أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في 25 جويلية/ يوليو 2021، عن حزمة من "الإجراءات الاستثنائية" شملت إنهاء مهمات رئيس الحكومة وتولي السلطة التنفيذية بنفسه، وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، ما يعني تعطيل مؤسستين دستوريتين أساسيتين، هما البرلمان والحكومة، فضلًا عن تولي رئاسة النيابة العامة (قبل أن تعترض السلطة القضائية على ذلك). وقد استند في ذلك إلى الفصل 80 من الدستور التونسي لعام 2014. تبدو هذه القرارات، من الوهلة الأولى، متسقة مع الاختصاصات الدستورية للرئيس، وهو الذي دافع في أكثر من مناسبة عن حقه في اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور وعن شرعية تأويله بعض الفقرات الواردة في هذا الفصل، وقد أعلن غير مرة، ولا سيما قبل انتخابه، عن رفضه هذا الدستور، وأبدى مؤخرًا رغبته في تغييره.
تبدو القرارات التي اتخذها سعيّد من الوهلة الأولى، متسقة مع الاختصاصات الدستورية للرئيس، وهو الذي دافع في أكثر من مناسبة عن حقه في اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور وعن شرعية تأويله بعض الفقرات الواردة في هذا الفصل، وقد أعلن غير مرة، ولا سيما قبل انتخابه، عن رفضه هذا الدستور، وأبدى مؤخرًا رغبته في تغييره
غير أنّ قراءةً متعددة الزوايا لمضمون هذا الفصل لا تساعد في تأكيد رجاحة ما أقدم عليه الرئيس من قرارات أدخلت البلاد في خضمّ أزمة سياسية كبرى.
وقد يكون من العبث مناقشة الخطوات التي اتخذها الرئيس دستوريًا، فهي مدفوعة سياسيًا ومعدّة سلفًا في انتظار التوقيت المناسب لتنفيذها. وكان البند 80 مجرد أداة لإضفاء الشرعية على خطواتٍ هدفها الواضح والمعبّر عنه أخيرًا هو الانقلاب على الدستور. ومع ذلك، يبدو لنا من المهم تاريخيًا نزع أداة الشرعنة هذه من يديه. وعلى الرغم من أنّ النقاش سياسي وليس دستوريًا، فإننا سنبين في هذه الورقة عدم دستورية خطواته.
- أولًا: الفصل 80 من الدستور وتأويلات الرئيس
استند الرئيس سعيّد، في قراراته، وبالأساس، إلى الفصل 80 من دستور 2014، لا سيما فقرته الأولى، التي تقضي بأنّ "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب". تبدو هذه الفقرة واضحة، خالية من أي غموض أو التباس، وتدخل أحكامها في صلب اختصاص رئيس الجمهورية، كما هو الحال في العديد من دساتير العالم (الفصل 16 من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية لعام 1958، والفصل 59 من دستور المملكة المغربية لعام 2011 على سبيل المثال). كما أنّ الفقرة تفرض عددًا من الشروط الضرورية للجوء إلى تفعيلها، والإجراءات الشكلية المطلوب من رئيس الدولة أن يتقيد بها حين يُقْدم على اتخاذها. فإعلان الحالة الاستثنائية، يشترط وجود "خطر داهم"، واضح من حيث الوقائع القابلة للتحديد والقياس، وأن يكون الخطر "مهددًا فعلًا لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها"، وأن يكون بالنتيجة "معرقلًا لسير دواليب الدولة".
يتبين من صريح هذه الفقرة أنّ المشرّع الدستوري التونسي، خلافًا لما ورد في بعض الدساتير المقارنة، كان أكثر تشديدًا على توافر الشروط الموضوعية الداعية إلى الإعلان عن الحالة الاستثنائية. ومن هنا، تتجلى الأهمية الكبيرة للشروط الموضوعية المفضية إلى اللجوء لتفعيل الفصل 80، أي أن يكون ثمة فعلًا "خطر داهم" مهدد لأمن البلاد واستقلالها، ومعرقل لسير مؤسساتها، وعلى رئيس الجمهورية، الممارس الدستوري لهذا الحق، أن يُقنع الجميع بوجود هذا الخطر.
