25-أكتوبر-2023
الهادي السلمي

النحات التونسي الهادي السلمي يعدّ علامة فارقة في تاريخ الفن التشكيلي التونسي المعاصر

 

تصدير: "النحّات لا ينحت ما يريد، بل ينحت ما يريده المعنى.."

(جونسون بريتلمي)


فنّ النحت هو نوع من السحر ومماهاة قصوى لفكرة الخلق، إنه فن شخصي إلى أبعد الحدود، يُفلت أحيانًا من المصطلحات والتحديدات التقنية وينبجس من تفجّرات الأعماق التي تحدث في فؤاد النّحات، إنه يهدف إلى أن يدرك المعنى الذي لا يُدرَك بالعقل، وروح الفنان هنا مهمّتها أن تَقتنص ما يمكن اقتناصه عادة باللّغة، فتحوّله إلى طاقة متآلفة لا تنفد، إذ يكفي أن يلمس الفنّان المادة المُراد الاشتغال عليها فتتحول مباشرة إلى عمل تشكيلي حدسي يشبه تلك الغابة الكثيفة الإيقاع والشاسعة الإيحاء والتوهج.. عندئذ نشرع جميعنا في تقصي الحكمة من العمل النحتي.

أزال أب النحت التونسي المعاصر والحديث النّحات الهادي السلمي، كل الحواجز بينه والمتقبّل، مبتعدًا بأعماله النحتية عن الوصف في اتجاه عوالم التأمل والاستبطان

ولعلّ أب النحت التونسي المعاصر والحديث النّحات الهادي السلمي المولود يوم 12 مارس/ آذار من سنة 1934 والمتوفى يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1995 هو من الندرة التي تجاوزت تلك الجماليات الغنائية في العمل النحتي وذاك الإطار الثابت من التعبير الفني المتوارث منذ القدم نحو التجربة العالمية التي تتخذ موقفًا من الإنسان والحياة والعالم والوجود برمّته، وتستعمل النحت كلغة توكيد على الباطن أي على الحقيقة بمعناها الفلسفي والخلاص من المقدّس في الفنون التشكيلية الكلاسيكية. لقد ذوّب هذا النحّات ثبات الألوهة في فن النحت وجعله حركة في نفس المتلقي، في أغوارها.

  • الهادي السلمي.. فنان ملتزم بقضايا شعبه

لقد أزال الهادي السلمي كل الحواجز بينه والمتقبّل وجعله يشعر بالارتفاع إلى مدارات الزمن المطلق وغير المقيّد، مبتعدًا بأعماله النحتية عن الوصف في اتجاه غنائيات الشعر حيث عوالم التأمل والاستبطان والخلق والتغيير.. إنه يرفع النحت إلى ما فوق النحت!

 

منحوتة من الحجم الصغير للهادي السلمي بعنوان القائد
منحوتة من الحجم الصغير للهادي السلمي بعنوان "القائد"

 

التحق الهادي السلمي بمدرسة الفنون الجميلة بتونس سنة 1950 عندما كانت تونس مستعمرة فرنسية، وكانت الفنون التشكيلية تحت إمرتهم، وتخرّج سنة 1954 وعاش تجربة التدريس بالتعليم الثانوي بمعهد خزندار بضاحية باردو لمدة أربع سنوات لكنه لم يستكن إليها وسرعان ما خيّر الهجرة لفرنسا من أجل مواصلة تعليمه، فالتحق بقسم النحت بمدرسة الفنون الجميلة بباريس وتخرّج منها سنة 1958، وإثر عودته إلى تونس، قرر الاستقرار في مدارات الفن دون غيره، فنظّم في السنة نفسها أول معرض شخصي سمّاه "تونس والعالم"، قدّم من خلاله ملمحًا حول مشروعه الإبداعي بواسطة النحت.

وبرز السلمي كفنان مقاوم وملتزم بقضايا شعبه المستعمر عندما أنجز المنحوتة الشهيرة "جنازة الشهيد" بمدينة سوسة بمناسبة الاستقلال يوم 20 مارس/ آذار 1956. وهو عمل فني خالد يصور سبعة تماثيل تحمل بينها جثة، وقد عمد النحّات إلى تغييب الوجوه والاكتفاء بلغة الجسد، فكانت المنحوتة بمثابة المشهد المسرحي الذي يصف شجاعة وارتباك وخوف المقاومين التونسيين تجاه المستعمر الفرنسي.

برز الهادي السلمي كفنان مقاوم وملتزم بقضايا شعبه المستعمر، أنجز معرضه الشخصي الأول في سنة 1958 والثاني في سنة 1972

وفي نفس السياق النضالي والوعي بالقضايا الكبرى، أنجز الهادي السلمي جدارية نحتية ضخمة حول أحداث ساقية سيدي يوسف والمتمثلة في قصف الطيران العسكري الفرنسي لقرية الساقية الحدودية مع الجزائر والتي راح ضحيتها 68 شهيدًا من بينهم 12 تلميذًا كانوا يدرسون بالمدرسة الابتدائية. وقد خلّد الفنان عبر هذه الجدارية لأحاسيس الغضب التي شعر بها الشعب التونسي في ذلك اليوم.

