11-ديسمبر-2020

الحركات الاحتجاجية خلال سنة 2020 اتخذت منعرجًا جديدًا من خلال التنسيقيات الجهوية (صورة أرشيفية من اعتصام الكامور/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

سنة الجوائح المناخية والصحية والسياسيّة.. عنوان يكاد يلخّص أخطر المحن التي مرّت بها البلاد التونسيّة خلال سنة 2020، ولئن ارتبط هذا التوصيف بالمعطلات والأزمات فإنّ الحديث عن باب الحلول والمعالجات يستدعي عناوين أكثر دقة خاصّة إذا تعلق الأمر بسياقات متداخلة يعزّ تقييمها سلبًا أو إيجابًا أهمّها ما اتّصل ببعض الاحتجاجات والتنسيقيات الاحتجاجية من ملابسات ومسارات ونهايات.

لا شكّ أنّ الاحتجاج في تونس قد تحوّل إلى "طقس من طقوس العبور من سنة إلى أخرى" على حدّ تعبير مهدي المبروك، وذلك بمناسبة إشرافه على ندوة نظمها المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات فرع تونس، يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020، عنوانها "الحركات الاحتجاجية.. الفضاء العام والدولة".

الحراك الشعبي في تونس خلال سنة 2020 خاصّة في المدن والجهات كان مختلفًا فريدًا استثنائيًا تنظيمًا وخطابًا ومطلبية وسلوكًا ميدانيًا

علّل المبروك قراءته بعدد من الوقائع التاريخية منها احتجاجات 1978 التي اقترنت بأحداث الخميس الأسود وانتفاضة الخبز عام 1984 وثورة الحرية والكرامة سنة 2011، وقد اندلعت جميعها وبلغت ذروتها بين شهري ديسمبر/ كانون الأول وجانفي/ كانون الثاني. 

رغم وجاهة هذه المقاربة التأليفية لإيقاع الاحتجاجات بدايةً وذروةً منذ عشرات السنين يحقّ لنا القول إنّ الحراك الشعبي في تونس خلال سنة 2020 خاصّة في المدن والجهات كان مختلفًا فريدًا استثنائيًا تنظيمًا وخطابًا ومطلبية وسلوكًا ميدانيًا، وهو ما أثار في المتابعين من عامّة المواطنين انطباعات متباينة تزاحمت فيها مشاعر الدهشة والإعجاب والقلق والخوف والاضطراب.

ولئن أفضى المشهد لدى عدد من المتهافتين إلى أحكام قطعية تجاذبها الافتتان أو التخوين، فإنّ نفس المشهد قد بثّ في الباحثين حيرة أثمرت عمقًا أكاديميًا ودقّة علمية تجلّت في أسئلة تحفر في أصول التنسيقيات ودوافعها ومرجعياتها من جهة، كما اتّضحت هذه المعالجة العقلية من خلال مقارنات منفتحة على تجارب مشابهة من الماضي أو من العصر الراهن، ورغم تلك المجهودات الوصفية والتفكيكية والتأويلية لم نجد أحكامًا يقينية لدى أصحاب المبادرات الجادّة في فهم التنسيقيات الاحتجاجية في تونس. لذلك ظلّت بعض الإشكاليات الخطيرة موضوع استقراء وتبصّر.

تثير التنسيقيات الاحتجاجية ثلاث إشكاليات كبرى في صلة بالمنظمات التقليدية والأحزاب من جهة وفي علاقة بالدولة والحكومات والوحدة الوطنية من جهة ثانية وفي ارتباط بالبنية الذهنية لدى التونسيين سواء كانوا من النخبة أو من عامّة المواطنين.

اقرأ/ي أيضًا: المدني والأهلي في الاحتجاجات الاجتماعية في تونس

الاتحاد، الأحزاب، التنسيقيات.. من الأقوى؟

"الاتحاد، الاتحاد أقوى قوّة في البلاد.." من الشعارات التي ما انفكّ يرفعها النقابيون في جلّ تحرّكاتهم الاحتفاليّة والاحتجاجية والتضامنية والرمزية، ولئن بدا هذا الشعار مستفزًا بالنسبة إلى الحكومات لاسيما قبل الثورة وبالنسبة إلى بعض الأحزاب بعد 2011 فإنّ المعطيات الميدانية والمحطّات النضاليّة والنتائج العملية التي أدركها أبناء حشّاد وأحفاده تؤكّد مضامين ذاك الشعار، ففي عهد بن علي كانت ساحة محمد علي الحامي الخيمة التي يأتيها المعارضون طلبًا للحماية والأمان ولم يكن لها ندّ آنذاك في دور الذود والستر والكفالة غير مقر جارها ذي اللون السياسي "الحزب الديمقراطي التقدّمي".

ظنّ "بعض المنظرين" تسرّعًا أو بدافع الحقد الدفين أن قوة الاتحاد بعد الثورة ستسير إلى الزوال والتلاشي، وعللوا ذلك بالحريات الفردية والسياسيّة التي ستجعل جحافل من المنخرطين والمناضلين ينفضّون عن هذه المنظمة الوطنية العريقة فينخرطون في أحزاب وجمعيات ناشئة أو قديمة كانت مقموعة ممنوعة من النشاط المعلن.

لم تتحقق هذه التنظيرات الأشبه بالأمنيات فقد واصل الاتحاد العام التونسي للغشل على امتداد عشرية كاملة بعد الثورة تزعُّم النفوذ الاجتماعي والمطلبي رغم المزاحمة الحزبية، وكانت له الغلبة في العديد من المحطّات، فكلّ الاحتجاجات الجهوية والمهنية وحتّى الحقوقية ظلّت تستجير به ممّا جعله إمام المظلومين والمحتاجين في الغالب ورسول الحكومات والسياسيين أحيانًا حينما تتجه السلطة في بعدها العميق والمركب إلى التعديل في حرارة الحجاج وحماسة الاحتجاج ومنسوب الاحتقان هنا وهناك.

صوت بعض الحركات الاحتجاجية بدا عصيًا على تأطير اتحاد الشغل، لم تتمكن وفود الاتحاد من ضبط آفاق فئة جديدة من المحتجين وخططهم ومقاصدهم ومثال ذلك ما حصل في الكامور

الدور التعديلي للاتحاد كان أخطر على وحدة الاتحاد العام التونسي للشغل من تربص عدد من الأحزاب به، من هنا بدأت تظهر بعض علامات التململ والرفض لعدد من قرارات المركزية النقابية، وقد تجّلى ذلك خاصة في بعض القطاعات منها جامعة التعليم الثانوي، ولئن تمكّنت "الثوابت الاتحادية والعقلية النقابية" من حماية المركَب/ "الشقف" داخليًا بدوافع تظافرَ فيها المبدئيّ والمرحليّ والنفعي والإكراهي فإنّ صوت بعض الحركات الاحتجاجية بدا عصيًا على التأطير، لم تفلح حكومة يوسف الشاهد في كبح جماحه ولم تتمكن وفود الاتحاد من ضبط آفاق فئة جديدة من المحتجين وخططهم ومقاصدهم. يتّضح هذا في العديد من التصريحات الدالة على الخلاف المعلن بين الاتحاد وعدد من التنسيقيات، أخطرها الرسائل الحادّة والمتعالية التي وجهها الناشط باعتصام الكامور وقائده طارق الحداد إلى نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل.