أما الشروط الشكلية الواجب التقيد بها فتحددت في استشارة رئيس الحكومة، أي الرأس الثاني للسلطة التنفيذية، ورئيس البرلمان (مجلس نواب الشعب)، و"إعلام رئيس المحكمة الدستورية"، وكلها مؤسسات دستورية بالغة الأهمية في إضفاء الشرعية على إعلان رئيس الجمهورية الحالة الاستثنائية. فالواضح من خلال التصريحات المتبادلة، أساسًا بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب، أن ليس ثمة أي اتفاق على أن الاستشارات تمّت، وفق ما هو مطلوب دستوريًا، أي من خلال حوار واضح، وشامل، ومقنع بتعرّض البلاد لـ "خطر داهم" يستلزم اتخاذ إجراءات استثنائية، في حجم تلك التي أقدم عليها الرئيس سعيّد. ثم إن الجهة المطلوب إعلامها، أي المحكمة الدستورية، لم تُنشأ ولم يُنصَّب أعضاؤها بعد، على الرغم من تكريسها في الوثيقة الدستورية لعام 2014 (الفصلان 118 و124). ولعل الشرط الوحيد الذي حرص رئيس الجمهورية على تطبيقه، هو الإعلان عن الحالة الاستثنائية في بيان رسمي موجّه إلى الشعب.
ترتب عن عدم إحداث المحكمة الدستورية فراغٌ دستوري استغله رئيس الجمهورية ليبرر الإعلان عن الحالة الاستثنائية بطريقة غير دستورية. وقد ضاعفت خطورة هذا الفراغ خلوّ دستور 2014، من النص على الحالة الانتقالية التي يستمر المجلس الدستوري خلالها في ممارسة مهمات المحكمة الدستورية
تعتبر الفقرة الثانية من الفصل 80 شارحة الفقرة الأولى، وموضحة أحكامها، أما قيمتها في البناء الدستوري فتعدّ ناظمة ومحددة لتطبيق "الإجراءات الاستثنائية" على نحوٍ سليم ومتناغم مع الشرعية الدستورية. فمن جهة، حصرت الغرض من "التدابير الاستثنائية" في "عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال"، أي تقييد شرعية "الإجراءات الاستثنائية" بضمان عودة البلاد إلى وضعها الطبيعي (أي إزالة الخطر الداهم وتداعياته)، والتأكيد على أن يتم ذلك في أقرب الآجال (أي استبعاد استدامة الحالة الاستثنائية). ومن جهة ثانية، أكدت الفقرة ذاتها على بقاء "مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة فترة سريان الإجراءات الاستثنائية". وبصريح منطوق هذه الفقرة لا يجوز إيقاف عمل البرلمان، كما مُنع على رئيس الجمهورية "حلّ مجلس نواب الشعب"، ولا يحق له "تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". وهو عكس ما نصّت عليه قرارات الرئيس سعيّد في 25 جويلية/ يوليو 2021، حيث قرر تجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوّابه.
ونظّمت الفقرة الثالثة من الفصل 80 مسألة "الآجال"، والإجراءات المطلوبة في حال انقضى شهر على الإعلان عن حالة الاستثناء، وظل "الخطر الداهم" قائمًا، ولم تعد الأوضاع إلى حالتها الطبيعية. فالفقرة جاءت واضحة من حيث تحديد الجهة التي لها صلاحية "البتّ في استمرار الحالة الاستثنائية"، حيث قصرتها على المحكمة الدستورية، بقولها: "وبعد مضيّ ثلاثين يومًا على سريان هذه التدابير وفي كل وقت بعد ذلك، يُعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يومًا". لذلك، وفي غياب المحكمة الدستورية، كما سبقت الإشارة، أصدر الرئيس سعيّد، في 23 أوت/ أغسطس 2021، قرارًا آخر بتمديد حالة الاستثناء إلى إشعار آخر. وفي كل الأحوال، كما قضت بذلك الفقرة الرابعة والأخيرة من الفصل 80 "يُنهَى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها، ويوجه رئيس الجمهورية بيانًا في ذلك إلى الشعب".
