28-أبريل-2022
خليل المصري

خليل طالب فلسطيني في الطب البيطري بتونس ويعدّ الكنافة من أجل إعانته على تكاليف العيش

 

وأنتَ تسير على أحد طرفيْ "المرسى القديم" بمدينة بنزرت، وتدندن كلمات أغنية طربية تنبعث أنغامها من أحد المقاهي العتيقة على حافة مجرى المياه الذي يقطع المدينة وترسو على جوانبه قوارب صيد مزركشة تزيد المشهد سحرًا، يشدّ انتباهك تجمهر بعض المارة بأحد أركان الطريق بـ"المرسى القديم". 

تتقدّم الهوينى في اتجاه الحشد، لتبرز أمام ناظريْك عربة متنقلة صغيرة يقف خلف بلّورها شاب عشريني تعلو محياه ابتسامة ظريفة بينما يستقبل حرفاءه ببشاشة، ويداه مشغولتان بإعداد "الكنافة النابلسية" بخفّة وإتقان.

بنزرت
"المرسى القديم" بمدينة بنزرت (ياسين القايدي/الأناضول)

"خليل المصري"، شاب فلسطيني من مدينة بيت حانون بغزة، يبلغ من العمر 25 عامًا، حلّ بتونس سنة 2015، بعد تحصّله على منحة دراسية في إطار التعاون الدولي بفضل تفوّقه، لدراسة الطبّ البيطري. 

"خليل المصري"، شاب فلسطيني من غزة، حلّ بتونس سنة 2015، بعد تحصّله على منحة دراسية في إطار التعاون الدولي بفضل تفوّقه، لدراسة الطبّ البيطري، ومن هنا بدأت القصة

يقول لـ"الترا تونس": "حللت في المرتبة الأولى في فلسطين على شعبتي "العلوم الزراعية" في التوجيهي (البكالوريا) لسنة 2014، وتحصّلت على منحة خارجية، فاخترت تونس"، متابعًا: "عندما جئت هنا علمت أنه ليس يإمكاني الالتحاق بدراسة الطب البيطري مباشرة، وإنما من الضروري الدراسة بمعهد تحضيري للدراسات الهندسية في تخصص البيولوجيا والجيولوجيا لسنتين قبل الخضوع للمناظرة الوطنية التي تخوّل لي الالتحاق بالمدرسة الوطنية للطب البيطري".

خليل
خليل وعربته البسيطة في "المرسى القديم" ببنزرت (الصورة من مجموعة "On a dégusté pour vous")

والمعاهد التحضيرية للدراسات الهندسية هي مؤسسات عليا يلتحق بها الطلبة المتفوقون في البكالوريا، وتعنى بإعداد الطلبة على امتداد سنتين جامعيتين لاجتياز المناظرة الوطنية للدخول إلى المدارس الوطنية للمهندسين، أو المدرسة الوطنية للطب البيطري بالنسبة للطلبة المختصين في البيولويجا والجيولوجيا.

ويستدرك خليل قائلًا: جئت متأخرًا إلى تونس بسبب مشكلة الحدود المغلقة غالبًا، وبالتالي لم أتمكن من دراسة اللغة الفرنسية قبل مباشرة الدراسة بالمعهد التحضيري للدراسات الهندسية ببنزرت (باعتبار أن الدراسة في المعاهد التحضيرية للدراسات الهندسية، وجلّ الجامعات، باللغة الفرنسية دون سواها)، موضحًا: "وصلت في منتصف شهر مارس/آذار من سنة 2015، والعام الدراسي في تونس ينطلق في سبتمبر/أيلول وينتهي في آخر ماي/آيار، وبالتالي بالكاد لحقت على دراسة شهر لغة، ثم التحقت بالمعهد التحضيري للدراسات الهندسية ببنزرت لكنني لم أتمكّن من اللحاق بالنسق القوي للدراسات التحضيرية، لأنها صعبة من جهة ولأنّني لا أفقه اللغة من جهة ثانية"، وفقه.

خليل لـ"الترا تونس": "خضعت في تونس للمناظرة الوطنية للالتحاق بالمدرسة الوطنية للطب البيطري، ونجحت فيها وجئت من بين اثنين اختِيرَا للدراسة بمدرسة سيدي ثابت من بين من امتُحنوا من خارج المعاهد التحضيرية"

ويردف محدث "الترا تونس": "خيّرت سنتئذ سحب الترسيم، وسجلت لدارسة اللغة الفرنسية لسنة، ثم قررت الالتحاق بكلية العلوم بتونس لدراسة البيولوجيا، تحصّلت على شهادة الإجازة وقدمت مطلبًا السنة الفارطة للخضوع للمناظرة الوطنية للالتحاق بالمدرسة الوطنية للطب البيطري بسيدي ثابت، ونجحت فيها وجئت من بين اثنين اختِيرَا للدراسة بمدرسة سيدي ثابت من بين من خضعوا للامتحان من خارج المعاهد التحضيرية".

سيدي ثابت
المدرسة الوطنية للطب البيطري بسيدي ثابت 

لم يعد خليل إلى فلسطين مُذ حلّ بتونس سنة 2015، ولم يرَ عائلته من ذلك الوقت، الأمر الذي جعله يتردد في الترسيم بمدرسة الطب البيطري قبل العودة لزيارة أهله، لأنه في حال رسّم ليس بإمكانه الانقطاع، والحال أن مشكلة الحدود لفترات طويلة قد تعطّله، على حد قوله.

خليل لـ"الترا تونس": حاولت البحث عن عمل جانبي يعينني على تكاليف العيش، لكن الأوضاع الاقتصادية في تونس حالت دون ذلك، فاضطريت للعمل في "المرمة" وتم استغلالي وأُجّرت بـ12 دينارًا فقط مقابل يوم كامل من العمل

يوضّح: "باعتبار أن العودة عند الدراسة هي بمثابة المجازفة نظرًا لمشكلة الحدود التي قد تعرّض دراستي إلى التوقف لوقت ما، وبما أنني أنهيت المرحلة الأولى من دراستي، خيرت تأجيل الترسيم في المدرسة الوطنية للطب البيطري من أجل أن تسنح لي فرصة العودة إلى غزة لزيارة الأهل لمدة من الزمن، ثم العودة إلى تونس لاستئناف مشواري الدراسي"، مستدركًا القول إن ذلك لم يحصل بعد نظرًا لإجراءات إدارية تستوجب بعض الوقت.

وفي الأثناء، قرّر خليل ألّا يظلّ مكتوف الأيدي بلا أي عمل، خاصة وأنه قد تزوّج سنة 2021 في تونس وأصبح يحمل على عاتقه مسؤوليات أكبر، فدخل في دوامة البحث عن مهنة تدرّ عليه بعض الأموال، التي قد تعينه على تكاليف العيش، وهو الذي تعوّد على الإنفاق من المصروف الذي ترسله إليه عائلته.

يقول: في ظلّ الظروف الاقتصادية التي تمرّ بها تونس، لم أتمكن من العثور على عمل، وتقدمت بمطالب إلى معامل وغيرها لكن جهودي ذهبت سدًى فلا أعمال متوفرة في تونس، فاضطريت إلى العمل في مجال "المرمة" (البناء غير المنظم بمقابل أجر يومي)"، مشيرًا إلى أنه عمل في مرحلة أولى مع شركة مقاولات تؤجره يوميًا حوالي 19 دينارًا (حوالي 6 دولارات)، ثم عمل "صانعًا" (مساعدًا) لبنّاءٍ وعده بأجر يومي قدره 30 دينارًا (قرابة 10 دولارات) لكنّه أخلف بوعده".

و"المرمة" هي مهنة هشّة لا تخضع غالبًا إلى قانون ينظمها أو أي رقابة، الأمر الذي يجعل المشغّلين يتحكمون في الأجور وفق أهوائهم، خاصّة بالنسبة إلى "الصنّاع" (العملة الذين يساعدون البنّاء)، ويجعلهم عُرضة إلى الاستغلال.

خليل لـ"الترا تونس": بعد تعرّضي للاستغلال، أعدتُ التفكير جيدًا وقلتُ في نفسيِ، لِمَ لا أعدّ الكنافة النابلسية، باعتباري أُحسن إعدادها على أصولها، ولأنّ عليها إقبالًا كبيرًا في تونس، ومن هنا بدأت قصّتي

"بعد العمل مع البنّاء، الذي عرض عليّ الاشتغال معه، طيلة أسبوعين متواصلين، من الساعة الثامنة صباحًا إلى غاية الساعة الرابعة مساءً، قدّم لي أقلّ من نصف مستحقّاتي المادية، وعندما طالبته بأجري كاملًا زعم أنني لم أكن كفؤًا في المرمة، كما احتسب لي أيامًا على أساس أنني عملت خلالها نصف دوام وأجّرني على اليوم بـ12 دينارًا فقط (حوالي 4 دولارات)، باختصار لقد قام باستغلالي"، يضيف الطالب الفلسطيني لـ"الترا تونس".

حادثة الاستغلال التي تعرّض لها خليل والظروف الصعبة دفعته لإعادة التفكير فيما يمكن أن يتقنه ويدرّ عليه المال، دون أن يكون عرضة للتحيّل والتلاعب. "قلتُ في نفسيِ، لِمَ لا أعدّ الكنافة النابلسية، باعتباري أُحسن إعدادها على أصولها، ونظرًا لأنّ عليها إقبالًا كبيرًا في تونس خلال السنوات الأخيرة وخاصة خلال شهر رمضان، ومن هنا بدأت قصّتي"، يردف خليل.