  • الهادي السلمي.. غزارة المنتوج وولوج إلى العوالم الخاصة

وفي سنة 1964، عاد الهادي السلمي إلى باريس من أجل إجراء سلسلة من اللقاءات والتّربصات لدى عدد من النحاتين الفرنسيين المرموقين ومن بينهم النحات الفرنسي من أصول سويسرية ألبرتو جياكوميتي، وهناك شارك في عدد من المعارض الجماعية وكان ذلك بمثابة الدعم المعنوي للفنان الحالم الباحث عن مسلكه الخاص.. وإثر عودته إلى تونس، استعد السلمي لتنظيم معرضه الشخصي الثاني وكان له ذلك سنة 1972 حيث شهد رواق قاعة الأخبار التابع لوزارة الإعلام بشارع بورقيبة هذا الحدث الثقافي الذي عُدّ نوعيًا واستثنائيًا بالنظر للأعمال المقترحة من قبل الفنان.

 

منحوتة للفنان النحات الهادي السلمي
الرسام التونسي علي اللواتي: "منحوتات الهادي السلمي هي مسارات متلاحمة نحو دروب الرمزية"

 

من خلال أعماله الجديدة التي قدمها الفنان برواق قاعة الأخبار، كتبت الصحافة التونسية والفرنسية عن غزارة الفنان وولوجه إلى العوالم الخاصة التي كان يبحث عنها في السابق، وخلصوا إلى أن النحات الهادي السلمي قد واجه كل المواد بشجاعة المقاتلين الأشاوس لكنه كان ميّالًا للبرونز لخجله وقدرته على اللّيونة والعطاء واحتمال المعاني الفنية، وتحّمل القرّ والحرّ فيما بعد.

منحوتات الهادي السلمي يصفها الكاتب والرسام التونسي علي اللواتي بأنها "مسارات متلاحمة نحو دروب الرمزية التي تنقل لنا بعمق توقه المكشوف بتجسيد حلمه الباطني.. والذي نفّذه بعد المحاولات الأولى المغرقة في الأكاديمية، في مرحلة ثانية يسميها السلمي نفسه بالواقعية المختزلة".

 

من المدونة النحتية للفنان الهادي السلمي
"قدّم الهادي السلمي استعارات واضحة لإشكاليات ما بعد الاستعمار قابلة للقراءة والتأويل"

 

لقد استقر الفنان نهائيًا على أرض فن غريبة لم تعهدها تونس من قبل، لقد كان يجسّد أشكالًا موغلة في الهشاشة والغياب والنحافة والحيرة ومحمّلة بالأسئلة الوجودية.. لقد كانت شخصيات تبحث عن نفسها بعد أن استسلمت لقدرها.

ترك الهادي السلمي مدونة نحتية ضخمة منها ما اقتنته الدولة التونسية ضمن ما يعرف بالرصيد الوطني ومنها ما يوجد بمتاحف العالم: نيويورك، باريس، بون، لندن، كندا ومنها ما يوجد في ساحات عامة بباريس وجدة وسيول. كما تملك أرملته وابنته سنية الكعلي جزءًا وفيرًا من المدونة.

 ولنا أن نذكر من أعماله الخالدة المنجزة بمواد صلبة مختلفة: "انطلاق" و"جرم سماوي" و"المحاربون" و"جنين" و"توازن في الفضاء" و"عازفة العود" و"صراع الإبل" و"صياد السمك"..

لقد كان يجسّد النحات الهادي السلمي، أشكالًا موغلة في الهشاشة والغياب والنحافة والحيرة ومحمّلة بالأسئلة الوجودية، وما يميز أعماله هو ابتعادها عن الروح التقليدية

وما يميز هذه الأعمال الفنية هو ابتعاد السلمي عن الروح التقليدية والانسياق الواعي نحو الصور التراجيدية والاقتراب أكثر فأكثر من الفرد ولوعاته ومآسيه، فنجده يلتقط من الحياة اليومية للتونسيين تلك المشاهد المفعمة بالعاطفة والمشاعر فيحولها إلى برونز مسال أو نحاس ذائب أو رخام، بملمسات خشنة تحدث ضلالًا في علاقة بالضوء المنعكس فتحدث إيقاعًا داخليًا لدى الرائي.

أغلب أعمال السلمي شخوصها نحيفين وبلا ملامح، فيما يشبه أعمال النحات الفرنسي ألبرتو جياكوميتي، فتجد المتلقي يدور حولها بحثًا عن التفاصيل المخفية تحت المادة لكنه عبثًا يفعل، فهو لا يجد سوى السطوح الخشنة فيستقر إليها بحثًا عن نفسه المهشمة في واقع صعب ومفكك ومعتّم ومجهول الآفاق.

 

منحوتة للفنان النحات الهادي السلمي
"حاول النحات التونسي الهادي السلمي أن يكون وفيًا لإنسان العصر" 

 

حاول النحات التونسي الهادي السلمي أن يكون وفيًا لإنسان العصر، إنسان القرن العشرين الذي دوخته الحروب ومآسي الاستعمار وذلك انطلاقًا من المجتمع التونسي الذي كان يبحث عن توازنه في تلك اللحظة التاريخية، لقد التقط النحات هواجس وأحلام المجتمع بعيدًا عن الاغتراب المخيّم على عالم الفن والأدب. لقد قدّم استعارات واضحة لإشكاليات ما بعد الاستعمار قابلة للقراءة والتأويل، كما قدم منحوتات صامتة لم يقع استنطاقها بعد.

النحات التونسي الهادي السلمي حاز الجائزة الوطنية للفنون التشكيلية سنة 1992 وهو يعد علامة فارقة في تاريخ الفن التشكيلي التونسي المعاصر لجرأته وتفرده وقلقه الوجودي وحساسية فنه وطرقه لعوالم أسلوبية ودلالية لم يعهدها فن النحت في تونس من قبل.