- ثانيًا: ملاحظات قانونية-دستورية
تثير قراءة فقرات الفصل 80، والمنهجية التي اعتمدها الرئيس سعيّد في تأويلها، وصياغتها في ثلاثة قرارات استثنائية أوقفت مؤسستَي البرلمان والحكومة، وأوقفت عمليًا آليات اشتغال المنظومة السياسية في تونس، العديد من الملاحظات ذات الطبيعة الدستورية الشكلية والسياسية الموضوعية.
1. الملاحظات الدستورية
ترتب عن عدم إحداث المحكمة الدستورية فراغٌ دستوري استغله رئيس الجمهورية ليبرر الإعلان عن الحالة الاستثنائية بطريقة غير دستورية. وقد ضاعفت خطورة هذا الفراغ خلوّ دستور 2014، خلافًا لبعض الدساتير المقارنة، من النص على الحالة الانتقالية التي يستمر المجلس الدستوري خلالها في ممارسة مهمات المحكمة الدستورية
تتمثل الملاحظة الأولى بأنّ إجراءات الرئيس لم تستوف كامل شكلياتها الدستورية، من حيث توضيح طبيعة "الخطر الداهم"، وهو المسوّغ الجوهري لإضفاء الشرعية على تفعيل الفصل 80، حيث اكتفى بالحديث عن الفساد في تونس، تارة بعبارات عامة وفضفاضة، وتارة أخرى بالتلميح والتهديد، وأحيانًا بالإشارة إلى عدد المتورطين في ملفات الفساد، من دون بيّنة ولا تفصيل. وعلى الرغم من إجراءات إيقاف عدد من الأشخاص ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية ومنعهم من السفر خارج البلاد، فإن قضية الفساد لم تجد بعد طريقها إلى المعالجة القضائية.
وتتعلق الملاحظة الثانية بـ "الاستشارة"، الواردة بوصفها إجراءً دستوريًا في نص الفقرة الأولى من الفصل 80، حيث لم تجر وفق القواعد والإجراءات المطلوبة في الاستشارات بين مكونات النظام السياسي، أي الحوار والسعي إلى حصول توافق عام حول خطورة ما يبرر الحالة الاستثنائية من جانب جميع الأطراف المعنية حصرًا بالاستشارة في نص الدستور. وحتى إذا افتُرض أنّ الاستشارة الواردة في الفقرة الأولى تظل من دون قوة إلزامية بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، وأنه وحده صاحب القرار النهائي، فإنّ الظرفية السياسية المفضية إلى حالة الاستثناء تقتضي تبادل الآراء والوصول إلى ما يحافظ على الحد الأدنى من الإرادات المختلفة والمتنوعة في المجال السياسي التونسي.
يبدو أنّ رئيس الجمهورية يهدف من خلال تأويله الشخصي للدستور، والتذكير في أكثر من مناسبة بأنّ له قراءة خاصة للدستور وأحكامه، إلى تقويض المنظومة الدستورية والسياسية وإعادة صياغتها، حتى إن تعلّق الأمر بتحويل النظام السياسي التونسي من شبه برلماني إلى رئاسي
أما الملاحظة الثالثة فترتبط بغياب المحكمة الدستورية، التي أولاها دستور 2014 أهمية خاصة، وأوكل إليها حماية التطبيق السليم لأحكام الوثيقة الدستورية، ودرء مخاطر الانزلاق نحو الشطط في استعمال السلطة من جانب المؤسسات الدستورية، وعلى وجه التحديد مجلس نواب الشعب، والسلطة التنفيذية برأسيها، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. فقد ترتب عن عدم إحداث المحكمة الدستورية فراغٌ دستوري استغله رئيس الجمهورية ليبرر الإعلان عن الحالة الاستثنائية بطريقة غير دستورية. وقد ضاعفت خطورة هذا الفراغ خلوّ دستور 2014، خلافًا لبعض الدساتير المقارنة، من النص على الحالة الانتقالية التي يستمر المجلس الدستوري خلالها في ممارسة مهمات المحكمة الدستورية إلى حين إحداث هذه الأخيرة وتنصيب أعضائها، ويبدو أنّ هذه المنهجية التي استند إليها الرئيس ستبقى ملازمة لتونس إلى حين زوال "الخطر الداهم"، وستُطلق يد رئيس الجمهورية ليُقدم على إجراءات جديدة لا أحد يعرف على وجه اليقين طبيعتها، وأبعاد تأثيرها في الأوضاع العامة للبلاد.
