعة الأندلس يوم عيد الفطر يجتمعون جميعهم بالشارع الرئيسي للمدينة يرتدون اللباس التقليدي المحلي ذلك بالنسبة للنساء المتزوجات، فيتبادلون التهاني ويلتقطون الصور لكن ما يميز هذا التجمع الكثيف يوم عيد الفطر هو فسح المجال للشابات غير المتزوجات من أجل تقديم أنفسهن للحضور لعل ذلك يعجل بالخطبة أو الزواج.. ثم تكون أماسي العيد بقلعة الأندلس بالمنازل حيث تتبادل العائلات حبات القرع الضخمة (اليقطين) وهو ما يميز الفلاحة المحلية بريف المدينة ويعتبر ذلك من العادات القلعاوية القديمة في عيد الفطر والتي لا تتنافى مع مبادئ العيد الذي يحث على التحابب وربط الصلات والسخاء والاحتفال.
- زين العابدين بالحارث (رئيس جمعية تراثنا): مواكب خاصة بأئمّة الجوامع والشرمولة والملوخية أشهر أطباق العيد
تواصل "الترا تونس" بالأستاذ زين العابدين بالحارث رئيس جمعية تراثنا، الذي حدثنا هو الآخر عن العادات التونسية المتميزة حضاريًا بمناسبة عيد الفطر في العديد من المدن والقرى التونسية فأشار إلى الاحتفالية التي يقوم بها أهالي مدينة تونس العاصمة يوم العيد تكريمًا لأئمة الجوامع والمساجد حيث يتم تنظيم موكب ديني تصدح فيه الأناشيد الدينية والأدعية فيما يشبه خرجة الطرق الصوفية، التي ترافق الإمام من منزله إلى الجامع أين تتم صلاة العيد وفي ذلك اعتراف بجليل سخائه الديني طيلة الشهر الكريم وأضاف أن جهات تونسية عديدة تشهد نفس الاحتفالية على غرار القيروان والساحل التونسي والوطن القبلي.
رئيس جمعية تراثنا لـ"الترا تونس": يقوم أهالي مدينة تونس العاصمة يوم العيد باحتفالية تكريمًا لأئمة الجوامع والمساجد حيث يتم تنظيم موكب ديني تصدح فيه الأناشيد الدينية والأدعية
وحدثنا بالحارث عن مدينة قليبية من ولاية نابل التي تتميز بإنجاز كعك خاص يبدأ الاستعداد له في النصف الثاني من شهر الصيام، وبيّن أن هذا الكعك هو ركن أساسي في الاحتفالات بعيد الفطر في المدينة فهو ينجز من قبل السيدات القليبيات خلال السهرات الرمضانية وينضج في أفران خبز تقليدية أما لونه فيميل إلى البياض وشكله دائري وحجمه كبير، ويقدم صبيحة العيد إلى جانب باقي الحلويات الأخرى، كما يعتبر الكعك جزءًا لا محيد عنه ضمن ما يعرف بهدية "المُوسم" (هدية الخطيب إلى خطيبته بمناسبة عيد الفطر).
وعن تمايز المطبخ التونسي في أول أيّام عيد الفطر في العديد من الجهات التونسية، تحدث زين العابدين بالحارث لـ"الترا تونس" عن طبخ الملوخية بالعاصمة تونس ومدن أخرى عديدة بالشمال التونسي على غرار جندوبة والكاف وبنزرت وذلك اعتقادًا بأن باقي أيام السنة ستكون خضراء نسبة للون الملوخية ومدرّة للثمرات والخيرات.
رئيس جمعية تراثنا: طبخ الملوخية معروف يوم عيد الفطر بالعاصمة تونس ومدن أخرى وذلك اعتقادًا بأن باقي أيام السنة ستكون خضراء نسبة للون الملوخية ومدرّة للثمرات والخيرات
وأشار بالحارث إلى طبق الشرمولة وهو سمك مقلي ممزوج بمرق البصل وزبيب العنب والذي تتميز به أساسًا مدن صفاقس وجرجيس وجربة والشابة كما توقف عند طبق الفول بالكمون وزيت الزيتون بجهة توزر بأقصى الجنوب التونسي.
وأكد بالحارث أن تنوع المطبخ التونسي يوم عيد الفطر وتنوع الطقوس الاحتفالية تعكس عمق الحضارة التونسية وفرادتها وانسجامها مع الحداثات المتتالية وأن عنصر قوتها يتمثل في كونها تتضمن معيار العين التي لا تنضب والصخر الذي لا يبلى مع الزمن، وفق تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: