مقال رأي
"أرض الذهب والنكران والخسران.." هذه الكلمات البليغة كانت خلاصة وصف لأحد سكان ريف منطقة الدولاب بالقصرين وهو يحدّثني بحرقة عن تنكّر الدولة له ولأهله بل ويرى أنّها تحتقرهم منذ عقود ولا تلتفت إليهم ولو نصف التفاتة رغم مساهمتهم في الثورة، مشيرًا بيده الخشنة لحقل الدولاب النفطي المتكوّن من 12 بئرًا والذي تستغله "شركة البحث عن النفط واستغلاله بالبلاد التونسية" منذ سنة 1968 ومحروس على مدار الساعة من قبل قوات من الجيش التونسي.
وفي رواية أخرى وخلال سنة 2019 كان بعض الشباب يتناقشون بأحد مقاهي العاصمة حول فوز الإسباني رافائيل نادال في نهائي بطولة "رولان غاروس للتنس" وفجأة تدخل أحد الشيوخ الحاضرين بالمقهى ليفسرّ للشباب بعض الأخطاء التحكيمية وجوانب أخرى فنّية تهم اللّعبة.. وعندما سألته عن سرّ هذه الثقافة الواسعة التي يتحوّزها بخصوص التنس قال "لقد كنت أشتغل في مناجم الحديد بالجريصة بالشمال الغربي أيام الاستعمار وكانت لنا ملاعب تنس وفريق للتنس وكنت عضوًا فيه لسنوات ولنا أيضًا أنشطة رياضية وثقافية متعددة وكان هناك رخاء اجتماعي تقوم به شركة "جبل جريصة" منذ سنة 1907 لفائدة العمال والمنطقة".
بسطت دولة الاستقلال يدها بالقانون منذ سنة 1956 على كل الثروة من أجل رسم وطن جميل لكل التونسيين لكنها على ما يبدو لم تلوّن كل الخريطة وبقيت بعض الجهات بل أغلبها مرسومة بقلم الرصاص
كلا التصريحين البسيطين يعكس في عمقه سياستين مختلفتين عاشتهما تونس الحديثة طيلة القرن العشرين واحدة في ظل مستعمر ينهب الثروة ويبقى على الفتات لأبناء الوطن ويوهمهم بالعدالة الاجتماعية، وأخرى في ظل دولة الاستقلال التي بسطت يدها بالقانون منذ سنة 1956 على كل الثروة من أجل رسم وطن جميل لكل التونسيين من الشمال إلى الجنوب لكنها على ما يبدو لم تلوّن كل الخريطة وبقيت بعض الجهات بل أغلب الجهات مرسومة بقلم الرصاص، وبقي المواطن طيلة عقود الجمهورية بلا جدوى، فقط هو موهوم من قبل من حكموا البلاد بشروط الحرية وإمكاناتها من أجل ديمقراطية شاملة لم تتحقق إلى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: هل يسقط السقف على الجميع؟
ولعلّ عيّنة اعتصام الكامور بتطاوين التي اندلعت منذ ثلاث سنوات وعرفت أوجها في الأشهر الأخيرة والتي إذا ما جرّدناها من غشائها السياسي السطحي ونظرنا إليها كفعل اجتماعي طبيعي فإننا لا محالة نقف على مسألتين هامتين هما: مدى استيعاب التونسيين للحظة الحرية التي منحتها إياهم ثورة 14 جانفي، ومن جهة ثانية العودة للمأزق القديم والأزلي للدولة التونسية وخاصة في مستوى جوهري وأساسي وهو "التقسيم العادل للثروة" الذي يتجلى عادة في تنمية شاملة ومستدامة ومحيّنة تمس كل القطاعات وتطال التشغيل والبنية التحتية وتثمين الخصوصيات المحلية في شتى المجالات.
إن حالة الكامور هي حالة أغلب الجهات وخاصة الخط الغربي للبلاد من الشمال إلى الجنوب، هناك حيث تتوفر الثروات الغابية والسطحية والجوفية من أخشاب ورخام وغاز ونفط، وفي نفس الوقت يعم الفقر والألم وانكسار أحلام الشباب على أخشاب قوارب الموت وهي تشق المتوسط في اتجاه أوروبا الطاردة بعد أن تقطعت بهم السبل في وطنهم وهم يرون ثرواتهم ترحّل أمام أعينهم دون أن يجنوا أي فائدة.
الكامور ليس ملفًا بل هو طفح اجتماعي ومراكمة لسنوات الخذلان والتناسي لتلك الجهة بأقصى الجنوب التونسي
وما فاجأ التونسيين بهذا الخصوص وجعلهم في حالة من الغضب والاستياء هو تعاطي الدولة مع ما سمّته هي بملف الكامور والحال أنه ليس ملفًا بل هو طفح اجتماعي ومراكمة لسنوات الخذلان والتناسي لتلك الجهة بأقصى الجنوب التونسي.
