في الوقت الذي تلجأ فيه تونس إلى استيراد 70 % من حاجياتها من الحبوب بالعملة الصعبة، تُنشر عدّة تقارير رقابية تُفيد بتلف كميات كبيرة من تلك الحبوب، التي كانت من الممكن أن تُوجه للاستهلاك أو للاستعمال كبذور. وتتعرّض تلك الكميات للتلف بسبب سوء التخزين أو النقل، أو بسبب غياب مخازن التخزين الكافية في حال توفر صابة قياسية من بعض الحبوب.
وقد أثير أواخر السنة الماضية جدل كبير بخصوص إتلاف حوالي 17 ألف قنطار من الحبوب، بعد تركها للعراء دون استغلال أو توزيع. جدل فتح من جديد ملف تخزين الحبوب وفشل وزارة الفلاحة والصيد البحري في حفظ الأمن الغذائي للتونسيين في الوقت الذي تواجه فيه تونس سنويًا نقصًا في كميات الحبوب سواء المعدّة للاستهلاك أو للزراعة.
أثير أواخر السنة الماضية جدل كبير بخصوص إتلاف حوالي 17 ألف قنطار من الحبوب، بعد تركها للعراء، مما فتح من جديد ملف تخزين الحبوب وفشل وزارة الفلاحة في حفظ الأمن الغذائي للتونسيين
وتعود أطوار قضية تلف 17 ألف قنطار إلى ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد أن توصلت لجنة الفلاحة بالبرلمان بمعلومات تُفيد بأنّ كميات كبيرة من الحبوب تعود إلى صابة سنة 2018، توجد في العراء في التعاضدية المركزية للبذور والمشاتل بڨبلاط.
وقد انتقل وفد من المجلس على عين المكان لمعاينة الأضرار التي لحقت بتلك الصابة. وبيّن معز بالحاج رحومة رئيس لجنة الفلاحة والأمن الغذائي بالبرلمان في تصريحات إعلامية أنّ اللجنة "تفاجأت بوجود ما يقارب 17 ألف قنطار من الحبوب الفاسدة في العراء، ومعرضة للأمطار، وتقدر قيمتها بـ2.5 مليون دينار"، مشيرًا إلى أنّ اللّجنة قرّرت إحالة الملف على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومراسلة رئاسة الحكومة، ومطالبة وزارة الفلاحة بالتدخل العاجل لمحاسبة كل الأطراف المسؤولة عن الواقعة".
من جهتها، أفادت وزارة الفلاحة والصيد البحري في بيان لها أن "الشركة التعاونية للبذور والمشاتل الممتازة والمخزنة بمركز باجة المدينة، تولت تحويل 17 ألف قنطار من البذور من المركز المذكور إلى مركز التّجميع بقبلاط، وذلك حماية لكمية البذور المجمّعة من صابة موسم 2020 والبالغة 115 ألف قنطار والتّي هي تحت تصرّفها"، مشيرة إلى أنّ "عملية التحويل كانت على مراحل منذ شهر مارس/آذار 2020 عبر نقل 6 آلاف قنطار من البذور التي لم تحظ بالمصادقة من الجهة الرسميّة وتمّ رفضها. ثم 11 ألف قنطار من البذور، كان قد طلب ديوان الحبوب من الشّركة المذكورة آنفًا المحافظة عليها طبقًا للاتّفاقيّة المبرمة بين الطّرفين".
