25-مايو-2023
 البنك المركزي التونسي

المصادقة على القانون الذي نص على استقلالية البنك المركزي كانت سنة 2016 (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

كانت إشارة نائب في البرلمان التونسي في برنامج إذاعي إلى توجه الحكومة نحو مراجعة عدد من التشريعات وتوجيهها للبرلمان للمصادقة، ومنها القانون الذي يخص استقلالية البنك المركزي التونسي، كافية لتعيد الجدل حول هذا الموضوع إلى الواجهة تونسيًا.

المصادقة على قانون استقلالية البنك المركزي كانت سنة 2016 وإلى اليوم لم يكن هذا التوجه محل إجماع أبدًا وعادة ما يطرح نقاشًا ورؤى متباينة بخصوصه خاصة كلما تم ترفيع نسب الفائدة

يُذكر أن المصادقة على قانون استقلالية البنك المركزي كانت سنة 2016 وهو قانون يعزز استقلالية المركزي التونسي كجزء من شروط الحصول على قرض سابق من صندوق النقد الدولي، ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لم يكن هذا التوجه محل إجماع أبدًا وعادة ما يطرح نقاشًا ورؤى متباينة بخصوصه خاصة كلما تم ترفيع نسب الفائدة.

 

 

  • لكن ما المقصود باستقلالية البنك المركزي؟

يذهب المختصون إلى أن البنك المركزي لدولة ما يمكن اعتباره مستقلاً إذا كان بإمكانه تحديد السياسات النقدية مثل تحديد أسعار الفائدة أو طباعة النقود، وذلك دون تدخل/ ضغط المسؤولين أو القطاع الخاص.

والفكرة من وراء ذلك تجنب ارتفاع كبير للتضخم وما لذلك من انعكاسات سلبية على اقتصاد دولة ما. ويمكن تفسير الأمر بتبسيط كالتالي: تعوّل السلطات الحاكمة في دولة ما على البنك المركزي لتوفير طفرة مالية عندما تكون لديها ضغوطات مالية دون الأخذ بالاعتبار انعكاسات ذلك في وقت لاحق وتلبية لطلبات عموم المواطنين ولإعادة انتخابها وتذهب حتى لوقف رفع أسعار الفائدة لرفض المواطنين/الناخبين لهذا التوجه.

لكن بعيدًا عن الانعكاس الأولي والمباشر لهذه الطفرة المالية، من المنتظر أن ينتج في وقت لاحق ما من شأنه التسبب في الضغط على الاقتصاد وزيادة التضخم بشكل كبير، وهو ما أدى في عدة دول لانهيار الاقتصاد.

اتجهت عدة دول حول العالم لإقرار قوانين تضمن استقلالية ما للبنك المركزي للقدرة على السيطرة على التضخم وعدم الخضوع التام لرغبات السلطات في تلك الدول

وفي هذا السياق، اتجهت عدة دول لإقرار قوانين تضمن استقلالية ما للبنك المركزي للقدرة على السيطرة على التضخم وعدم الخضوع التام لرغبات السلطات في تلك الدول.

يواجه هذا التوجه رفضًا من البعض، وقد يعدد مختصون حتى عددًا من سلبياته إضافة إلى الامتيازات التي تقدمها مثل هذه القوانين للبنوك، لكن البديل له يبدو "مخيفًا"، وفق عديد المختصين في الاقتصاد، خاصة بالنظر لدولة كالأرجنتين مثلًا أين يخضع البنك المركزي لسيطرة الرئيس ويحقق التضخم مستويات قياسية وفقدت العملة جزءًا كبيرًا من قيمتها في فترة ما، ويواجه المواطنون قيودًا إذا أرادوا الحصول على العملة الصعبة للسفر أو قضاء شؤون ما.

وُوجهت استقلالية البنك المركزي برفض من البعض، اللذين يعددون عددًا من سلبياتها إضافة إلى الامتيازات التي تقدمها للبنوك، لكن البديل لها يبدو "مخيفًا"، عبر فرضية ارتفاع التضخم لمستويات قياسية وانخفاض قيمة الدينار

وفي النهاية وإن كانت معظم البنوك المركزية في الدول المتقدمة مثلًا وفي عدة دول أخرى، مستقلة رسميًا لكن الخيط الفاصل في التعامل بينها وبين سلطات بلدانها ليس واضحًا دائمًا. نذكر الجدل الذي يطرح أحيانًا في عدة دول في أوروبا وفي الولايات المتحدة حيث توجه اتهامات للبنوك المركزية بتمويل الدول من خلال عمليات شراء ضخمة للديون الحكومية مثلًا.

