يختلف الباحثون في تحديد المدة العمرية التي تستغرقها فترة الشباب، فعَدَّها البعض محدودة بسن الخامسة والعشرين واعتبرها الكثيرون أوسع لتشمل من أدرك العقد الرابع وتخطّاه ببضع سنوات، ولئن ظلّت هذه المسألة الكميّة الميقاتيّة نسبيّة مثيرة للاختلاف والجدل قابلة للتطوّر والتحوّل، فإنّ الجانب الرمزيّ فيها قد ظلّ ثابتًا، فالشباب قد اقترن دائمًا بمعاني التوقّد الجنسي والعنفوان الجسدي والاندفاع السلوكي فضلًا عن قيم أخرى أعمق، منها الرفض والتجديد والقدرة على استيعاب المتغيّرات وتوظيفها والتأقلم معها.
لنا في تونس أعلام من هذه الفئة القياديّة قد فارقوا الحياة صغارًا في سنّ الشباب لكنّهم، في أنفسنا، ظلّوا كبارًا لما تركوه من أثر عظيم سيبقى سائرًا على ألسنتنا وفي كتبنا
العنوان الأبرز الذي يستوعب كلّ تلك الصفات هو "التمرّد" الذي يتشكّل في الفنّ إبداعًا وفي السياسة صِدامًا وفي المجتمع تحرّرًا وفي العلم ابتكارًا، فالمتمرّدُ يحمل بذرة التقدّم وتخطّى الأنساق السائدة وكسر المنظومات المغلقة المختومة.
هذا ما يجعل أولياء الأمور من قادة وآباء وزعماء يتعاملون مع هذه الفئة باعتبارها عمادًا لكلّ نهضة، خلافًا لزمرة من حكّام ومسؤولين يرون الشباب عبئًا ثقيلًا يثير فيهم الحرج والرعب ويذكّرهم بفشلهم في التربية والتعليم والتنمية والتشغيل..
- أعمار قصيرة وأمجاد طويلة
ما يُقلق المتمسكين بالاستقرار العقيم وما يُربك القانعين بالهوان والأوضاع الدونيّة، هو أنّ الشباب يرفض المساومة على الحريّة والكرامة ولا تنطلي عليه المسكّنات الظرفيّة والأكاذيب السياسيّة، لذلك يميل في مواقفه إلى الخيارات الجذرية والجوهرية التي يكون لها في الغالب الأثر الخطير البيِّن في الفكر والواقع، فتظلّ سيرةُ هؤلاء المجدّدين الثوريين عالقة في الأذهان، وتتحوّل إلى رموز تتغنّى بها الأجيال، ولنا في تونس أعلامٌ من هذه الفئة القياديّة قد فارقوا الحياة صغارًا في سنّ الشباب لكنّهم، في أنفسنا، ظلّوا كبارًا لما تركوه من أثر عظيم سيبقى سائرًا على ألسنتنا وفي كتبنا مُخلَّدًا مدى الزمن في مدوّناتنا ورسومنا وأغانينا وأشعارنا.
لكل من الأعلام التونسيين قصّة فيها ما فيها من تمرّد وتفرّد وخرق للسائد والمألوف ونهاية رمزيّة مأسويّة
ومن هؤلاء نذكر محمد البوعزيزي (1984-2011) ومحمّد علي الحامي (1890-1928)، وعلي بن غذاهم (1914-1957)، والطاهر الحداد (1899-1935) وأبا القاسم الشابّي (1909-1934) وعلي بن عيّاد (1930-1972) وحبيبة مسيكة (190-1930)، فلكّل منهم قصّة فيها ما فيها من تمرّد وتفرّد وخرق للسائد والمألوف ونهاية رمزيّة مأسويّة.
- محمد علي الحامي: مفرد في صيغة الجمع وصخرة منها يتدفّق الماء
في سيرة محمد علي الحامي غزارة وإثارة وتنوّع وتشويق وغموض تورثُ فيكَ الإعجاب والدهشة والحسرة والحيرة معًا، إعجابٌ بمهارات هذا الشاب المتعدّدة والمتنوّعة، ودهشةٌ لقدرته على تخطّى المحن والصعاب، وحسرةٌ لأنّ الرجل لم يحظ بما يليق به في الأعمال الدراميّة والأشرطة الوثائقيّة، وحيرة لعجز المؤرّخين عن الحسم في ملابسات وفاته.
محمد علي الحامي زعيم مُكثّفٌ مكتنزٌ قيمةً ومعنى ودلالة وعلمًا وعملًا ونضالًا
لم أجد في التاريخ التونسي شخصيّة أحقّ بوصفها "مفردًا في صيغة الجمع" من محمّد علي الحامي، فقد عاين الفقر وعاناه في منطقة الحامة بولاية قابس، ثمّ انتقل إلى العاصمة، فأظهر عنادًا وشموخًا وصلابة تُحاكي الصخور التي لا تتزحزح لقوّتها وتجذّرها، لكنّ وجه الطرافة في سيرة الحامي أنه أشبه بالصخرة التي يتدفّق منها الماء، فهو آية الخصب حيثما حلّ، فكلمّا أُغلق دونه باب، نحت لنفسه نوافذ وثنايا وطرقات في منعرجات جديدة لا يكاد يصدّقها إلّا المؤمن بقيم العزم والإرادة.