اقرأ/ي أيضًا: حوار│مسؤول في "الفاو": دجبة وغار الملح تقومان على نظام زراعي عبقري
وأضافت الوزارة في نفس البيان أنّه تمّ تخصيص 11 ألف قنطار منها بعد انتقائها لتحسين المراعي بالأراضي الدّوليّة و6 ألاف قنطار سيتمّ استعمالها لإنتاج المستسمد. وكانت هذه الوضعيّة محلّ متابعة من قبل المصالح المختصّة بالوزارة إذ وقعت عدّة زيارات لمواقع التّجميع منذ شهر أوت/أغسطس 2020، وتولّت وزيرة الفلاحة والموارد المائيّة والصّيد البحري إجراء زيارة فجئيّة لمنشآت الشّركة التّعاونيّة للبذور والمشاتل الممتازة في أوّل شهر سبتمبر/أيلول من ذات السّنة. وأذنت الوزيرة بتكوين لجنة فنيّة مختصّة في الغرض بموجب مقرّر مؤرّخ في يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 2020. كما تولّت اللّجنة القيام بزيارة الشّركة يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، ولازالت أشغالها متواصلة للوقوف على حقيقة الكمّيات المصابة بالتّسوّس وكذلك لتحديد المسؤوليات الفنيّة والتقصيريّة، وما سينجر عن ذلك من تتبّعات إداريّة وجزائيّة في الغرض.
كما أشارت الوزارة إلى أنّه "تم الإذن منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020 بإجراء تفقد إداري ومالي وفنّي في الغرض، تتولاه مصالح التّفقديّة العامّة بوزارة الفلاحة والموارد المائيّة والصّيد البحري. وطلبت الوزارة من الهيئة العامّة للرّقابة الماليّة إجراء تدقيق مالي للشّركة المعنيّة منذ تاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2020 ".
تونس تستورد 70 % من حاجياتها من الحبوب
وتستورد تونس وفق معطيات رسمية قرابة 70 % من حاجياتها من الحبوب مقابل توفير 30 % فقط، على الرغم من تأكيد العديد من الفلاحين والخبراء على قدرة تونس على توفير حاجياتها من الحبوب. الأمر الذي يطرح مسألة جدية المتدخلين في القطاع الفلاحي في السعي إلى تأمين الأمن الغذائي، والمحافظة على العملة الصعبة، والنظر في إشكاليات التخزين ومراقبة التعاضديات المسؤولة عن عملية التخزين.
تستورد تونس وفق معطيات رسمية قرابة 70 % من حاجياتها من الحبوب مقابل توفير 30 % فقط، على الرغم من تأكيد العديد من الفلاحين والخبراء على قدرة تونس على توفير حاجياتها من الحبوب
وقد ذكر المرصد الوطني للفلاحة، أنّ تونس استوردت منذ مطلع العام الماضي وإلى غاية أوت/أغسطس، قرابة 2210 ألف طن من الحبوب بقيمة 1.49 مليار دينار أي بزيادة بنسبة 21.2% على الرغم من أنّ تونس قد حققت صابة قياسية خلال موسم 2018/2019، إذ بلغت الحصيلة النهائية لصابة الحبوب حوالي 24 مليون قنطار مقابل 14 مليون قنطار خلال الموسم 2017/2018.
تلف الحبوب بسبب سوء التخزين
وتواجه صابة الحبوب أو الكميات المستوردة عدّة مشاكل على مستوى التخزين وغياب الإجراءات الناجعة لحمايتها من التلف. فقد تسببت الأمطار المسجلة في أواخر سنة 2019 في إتلاف جزء من صابة الحبوب في تونس الموجودة في مراكز التجميع وفي الحقول دون حماية. الأمر الذي أثار غضب الفلاحين الذين انتقدوا فشل وزارة الفلاحة والحكومة في حماية الأمن الغذائي في البلاد.
فيما تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي عدّة صور وفديوهات توثق تكدس أطنان من الحبوب، لاسيّما القمح، في العراء على الأرض في ساحة مركز تجميع الحبوب، ومعرضة للإتلاف. ولا يُعلم إلى اليوم مآل تلك الكميات الكبيرة التي أتلف جزء كبير منها جراء الأمطار.