  • هل تتجه تونس للتعديل من القانون في اتجاه الحد من استقلالية المركزي؟

عاد الجدل إلى الواجهة مجددًا في تونس من خلال مداخلة إذاعية (في إذاعة شمس الخاصة) لرياض جعيدان، مساعد رئيس مجلس النواب المكلف بالإصلاحات الكبرى، والذي صرح يوم الثلاثاء 23 ماي/أيار 2023، أن "حكومة نجلاء بودن تتجه نحو تقديم مشاريع قوانين للبرلمان من بينها ما يتعلق بتعديل قانون استقلالية البنك المركزي". وعبر عن رأيه الداعم لتعديل هذا القانون.

أثار التصريح المذكور سريعًا جدلًا وذهب مختصون في الاقتصاد إلى اعتبار أنه إن صح فيعني التراجع تمامًا عن فكرة الاقتراض من صندوق النقد الدولي. مع العلم أن السلطات التونسية تسعى منذ أشهر إلى التوصل لاتفاق نهائي مع المؤسسة المالية الدولية للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار.

وسارعت السلطات التونسية للنفي، إذ نقلت وكالة الأنباء الرسمية، في ذات اليوم، عن رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة أنّ "مجلس نواب الشعب لم يتلق أيّ مبادرة تشريعية من أي جهة مخوّل لها ذلك دستوريًا".

نقلت وكالة "بلومبرغ" عن وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي قوله: "ما يقال عن تقليص صلاحيات البنك المركزي كلام فارغ.. استقلال البنك المركزي سيظل محترمًا كما هو دون أية تعديلات"

ولاحقًا، نقلت وكالة "بلومبرغ"، الخميس 25 ماي/أيار 2023 عن وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي سمير سعيّد قوله، في تصريحات على هامش الاجتماعات السنوية للبنك الإفريقي للتنمية في شرم الشيخ بمصر: "ما يقال عن تقليص صلاحيات البنك المركزي كلام فارغ.. استقلال البنك المركزي سيظل محترمًا كما هو دون أية تعديلات".

وأضاف الوزير، وفق ذات الوكالة، "لسنا ضد وجود بنك مركزي قوي يلعب دورًا في الاقتصاد الوطني والمالية العمومية لكن هناك حاجة لوجود حدود وفي إطار منظور مرحلة جديدة تنفصل عن كل شيء ساهم في تعطيل الدولة التونسية"، وفق تعبيره.

 

 

في الحقيقة، تبدو السلطات التونسية في حيرة من أمرها بين مواقف متداولة من أنصار الرئيس قيس سعيّد وتلميحات منه تذهب في سياق الحد من استقلالية البنك المركزي التونسي وإعادة النظر في قانونها وبين انعكاسات ذلك الممكنة، خاصة على فرضية إتمام اتفاق القرض مع صندوق النقد الدولي.

يرجح البعض إمكانية التوجه نحو قوانين تحد من استقلالية البنك المركزي في تونس على اعتبار عجز البلد عن الحصول على قروض خارجية وتفعيل التداين من البنوك بشكل كبير وأنه لم يبق من حل غير تعديل القانون وأن يمثل ذلك الحل لتوفير السيولة المالية المرجوة

ولا تزال الضبابية تحيط بهذا القرض الذي سبق أن حصل اتفاق أولي حوله نهاية أكتوبر/تشرين الأول السابق، لكنه لم يُفعل في ظل تذبذب تفعيل ما تُطلق عليه السلطات "الإصلاحات" أو "إملاءات الصندوق" كما يرى الرئيس سعيّد. وقد ذهب الأخير، في تصريح لافت، مؤخرًا إلى تأكيد أنه يرفض هذه الإملاءات وأن الحل التونسي يكون عبر تعويل البلاد على مقدراتها الذاتية وهو ما كرره في أكثر من مناسبة.

لكن اللافت، من جانب آخر، أن وزراء حكومة بودن لا يزالون يرددون في تصريحاتهم ومختلف زياراتهم الخارجية أن السلطات التونسية لا تزال تستهدف التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في أقرب وقت ممكن، ومن هنا كانت المسارعة بالنفي إبان تصريحات النائب التونسي الأخيرة.

يشدد مختصون على ضرورة وعي السلطات بمخاطر هذا التوجه على المدى الطويل، إن اختارته، وذلك على مستوى ارتفاع التضخم لمستويات قياسية ممكنة وانخفاض قيمة الدينار

بشكل عام، رجح مختصون في الاقتصاد في تونس، منذ فترة، إمكانية التوجه نحو قوانين تحد من استقلالية البنك المركزي في تونس على اعتبار عجز البلد عن الحصول على قروض أو مساعدات خارجية، وتفعيل التداين من البنوك بشكل كبير وأنه لم يبق من حل غير تعديل قانون البنك المركزي وأن يمثل ذلك الحل لتوفير السيولة المالية المرجوة لفترة ما، لكن ذات المختصين يشددون على ضرورة وعي السلطات بمخاطر هذا التوجه على المدى الطويل، على مستوى ارتفاع التضخم لمستويات قياسية ممكنة وانخفاض قيمة الدينار.