وقد غزت الكنافة، بكلّ أشكالها سواء التي بالجبن أو القشطة أو حتى "النوتيلا"، الأسواق التونسية خلال السنوات الأخيرة، على الرغم من أنها لم تكن قبل أقلّ من عقد من الزمن ضمن الثقافة الاستهلاكية للتونسيين. وأضحت مؤخرًا من أكثر الحلويات التي يقبل عليها التونسيون، وبالأخصّ خلال شهر رمضان، مما دفع كثيرين إلى الاستثمار فيها من تونسيين وسوريين وفلسطينيين مقيمين في تونس.

كنافة
الكنافة النابلسية التي يعدّها خليل بعيون أحد حرفائه (الصورة من مجموعة "On a dégusté pour vous")

خليل لـ"الترا تونس": الغربة علمتني أن أعوّل على نفسي، ومع مرور الأيام صرت أتقن إعداد مختلف الأطباق الفلسطينية بنفسي كي تظلّ "نكهة فلسطين" حاضرة معي في غربتي، ومن بين أَحبّ الأطباق إليّ والتي بتّ أبرع في إعدادها "الكنافة"

"الغربة علمتني أن أعوّل على نفسي، ومع مرور الأيام صرت أتقن إعداد مختلف الأطباق الفلسطينية بنفسي كي تظلّ نكهة 'فلسطين' حاضرة معي في غربتي، ومن بين أَحبّ الأطباق إليّ والتي بتّ أبرع في إعدادها، الكنافة"، يسرد خليل، "المهم جمعت ما لديّ من الأموال القليلة التي جنيتها من عملي، واقترضت بعض المال من معارفي هنا، وانطلقت على بركة الله". 

كنافة
لقيت "كنافة خليل" إعجابًا واسعًا من الوافدين إليه من بنزرت وخارجها (الصورة من مجموعة "On a mangé pour vous")

ويتابع محدث "الترا تونس" قائلًا: "اقتنيت عربةً وبعض المعدّات التي أحتاجها للعمل، وبدراسة المشروع والتخطيط له، ارتأيت، أنا وصديق فلسطيني لي هنا، أن حظوظنا ستكون أوفر إذا ما عرضنا الكنافة في "المرسى القديم" ببنزرت، الذي يشهد حركية كبيرة باعتباره مكانًا ترفيهيًا يقصده الكثيرون، سواءً من بنزرت أو من خارجها، قصد الترويح عن أنفسهم".

بالكاد مرّت على انطلاق مشروع خليل أيام قليلة ليلقى إقبالًا واسعًا على عربته البسيطة وإعجابًا كبيرًا بـ"الكنافة النابلسية"، حتى أنّ من يقتني من عنده مرّة يعود إليه مجددًا مرفوقًا بحرفاءٍ آخرين

ويؤكد الشاب الفلسطيني أنه، ورفيقه، تعرّضا لبعض المضايقات من أعوان بالشرطة البلدية، وطلبوا منهما في ثالث يوم عملٍ لهما، تغيير مكان العربة. "حددوا لنا مكانًا منزويًا ومظلمًا ولا يعبر قربه الكثير من المارة"، يتابع خليل قائلًا: "أذعنّا لذلك باعتبار أنه ليست لنا خيارات أخرى، فقط حاولنا دفع العربة قليلًا إلى الأمام حيث تكون الإضاءة أفضل، ليتمكّن الوافدون على "المرسى القديم" من رؤيتنا، والحمدلله حتى وقد غيرنا مكاننا ظلّ رزقنا يجيئنا حيث نحن". 

 

الحمد لله ❤️ كنافة نابلسية #بنزرت

Posted by Khalil Al Massri on Monday, April 18, 2022

 

وبالكاد مرّت على انطلاق مشروع خليل أيام قليلة ليلقى إقبالًا واسعًا على عربته البسيطة وإعجابًا كبيرًا بـ"الكنافة النابلسية"، حتى أنّ من يقتني من عنده مرّة يعود إليه مجددًا مرفوقًا بحرفاءٍ آخرين، بل إن هناك من تذوّقوا الكنافة التي يعدها، ومن انبهارهم بها نشروا عنه تدوينات ينصحون غيرهم بتناولها، في مجموعة "On a mangé pour vous" (لقد أكلنا من أجلكم)، ومجموعة "On a dégusté pour vous" (لقد تذوقنا من أجلكم) على موقع التواصل فيسبوك، اللتان تضمّان معًا أكثر من 400 ألف عضو، ويتم عبرهما تبادل التجارب في علاقة بالأكل، سواءً منها المبهرة أو المخيبة للأمل وتعدّان ذاتيْ حظوة واهتمام من روّاد منصة التواصل فيسبوك، ومن هنا اكتشفناه في "الترا تونس".

تدوينة
إحدى أعضاء مجموعة "لقد أكلنا من أجلكم" تعبر عن إعجابها بـ"كنافة خليل"