حوادث أخرى تكرّرت في علاقة بسوء التصرّف في مخازن الحبوب وحفظ الصابة. فسبق أن أكد شوقي الطبيب الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ندوة صحفية خلال تقديم التقرير السنوي للهيئة لسنة 2018، أنّ وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري تصدّرت المرتبة الثانية في ملفات الفساد. وقد ذكر التقرير أنّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تعهدت بتاريخ 18 مارس/آذار 2015 بأعمال التقصي في شبهة تعلقت بديوان الحبوب، تتمثل في قبول وتخزين حبوب تحتوي على حشرة السوس الحي بمجموعة من الخزانات منها خزانات السيجومي والدهماني وباجة وجبل الجلود.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| عبد المجيد الزار: الدولة تضرب المنتج التونسي ونرفض "الأليكا"
كما أوضح التقرير أنّ أعمال التقصي أثبتت أنّ "الرئيس المدير العام لديوان الحبوب أصدر مذكرة داخلية بتاريخ 5 ماي/أيار 2015 تبيح لوكلاء المخازن قبول وتخزين الحبوب التي تحتوي على حشرة السوس، في تعارض مع مذكرة سابقة في نفس الموضوع مؤرخة في 11 أوت/أغسطس 2009 التي أوصت وكلاء المخازن بعدم قبول شحنات الحبوب المحتوية لحشرة السوس في مخالفة لدليل إجراءات شراء الحبوب المحلية".
وأشار التقرير إلى أنّ" الاختبار المجرى من طرف مخبر ديوان الحبوب بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على عينات الحبوب المخزنة بمخزن السيجومي تحتوي على 435 سوسة حية في الكيلوغرام الواحد". وأشارت الهيئة إلى أنّ "إصدار مثل هذه المذكرة من طرف الرئيس المدير العام لديوان الحبوب قد ألحق ضررًا جسيمًا بالمصلحة العامة، باعتبار أن قبول شحنات من حبوب تحتوي على حشرة السوس وخلطها بنفس الخزان مع الحبوب السليمة من شأنه إتلاف كامل المخزون وجعله غير صالح للاستهلال البشري بما يهدد الصحة العامة".
وأفاد محسن عرفاوي مقرر لجنة الفلاحة بالبرلمان، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ الزيارة إلى منطقة قبلاط في ديسمبر/كانون الأول الماضي، قام بها بعض أعضاء اللجنة ونواب جهة باجة بالبرلمان، بعد أن وردت إليهم معلومات عن وجود قمح معد للبذور سيتم التخلص منه"، مضيفًا أنّه يتمّ تداول المشكل في اللجنة والنقاش حول دور ديوان الحبوب في التخزين وطاقة التخزين".
محسن عرفاوي (مقرّر لجنة الفلاحة بالبرلمان): على الدولة أن تقوم بدورها بتوفير مخازن محترمة ومطابقة للمواصفات لاستيعاب الصابة المحلية، أو اتباع استراتيجية في المستقبل تضمن توفير البذور المحلية
كما لفت إلى أنّ "الإشكال يتمثل في كون الدولة تخلت عن دورها في التخزين ليس فقط فيما يتعلّق بديوان الحبوب بل حتى في ديوان الزيت"، متابعًا في هذا السياق: "تعاطينا مع أزمة الزيت العام الماضي عندما توفرت صابة كبيرة، بسبب مشكل تصدير الصابة، ولم يكن لديوان الزيت طاقة تخزينية كبيرة. كما أنّ الطاقة الكبيرة لتخزين الزيت كانت موجودة في صفاقس ولكنها كانت مخازن متلفة وغير صحية وملائمة للتخزين".
اقرأ/ي أيضًا: قطاع الدواجن في تونس يواجه التهميش وخطر التوريد "المشبوه"
وأردف، في ذات الإطار، أن "ديوان الحبوب يواجه مشكلة على مستوى قدرته في تخزين الحبوب، وهي قدرة ضعيفة جدًا. وتم مؤخرًا إنشاء مخزن في جبل الوسط بطاقات كبيرة".