اقرأ/ي أيضًا: عندما تُصغي الدولة إلى هامشها

هل سحب شباب الكامور البساط من الأحزاب والمنظمات التقليدية؟

راهن معتصمو الكامور في بداية حراكهم في مارس/ آذار 2017 على دعم الاتحاد العام التونسي للشغل غير أنّ الحدّاد ورفاقه عدلوا سنة 2020 نهائيًّا عن هذا المنحى التقليدي النمطي البيروقراطي فكان التعويل على عقيدة احتجاجية جديدة عنوانها "التنسيقيات" التي أظهرت واقعية في التخطيط وعنفوانًا في التنفيذ ونجاعة في النتائج فكان التتويج ماديًّا واعتباريًا ففضلاً عن حصول أبناء تطاوين على جلّ مطالبهم، اعترف هشام المشيشي، رئيس الحكومة، لأبناء هذه الجهة بأن رغباتهم كانت مشروعة ونوّه بما قدموه عبر تنسيقية الكامور من تصورات ومقترحات. هذا الثناء بدا محرجًا للاتحاد العام التونسي للشغل لأنه لم يكن طرفًا في الاتفاقية لكن آثاره بدت في صلة بالدولة وبالفكر الاحتجاجي أخطر، كيف لا وقد تحوّل "شباب الكامور" إلى نموذج يحتذى في بقية المدن والجهات، حتّى كدنا نسمع صوتًا مدويًا "تنسيقيات، تنسيقيات أقوى قوة في البلاد".

أربعة عناصر جعلت صوت التنسيقيات أقوى حجة وأنجع احتجاجاً أوّلها دسترة الإضراب والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتمييز الإيجابي للجهات المحرومة من التنمية وثانيها تواصل معاناة المدن المحرومة بسبب البطالة والتهميش والتفقير وثالثها ضعف الحكومات في التخطيط والتواصل والإنجاز بصرف النظر عن نوايا وزرائها ورؤسائها المتعاقبين والأحزاب التي تدعمها ورابع العناصر هو كما أوضحنا تراجع دور الاتحاد العام التونسي للشغل في تأطير الاحتجاجات نظرًا إلى أسباب عديدة منها ثقل المسؤولية، فقد أصبح في بعض الفترات المتوترة ملزمًا بدافع وطني واجتماعي في آن بالجلوس على كرسي العمال وكرسي الدولة/الحكومة، وهو ما جعله يفقد رصيده من الثقة مرة لدى هذا الطرف ومرة لدى الطرف الآخر، فكان أن سحبت منه بعض التنسيقيات زمام المبادرة والقيادة في العديد من المواقف، ولا حديث هنا عن الأحزاب فمقامها بين التنسيقيات يكاد يكون معدومًا أو هكذا يتهيّأ لنا.

تحوّل "شباب الكامور" إلى نموذج يحتذى في بقية المدن والجهات، حتّى كدنا نسمع صوتًا مدويًا "تنسيقيات، تنسيقيات أقوى قوة في البلاد"

جهوية الدولة والمنظمات أظهر للعيان من جهوية التنسيقيات

حاول العديد من المحلّلين النمطيين التصدّي للتنسيقيات فرموها بسهام شتّى متضاربة الألوان والخلفيات، فهذا يدّعي أنّها وجه من وجوه تشكّل الفكر الشيوعي والعنف الثوري، وذاك يوهم أنّ صلة رحم "فوضوية" تجمع "التنسيقيين" مع رابطات حماية الثورة وائتلاف الكرامة وفئة من السلفيين وأولئك يرمون شباب الكامور وأترابهم في قفصة وقابس بتهمة التخطيط لتقسيم البلاد وتفكيكها، في المقابل يحاول بعض الباحثين فهم ظاهرة التنسيقيات بالاعتماد على المعاينة الميدانية والوصف الدقيق والتفكيك المتأني، نلمس هذا خاصّة في آراء جهاد الحاج سالم، الباحث في علم الاجتماع، يقول في مداخلته خلال الندوة المشار إليها ما معناه: "إنّ الإفراط في إدانة  التنسيقيات من قبل البعض يندرج ضمن خطّة التصدّي لرؤية قيس سعيّد، رئيس الجمهورية، فهو الذي بنى حملته الانتخابية على التنكّر للأحزاب والإعراض عن المنظمات التقليدية رغم دعمها له في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية 2019".