2. الملاحظات الموضوعية
يبدو أنّ رئيس الجمهورية يهدف من خلال تأويله الشخصي للدستور، والتذكير في أكثر من مناسبة بأنّ له قراءة خاصة للدستور وأحكامه، إلى تقويض المنظومة الدستورية والسياسية وإعادة صياغتها، حتى إن تعلّق الأمر بتحويل النظام السياسي التونسي من شبه برلماني إلى رئاسي. فقد وجّه في أكثر من مناسبة، وأثناء حملته الانتخابية، نقدًا شديدًا للوثيقة الدستورية التي جرى التوافق بشأنها عام 2014، كما شدد، في أكثر من مناسبة، على أنها وضعت على مقاس بعض القوى السياسية الوازنة في الحياة الحزبية التونسية (حركة النهضة تحديدًا). ولم يتردد في الدعوة إلى أنّ تونس في حاجة ماسّة إلى إعادة كتابة دستورها من جديد. لذلك، لا يُستبعَد أن تنتهي طريقته الخاصة في تأويل الدستور بصياغة وثيقة جديدة، يُطلب من الشعب الموافقة عليها عن طريق آلية الاستفتاء، طالما أنه جمّد عمل البرلمان، حيث يضمن الدستور الحالي، في الفصل 143، لرئيس الجمهورية أو ثلثَي البرلمان حق المبادرة بتعديله.
لم تكن قرارات الرئيس سعيّد مفاجئة إلى حدٍّ ما، فتشكيكه في جدوى الديمقراطية التمثيلية يعود إلى حملته الانتخابية وإلى الأشهر الأولى من انتخابه، بل إنّ خطابه الانتخابي كان مبنيًا على التشكيك في كل شيء تقريبًا، وفي الأحزاب السياسية وعدم قدرتها على الظفر بثقة المواطنين، والتأكيد على ضعف أداء الفاعلين السياسيين بمختلف أطيافهم، وخواء الحياة السياسية التقليدية بشكل عام، وحاجة البلاد إلى التجديد والاجتهاد في تغيير أنماط الممارسة السائدة منذ عقود. لذلك، فهمت شرائح واسعة من المجتمع التونسي، التي فقدت الثقة بالسياسة، وحتى أولئك المتذمرون من ممارسات الأحزاب التقليدية ومظالم النظام القديم، أنّ مرشحًا مثل قيس سعيّد، أكاديمي، قادم من خارج النظام السياسي القائم، يمكن أن يسهم في التغيير والنهوض بتونس. وقد استغل سعيّد مشاعر الإحباط هذه، ما مكّنه في عام 2019، من الحصول على 72 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية.
- ثالثًا: إعلان الحالة الاستثنائية بين الدستوري والسياسي
يصعب فهم اللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية في تونس من الناحية الدستورية بمعزل عن السياق السياسي العام في البلاد منذ عام 2014 بصورة عامة، وبعد انتخابات عام 2019 الرئاسية بصورة خاصة. فالأزمة التونسية ليست أزمة دستورية فحسب، بل هي أيضًا ذات طابع مركّب، سياسي واقتصادي اجتماعي. لذلك، تحكّم السياق التونسي العام في لجوء رئيس الجمهورية إلى اتخاذ القرارات الاستثنائية التي أوقفت عمليًا اشتغال المؤسسات الدستورية إلى أجل غير معروف في الزمن المنظور.
لا شك في أنّ الحياة السياسية في تونس تعرف فجوة بين فاعليها، لا سيما بعد نهاية التوافق بين المكونات السياسية الرئيسة (الترويكا) التي قادت التحالفات الحكومية الأولى، في عهدَي حمادي الجبالي وعلي العريّض، قبل أن تشرع في التراجع والتلاشي بعد 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014.
لم يعرف المشهد السياسي التونسي درجة التوتر التي يشهدها بعد 25 جويلية/ يوليو. ففي ظل وجود اتجاهات سياسية متعارضة في أعقاب سقوط نظام زين العابدين بن علي في عام 2011، وتشكيل الحكومات الأولى، بما فيها حكومة الترويكا التي جمعت ثلاث قوى سياسية متباينة المنطلقات والأهداف، ظل البحث عن التوافق السمة الغالبة، وانتصر منطق الحوار والبحث عن المشترك على غيره من المواقف المتحكمة في مسار التحول الديمقراطي في تونس. أما بعد عام 2019، وتحديدًا منذ الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة (البرلمانية)، فقد تغلّب منطق التجاذب بين رؤوس المؤسسات الدستورية الثلاث (رئاسات الدولة والبرلمان والحكومة)، وضعفت ثقافة البحث عن المشترك لخدمة الإنجازات الفعلية التي ينتظرها التونسيون منذ عقد من الزمن.
يخفي التجاذب بين الرئاسات الثلاث حول الصلاحيات الممنوحة لكل واحدة منها بمقتضى دستور 2014، خلافاتٍ سياسيةً عميقة، تدفع تونس ضريبتها. ويبين النقاش الدستوري بشأن هذه الأزمة ضعف الأسانيد القانونية التي يستند إليها رئيس الجمهورية وعدم تطابقها مع روح الوثيقة الدستورية، إذ يقدّم تأويلًا يحوّر نص الدستور ويغيّر روحه.
ويعود تنامي هذا التوتر إلى صراعات سياسية عرفتها السلطة في تونس خلال السنوات الأخيرة، أبرزها ما حصل بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، حين بادر هذا الأخير في ماي/ أيار 2020 إلى تهنئة رئيس المجلس الرئاسي الليبي، فايز السراج، باسترجاع قاعدة الوطية الجوية من قوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر. حينها ردّ الرئيس سعيّد مخاطبًا رئيس البرلمان، راشد الغنّوشي، قائلًا إن "لتونس رئيس واحد".
يخفي التجاذب بين الرئاسات الثلاث حول الصلاحيات الممنوحة لكل واحدة منها بمقتضى دستور 2014، خلافاتٍ سياسيةً عميقة، تدفع تونس ضريبتها. ويبين النقاش الدستوري بشأن هذه الأزمة ضعف الأسانيد القانونية التي يستند إليها رئيس الجمهورية وعدم تطابقها مع روح الوثيقة الدستورية
أعقب ذلك محاولاتٌ لسحب الثقة من رئيس البرلمان، لكنها لم تكلّل بالنجاح. وقد توالت الوقائع المؤكدة لهذا المنطق الجديد في السياسة التونسية، كما حدث مع استقالة إلياس الفخفاخ الذي رشّحه الرئيس، بسبب اتهامات بالفساد وتضارب المصالح. وحتى بعد تعيين رئيس الحكومة الجديد، هشام المشيشي، وتصديق البرلمان على الأسماء المقترحة في حكومته، لم يتردد الرئيس في الاعتراض على أسماء بعض الوزراء في الحكومة الجديدة، بزعم أنهم متورطون في الفساد، ورفَض أن يؤدوا القسم الدستوري أمامه، وهو ما جعل رئيس الحكومة نفسه يقيل الوزراء الذين اقترحهم الرئيس والمحسوبين جميعهم في صفّه، وإن كان هناك تضارب مصالح، كما هو الأمر بالنسبة إلى شخص وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، الذي ترأّس حملة قيس سعيّد الانتخابية في ولاية سوسة، إضافة إلى وزيرَي الثقافة والسياحة.