واستدرك النائب القول إن "على الدولة أن تقوم بدورها عن طريق ديوان الحبوب، بتوفير مخازن محترمة ومطابقة للمواصفات لاستيعاب الصابة المحلية، أو اتباع استراتيجية في المستقبل تضمن توفير البذور المحلية، ودعم الفلاح والتقليل من كمية استيراد الحبوب عبر تحقيق نسبة هام من انتاجنا للحبوب"، مشيرًا إلى أن ذلك لن ينجح في ظل غياب طاقة تخزين هامة، ونقل الحبوب عن طريق السكك الحديدية، خاصة أننا واجهنا مشكل نقل صابة الحبوب خلال موسم سنة 2019".
كما أضاف مقرر لجنة الفلاحة أن أعضاء اللجنة قدموا سابقًا توصياتهم أكثر من مرة خلال اجتماعاتهم مع ديوان الحبوب، مضيفًا أنه سيقع تخصيص جلسة في علاقة بتخزين الحبوب للمطالبة بتحقيق جدي في علاقة بتلف الحبوب".
توفيق الزياني (رئيس نقابة الفلاحين): تلف الحبوب سببه غياب هياكل رقابية ناجعة في تونس ولتفادي ذلك يجب التخلص من الشكل الكلاسيكي للرقابة إلى شكل أنجع وأشمل
ومن جهته، أكد توفيق الزياني رئيس النقابة التونسية للفلاحين، في تصريح لـ"ألترا تونس"، "أهمية الزراعات الكبرى في تونس، باعتبارها تمثل تقريبًا 40 % من الأراضي الفلاحية المستغلة والمقدرة مساحتها بخمسة مليون ".
وشدد الزياني، في هذا الإطار، على أن قطاع الحبوب هو قطاع حيوي حساس، وفي علاقة مباشرة بالاكتفاء الغذائي وله علاقة بما يسمى بالسيادة الوطنية لأن السيادة الوطنية ترتكز على عدّة مقومات منها توفير الغذاء للمواطنين"، وفق تقديره
وتابع القول: "نحن في تونس لدينا ميزان تجاري غذائي غير متوازن لأنّنا نحتاج إلى توريد حوالي 60 أو 65 % من الحبوب. وهو رقم مفزع يبعث على الحيرة والتساؤل عن السياسية الفلاحية المنتهجة من طرف الحكومات المتعاقبة وخاصة بعد ثورة، خاصة وقد بقينا دائمًا مدينين للخارج في قطاع الحبوب".
كما أشار رئيس نقابة الفلاحية إلى أن "إشكالًا على مستوى الإنتاجية"، لافتًا إلى أن هناك عديد الإجراءات الضرورية لم يقع اتباعها مما أثر على الإنتاجية وإلاّ على الجودة".
وفيما يتعلق بتلف 17 ألف قنطار من الحلبوب، اعتبر الزياني أن سبب ذلك هو "غياب هياكل رقابية ناجعة في تونس"، مشيرًا إلى أنه هذه المعضلة تعاني منها كل القطاعات التي تواجه سوء التصرف وسوء المراقبة، مقرًا بأنه "لو وجدت مراقبة سليمة وناجعة ومستمرة، لما تلفت الحبوب"، حسب رأيه.
كما أكد أنّ "المراقبة يجب أن تخرج من الشكل الكلاسيكي إلى شكل أنجع. ولا تكون مقتصرة على وزارة الفلاحة والصحة. بل يجب أن تكون أشمل"، مشددًا على ضرورة "توسيع دائرة الرقابة لتقل عمليات الفساد وسوء الصرف"، وفق تقديره.
اقرأ/ي أيضًا:
أزمة الأسمدة تهدد الزراعات الكبرى هذا العام
العاملات في القطاع الفلاحي.. عن نساء يضمنّ الأمن الغذائي بالعرق والدم