لقد كسرت الدولة كل قواعد التمييز المتعارف عليها وجلست للتفاوض مع ممثلي الاعتصام، من أغلقوا الفانا، بلا مخيال اجتماعي أو تاريخي أو ثقافي ومارست السياسة برعوية مطلقة وهو ما يحيلنا مباشرة على حالة الوهن السياسي التي تعيشها تونس هذه الأيام، فأن تمنح حكومة تعيش هشاشتها منذ انبعاثها ولا تملك عناصر قوتها وغير مسنودة سياسيًا سلّة من الامتيازات العينية والرمزية وبشكل استثنائي لجهة دون غيرها ولمجتمع محلي دون غيره فإنه وحسب المعايير السياسية يعدّ أمرًا فظيعًا، وبالعودة إلى كتاب "بداوة العالم" لعالم الاجتماع ميشال مافيزولي فنحن على ما يبدو نقف على أرض عائمة "يلتقي فوقها سياسيون واهنون بواقع نافذ".
اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح
ومع هذا الارتجال والتسرع السياسي الذي واجهت به الحكومة الحالية التحركات الاجتماعية بتطاوين فإنه لا غرابة أن تسري نار الاحتجاج في هشيم المجتمع التونسي بوتيرة سريعة وأن تنشأ ثقافة جديدة هي " ثقافة غلق الفانا" وتتحول إلى سلوك فردي أو جماعي. وإذا سلّمنا أن في كل مدينة أو قرية تونسية "فانا" ما يستطيع المحتجون في أي وقت يشاؤون غلقها وحرمان الوطن من إمداداتها ما دامت حسب اعتقادهم فوائدها لا تشملهم، فإن الدولة لا تستطيع معالجة الأمر بالسهولة التي عالجت بها تحرك الكامور بتطاوين.
وهذه الثقافة الجديدة التي سميناها "ثقافة غلق الفانا" تذكرنا بالفردانية المتأصلة في الإنسان وهذبتها المدنية فيما بعد على مرّ القرون ومرّ الحضارات ومرّ المجتمعات الإنسانية المتعاقبة "إنها الآفة التي تنخر كل بذور الفضائل العامة "حسب ما يذهب إلى ذلك المؤرخ والكاتب الفرنسي ألكسيس دي توكفيل في كتابه الديمقراطية في أمريكا، وهذا الخطر الذي بدأ في التشكل بنيويًا في تونس في السنوات الأخيرة وآخذ في التمأسس وسط وعي خاطئ بمفاهيم الدولة والحرية، لابد من إعادة فهمه سوسيولوجيًا ودعوة الدولة الآن قبل الغد إلى الالتزام ببؤس أبنائها بكل مسؤولية وموضوعية وحياد والتخلي عن تشخيص الآلام وتهوين المخاطر الاجتماعية والاكتفاء بكشف المتناقضات التاريخية والسياسية أو الاقتصادية للبلد دون تقديم البدائل الدائمة والحلول الجذرية.
الثقافة الجديدة التي سميناها "ثقافة غلق الفانا" تذكرنا بالفردانية المتأصلة في الإنسان وهذبتها المدنية فيما بعد على مرّ القرون ومرّ الحضارات
وإن واصلت الدولة التونسية برؤوس سلطتها الثلاث على هذا الوهن السياسي وسلوك رجل المطافئ وقصر النظر في إدارتها للأزمات الاجتماعية المتفاقمة في كل جهات البلاد فإن الأمر ماض إلى طريق خطرة لن تؤدي إلى سلم اجتماعية يلمس فيها المواطن تغييرات في حياته اليومية وفي قريته وجهته وإن تعاقبت الحكومات تعاقد السحاب تحت سماء الشتاء.
إن الألم الموضوعي الذي تعيشه تونس ومجتمعها منذ الاستقلال عن فرنسا وإلى اليوم هو الطريقة التي ننتج بها الثروة ونتقاسم بها الثروة والطرائق التي نتوخاها في تخفيف كل التباينات بين الجهات والولايات ومن ثمة إزاحتها أو ما يسميه خبراء الاقتصاد "بمنوال التنمية" في ظل مناخ عام من الحرية والديمقراطية.
ومتى فهمت الطبقة السياسية بوعي أخلاقي وفهمت النخب بوعي فلسفي وتاريخي وفهم كل البلد بتوكيد شديد وفهم الشعب التونسي الحر هذه الحاجات الملحة والتي باتت من المسائل الراهنة وأقيمت لها كل الأطر القانونية اللازمة فإننا لا محالة نذهب بكل رباطة جأش في طريق سالكة تحت شمس العدالة الاجتماعية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: