" إن من دور الفن أن يثير تفكيرًا حول ماهية الفن نفسه، ومن ثم حول ثقافتنا.." (نجيب بلخوجة).
أول مرة رأيت الرسام التونسي المختلف والتَياه والمنشق الثقافي نجيب بلخوجة، كان أواسط تسعينيات القرن الماضي بـ "بيت الشعر" بمدينة تونس العتيقة أو "دار الجزيري" التاريخية التي انعقد فيها المؤتمر الثاني للحزب الدستوري التونسي سنة 1937.
ولد نجيب بلخوجة بتونس العاصمة يوم 25 نوفمبر 1933 من أب تونسي وأم هولندية تعمل في مجال الموسيقى، الأمر الذي أثر فيه إلى يوم وفاته في 8 ماي 2007، وبين هذين التاريخين نجد زمن الرسام الفنان الذي يشبه الكون الفني الخاص
- نجيب بلخوجة.. شخصية خجولة لكن عاتية الهمة أمام الألوان
كان "بيت الشعر" المُزهر حديثًا في الساحة الثقافية التونسية بإرادة قوية من المثقفين التونسيين الحالمين بأفق أجمل لمجتمعهم حينها، وهو البيت الذي حوله بعد ذلك الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد إلى حقيقة جمالية ملموسة.
وكان الرسام نجيب بلخوجة شخصيةً ثقافيةً وفكريةً خجولة لكنها شرسة وعاتية الهمة أمام الألوان والقماشات البيضاء، يحملنا حضوره كمثقف وكفنان بصريات لونية إلى الأقاصي حيث منابت الفن وانبعاثاته السحرية، يقيم بقلق خارج أضواء الصحافة والإعلام.
كان الرسام نجيب بلخوجة شخصيةً ثقافيةً وفكريةً خجولة لكنها شرسة وعاتية الهِمة أمام الألوان والقماشات البيضاء
لا أدري أي انجذاب حصل بينه وبين الشاعر الصغير أولاد أحمد حتى بات بلخوجة يزور بيت الشعر ويقضي فيه جزءً من زمنه الإبداعي، وقد رأيته يتحرك بهدوء الحكماء ويتحدث مع الشعراء ورواد البيت بصوت خفيض بالكاد تسمعه.
بلخوجة وأولاد أحمد كانا متشابهين إلى أبعد الحدود، نحيفان، طويلان، تسكُنهما عفوية وطفولية، لكن لكل واحد منهما اشتباكه الخاص مع الحقيقة، يحملهما الفن والإبداع الواعي والمُغير إلى عوالم الدهشة حيث الحفر عميقًا في المعنى، فيريَا ما لا نرى فتأتي أعمالهما الفنية على سبيل الرفض والتفنن والإدهاش.
- نجيب بلخوجة.. فنان تصدى للممارسة الفنية النمطية
نجيب بلخوجة ولد بالعاصمة تونس يوم 25 نوفمبر/تشرين الأول 1933 من أب تونسي وأم هولندية تعمل في مجال الموسيقى، الأمر الذي أثر فيه إلى يوم وفاته في 8 ماي/أيار 2007، وبين هذين التاريخين نجد زمن الرسام الفنان الذي يشبه الكون الفني الخاص، فهو له شموسه وأقماره ومحيطاته وجباله وصحاريه، فيما يشبه التيه اللامتناهي.
هذا الكون الجمالي المخصوص في تاريخ الفن التشكيلي التونسي أنشأه نجيب بلخوجة بقوة المُحارب الصلب والمجالد الذي لا يلين لما هو سائد وخاصة حربه الضروس مع جماعة "مدرسة تونس" التي كانت تهيمن هيمنةً كلية على المشهد الثقافي والتشكيلي التونسي طيلة عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي وتكرس تصورًا فنيًا أحاديًا تحت مسمى "تونسة الثقافة " ضمن تمشي سياسي اختارته جماعة بناة "دولة الاستقلال ".
خاض نجيب بلخوجة حربًا ضروسًا مع جماعة "مدرسة تونس" التي كانت تهيمن على المشهد الثقافي والتشكيلي التونسي وتكرس تصورًا فنيًا أحاديًا تحت مسمى "تونسة الثقافة "
تصدى بلخوجة للممارسة الفنية النمطية التي كانت سائدة ولا تتوانى على نقل الواقع والحياة اليومية بأسلوب فوتوغرافي، وأيضًا تلك المجموعات التي تُقلد المُستشرقين والمدارس الكولونيالية.