يخفي التجاذب بين الرئاسات الثلاث حول الصلاحيات الممنوحة لكل واحدة منها بمقتضى دستور 2014، خلافاتٍ سياسيةً عميقة، تدفع تونس ضريبتها. ويبين النقاش الدستوري بشأن هذه الأزمة ضعف الأسانيد القانونية التي يستند إليها رئيس الجمهورية وعدم تطابقها مع روح الوثيقة الدستورية، إذ يقدّم تأويلًا يحوّر نص الدستور ويغيّر روحه. ومن يتابع تفسيرات رئيس الجمهورية فإنه يلمس إصراره الممنهج على إبراز المكانة المتخيلة لديه التي ينبغي لمؤسسة الرئاسة أن تحظى بها، حتى وإن جاءت مخالفة لروح الدستور الذي سعى واضعوه إلى تجريده من النزعة الرئاسوية (أو تغوّل النزعة الرئاسية المفرطة) التي سادت أثناء حقبة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، وتأكدت أكثر في عهد الرئيس زين العابدين بن علي. وقد جاء دستور 2014 ليستمد روحه من مبدأ الحد من هذه النزعة والإبقاء على اختصاصاتٍ متوازنة بين رأسَي السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
في مقابل ذلك، يستند رئيسَا البرلمان والحكومة في رؤيتهما لتحديد صلاحيات الرئيس إلى أنّ الحكومة تتشكل من خلال نتائج الانتخابات التشريعية، ويتم مباركتها بموافقة البرلمان وتنصيبه لها، وأنّ جوهر العملية السياسية ينحصر في دائرة البرلمان والحكومة.
- خاتمة
في ظل غياب المحكمة الدستورية التي تبتّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه في غضون ثلاثين يومًا من إعلانها، بحسب الفصل 80 من الدستور، قرر الرئيس سعيّد، في 23 أوت/ أغسطس 2021، تمديد سريان العمل بالإجراءات الاستثنائية إلى إشعار آخر. واكتفت الرئاسة التونسية بالإشارة إلى أنّ "أمرًا رئاسيًا قضى بتمديد التدابير الاستثنائية إلى إشعار آخر"، وأنّ "الرئيس سيتوجه في الأيام القادمة ببيان إلى الشعب التونسي". حدث هذا رغم أنّ الرئيس سعيّد كان قد وعد في 25 جويلية/ يوليو بأنّه سيعيّن رئيس حكومة بنفسه خلفًا لرئيس الحكومة المُقال. ومع ذلك، لم يَفِ بوعده واختار اللجوء إلى تمديد الحالة الاستثنائية.
ثمة ملاحظات أساسية ثلاث يمكن تسجيلها على هذا القرار من الناحيتين الدستورية والسياسية: أولًا، يسعى الرئيس سعيّد للبقاء في دائرة "الشرعية الدستورية" وعدم الخروج عنها، أي إنّه مصرّ على التمسك بتأويلاته لأحكام الفصل 80 من الدستور، ثانيًا، يتفادى الرئيس تقديم أيّ خارطة طريق ينوي تنفيذها انسجامًا مع الشروط الواردة في الفصل 80، من أجل العودة إلى الحالة الطبيعية بحسب ما يتفق مع روح الدستور، بل يعلن عن نيته تغيير الدستور التونسي. ثالثًا، تتوقف أيّ خارطة طريق ناجعة للخروج من الأزمة السياسية، التي أفرزتها إجراءات الرئيس، على فتح حوار سياسي يشرك جميع الفواعل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وهي خطوة لا يبدو أن الرئيس سعيّد، المعادي للسياسة والأحزاب السياسية، على استعداد ليبادر إليها في المدى المنظور.
اقرأ/ي أيضًا:
توجه نحو تعليق الدستور وتغيير النظام السياسي عبر استفتاء.. تخوّف وانتقادات
حوار|حمزة المؤدب: رهان المرحلة إدارة التناقضات وأشك أن سعيّد قادر على ذلك