في نفس السياق، ينفي الحاج سالم، مستندًا إلى المعاينة الميدانية، عن تنسيقية الكامور بعدها العروشي فقد "قام التنظيم على انتخاب مجموعة تمثل كل مراكز المعتمديات غمراسن والبير الأحمر ورمادة وتطاوين الجنوبية وتطاوين الشمالية والذهيبة... فانتهوا حسب رأيه إلى إطار تشاوري ومتوازن". ويؤكّد الحاج سالم أنّ حكومة يوسف الشاهد هي التي راهنت على التفتيت وزرع الفرقة والنعرات من خلال عزمها في تلك الفترة على تحويل إحدى العمادات إلى معتمدية.

الحجة التي ساقها الحاج سالم غير كفيلة بتفنيد تهمة الجهوية عن التنسيقيات لذلك عمد المتحدّث إلى حجّة تبدو أكثر نجاعة تقوم على معادلة مفادها أنّ الجهوية هي أعدل الأشياء توزيعًا داخل الدولة وبين المنظمات بل إنّ هذا المنحى موجود ومنتشر في المواقع الرسمية أكثر من حضوره في التنسيقات، ومن الأمثلة التي ساقها الباحثُ لدعم أطروحته تركيبة النقابات في قفصة التي تتحكم فيها العروشيات بشكل معلن مكشوف، ولم يتردّد الحاج سالم في التشديد على أنّ وزراء الحبيب بورقيبة أغلبهم من جهة الساحل، فالجهوية من هذا المنطلق هي سليلة الدولة منذ بداية تشكلها بعد الاستقلال.

جهاد الحاج سالم (باحث في علم الاجتماع): الدولة لا تضعف بسبب الحركات الاحتجاجية إنما تضعف حينما تتعمّد أو تعجز عن التنمية فالدولة هي التي استضعفت نفسها بنفسها حينما أهملت عمقها وتناست أطرافها الداخلية 

وردًا على خطورة التنسيقيات على قوة الدولة وهيبتها ونفوذها أكّد الحاج سالم أنّ الدولة لا تضعف بسبب الحركات الاحتجاجية في الجنوب أو في الوسط الغربي أو في بعض مدن الشمال إنما تضعف حينما تتعمّد الحكومات أو تعجز عن التنمية داخل هذه الجهات فالدولة هي التي استضعفت نفسها بنفسها حينما أهملت عمقها وتناست أطرافها الداخلية. 

من جهة أخرى، نفى الحاج سالم أن تكون التنسيقيات متعارضة في توجهاتها مع النقابات دليل ذلك في رأيه أنّ التنسيقيات التي نظمت الإضرابات العامة في القيروان وجندوبة مثلت النقابات فيها النواة الصلبة وقس على ذلك تنسيقية "الانتداب حقّي" التي أفلحت في ضمان المصادقة على تشغيل من طالت بطالتهم ضمن ميزانية 2021، فقد ساهمت في دعم هذه التنسيقية، حسب رأيه، وجوه متعددة المشارب، سياسية ونقابية وحقوقية وحزبية، فكشف ذلك عن مشهد معقد أبعد ما يكون عن الأنساق التقليدية المغلقة.   

اتّضح من خلال هذا العرض أنّ الحركات الاحتجاجية خلال سنة 2020 قد اتخذت منعرجًا جديدًا تجلّى من خلال التنسيقيات الجهوية، لكنّ المنعرج الأخطر الذي يحتاج إلى مزيد النظر والتحقيق هو تحوّل بعض الأطراف التي تمثّل الدولة/ السلطة/ النظام من موقع الطرف المستهدف في الاحتجاجات إلى موضع القطاع المحتج المطالب بحقوقه أعني بذلك الأمنيين والقضاة والنواب في البرلمان ممّا يجعل المشهد أكثر إثارة وأدعى إلى مزيد البحث والتأمّل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في ثقافة غلق "الفانا"..

لماذا لا تمتلك القصرين خالًا مثل حسيب بن عمار؟