كان بلخوجة على وعي بما يحدث حوله، فهو ينفر من الرسم المباشر ويعتبره فلكلورًا سطحيًا وبسيطًا لا يصف عمق الواقع، أيًا كان ذاك الواقع، ولا يذهب إلى الحقيقة الجمالية التي يجب أن تُصاغ وتُقال كضمانة إضافية للتاريخ وكإسهامة في صياغة الواقع صياغةً جمالية متماسكة الأفكار والطروحات.. لقد كان قلقًا كجده المتنبي، ومسكونًا بفكرة خلق الواقع من جديد والتوجه رأسًا إلى معاناته.
بلخوجة انشغل بتيمة "المدينة العتيقة " كما ينشغل الشاعر بسحر البيان والكلام وقوة البلاغة والغياب، فسحرته وأخذت عقله إلى مناطق اللاّ عقل وجعلته ينصت بآذان القلب إلى ضجيجها المُثبت على الجدران والأقواس والبوابات والشرفات والمنعرجات والشبابيك المطلة على العالم.
لقد كانت المدينة العتيقة في مستوى طموح كَيانه الداخلي كفنان فأصبحت تُطربه وتحولت إلى سهم ممشوق أصاب عوالمه الداخلية وبات يقضي أغلب وقته بها يتأملها من زوايا مختلفة ويفتتن بغموضها وقصصها وشخصياتها والأحداث التي عاشتها أزقتها، لقد أصبحت بالنسبة اليه "مفهومًا للعالم " والمفهوم كما هو معلوم يضمن موقفًا فلسفيًا.
كما سحره "الحرف العربي" في مستويات التشكيل ومكوناته المعمارية فكان مأخوذًا كطفل أمام ظلال الحرف وتلك المنعرجات والتقاطعات والإيماءات التي تحدثها الحروف في النفس، وتلك الروح القديمة التي تخيم في سفوح الحرف والتي تحولت مع السنون إلى عطر منظور.
لقد كان الحرف العربي بالنسبة إليه علامةً جمالية كبيرة تتناول كل شيء بما في ذلك صفة المُقدس فأحكم سبرها وانتقى حرَّها، وهكذا تستخلص أن الرسام نجيب بلخوجة جهز فرشاته لفتح آفاق جديدة، والذهاب الى تخوم اللاّ مألوف والتطلّع الى لغة جمالية أكثر اتساعا.
كان الحرف العربي بالنسبة لنجيب بلخوجة علامةً جمالية كبيرة تتناول كل شيء بما في ذلك صفة المُقدس فأحكم سبرها وانتقى حرَّها
فما كان منه إلا أن قام بمزاوجة فنية بين "تيمة المدينة " من جهة و "سحر الحرف العربي " من جهة ثانية، ومن أجل الوصول إلى ما كان يصبو إليه من هواجس تعبيرية وتشكيلية قام بتفكيكية بديعة جديدة ومبتكرة لم تعهدها اللوحة المسندية التونسية من قبل.
فقام بتفكيك المدينة بمختلف مكوناتها وعناصرها من جهة وتفكيك الحرف العربي، وأعاد تركيب كل المفكك على قماشته البيضاء لنحصل في النهاية على مدينة أخرى لم نعهدها من قبل، مدينة غامضة لكنها أكثر جمالاً من الأولى، مدينة تنهض بوظائف بصرية شفافة، مدينة بنائها هندسي عميقة التعبير، إنه بكل ذلك يُزعزع كل الموروث التشكيلي التونسي ويحملنا إلى مناطق "المبدع المتحرر".
واجه نجيب بالخوجة صدًّا قويًا من قبل مدرسة تونس للرسم وما جاورها من أنصار، فما كان منه إلا أن أسس سنة 1963 صحبة مجموعة من الرسامين ما عرف " بجماعة الستة " والتي تضم معلمه في الرسم "فابيو روكيجياني" مدرب فريق النادي الإفريقي في تلك الفترة والرسام الشهير الذي كان قد تعرف عليه بلخوجة في روما في الخمسينات
كانت مهمة الجماعة هي التفكير حول الرسم في تونس وجعله محفزًا ثقافيًا وفلسفيًا وحضاريًا من أجل تجاوز الواقع وتشوف الأفضل.
نجيب بلخوجة الذي أقام معارض دولية كبيرة بفرنسا والمغرب والجزائر وكتبت حول مدونته كتب كثيرة، لم يكن سكونيًا حول محيطه بل كان معارضًا جعل من لوحته فضاءً للتأمل والجمال والتفكير وشرودًا بجميع الحواس يُربك كل ثبات وسكون.