في العاصمة، اشتغل محمد علي الحامي بسوق الغلال (فندق الغلة)، أتقن اللغة الفرنسيّة، عمل لدى قنصل النمسا، تعلّم سياقة السيارات وإصلاحها، انتهت هذه التجربة برحيل السفير، درس بجامع الزيتونة، ، قامت الحرب في ليبيا ضدّ المستعمر، تولّى مهمّة إيصال المساعدات المالية والطبية والغذائية إلى القُطر الشقيق، ثمّ انضم إلى الجبهة مع المقاومين، بعد وقوع ليبيا تحت سيطرة إيطاليا، سافر إلى تركيا، عمل مترجمًا لدى بعض المؤسسات الرسمية، ثم سافر إلى ألمانيا واستقرّ فيها، نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصاديّة والسياسيّة، عاد إلى تونس، انضمّ إلى الحزب الحر الدستوري، ولأنّه متشبع بالفكر اليساريّ اختار لنفسه مسارًا نضاليًا آخر يتناسب مع فكره، فتوجه إلى العمل الميداني الأكثر التصاقًا بالجماهير، كوّن إثر ذلك جامعة عموم العملة التونسيين، وسنّ سُنّةَ الاحتجاج والإضراب عن العمل، تسبّبت له جرأته على المستعمر في النفي، لم يكُفّ رغم التهجير عن مساره الثوريّ النضالي في العديد من عواصم العالم بتركيا ومصر والمغرب الأقصى والحجاز حيث عمل مدرّسًا ومترجمًا، إلى أن توفّي في مارس/ آذار سنة 1928 في سنّ الثامنة والثلاثين تقريبًا إثر حادث سير أو هكذا قيل في بعض الروايات.
ليس محمد علي الحامي مجرّد شخصيّة نقابيّة يحتفي بها اتحاد الشغل في ذكرى وفاته كلّ سنة، إنّه أيقونة وطنيّة جامعة ترقى إلى مرتبة القدوة
لم أُذكّر بهذه الأحداث لمقصد توثيقيّ تاريخيّ، ولم أشأ إغفالها رغم أنّ المقام تحليليّ فكرّي، فهذه الفقرة السرديّة لا غنى عنها لإقامة الدليل على أنّ هذا الشابّ التونسيّ "زعيم مُكثّفٌ مكتنزٌ" قيمةً ومعنى ودلالة وعلمًا وعملًا ونضالًا.
ليس محمد علي الحامي مجرّد شخصيّة نقابيّة يحتفي بها الاتحاد العام التونسي للشغل في ذكرى وفاته كلّ سنة، إنّه أيقونة وطنيّة جامعة ترقى إلى مرتبة القدوة التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام الفائق في كلّ المؤسسات الثقافيّة والتعليميّة شأنه شأن أبو القاسم الشابي، فقد تجسّد في سيرتيهما فعليًّا شعار إرادة الحياة.
خاض أبو القاسم الشابي ملحمة كبرى واجه فيها بكلّ اقتدار خصومًا شتّى من المؤسّسة الدينيّة والاجتماعيّة والأدبيّة والنقديّة
- لقد كان أبا القاسم الشابي "أمّةً"
لمّا كان الإبداع مشروطًا بالتجديد والخروج عن المألوف، ولمّا كانت الشعريّةُ قائمةً على الانزياح والعدول، فلا عجب أن يكون الشاعرُ أميل إلى النزعة الثوريّة من المفكّر والعالِم والفقيه، هذه المعادلة تنطبق على جلّ الشعراء، لكنّها مع أبي القاسم الشابي تحوّلت إلى هويّة وعلامة مميزة، فقد خاض ملحمة كبرى واجه فيها بكلّ اقتدار خصومًا شتّى من المؤسّسة الدينيّة والاجتماعيّة والأدبيّة والنقديّة، فهو في مقام "النبيّ المجهول"، وهو "بروميثيوس الجبّار"، وهو الذي عاهد نفسه بأن "يعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمّة الشمّاء"، وهو الذي ألهم بني وطنه والعرب وأممًا أخرى العلاقة التلازميّة بين الإرادة والمصير منشدًا:
إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بدّ أن يستجيب القدر
بنى أبو القاسم الشابي هذه الرؤية النضاليّة على تصوّر لماهية الإنسان ربطها بالحريّة، فالوعيُ واللغةُ والمدنيّةُ وغيرها ممّا عدّه الفلاسفة السمات التي تميز البشر عن سائر الكائنات تظلّ بلا أصل ولا معنى ولا جدوى إن لم تَقُمْ على سمتِ الحريّة، فقد "خُلق الإنسان طليقًا كطيف النسيم وحرًّا كنور الضحى في سماه".
أطلق أبو القاسم الشابي نِباله الشعريّة وسيوفه النقديّة على الجميع، على المستعمر "الظالم المستبدّ حبيب الظلام عدوّ الحياة"، وعلى الشعب يستنهض همّته، وفي الأخير صبّ جام سُخطه على القائلين بعجز الإنسان على نحت كيانه متّكئين على قراءة متعسّفة لبعض النصوص الدينيّة أوحى لهم بها عجزٌ في الفهم وكسلٌ في الفكر.
ولم يقنع أبو القاسم الشابي بهذه الجبهات الثوريّة فقد فتح على نفسه واجهات أخرى تصدّى فيها لفئة من النقاد والأدباء المتمسكين باحتذاء القدامى تمجيدًا وتقليدًا.
لم يكن أبو القاسم الشابي محصّنًا أو محميًّا ببعض المقتدرين والوجهاء، ومع ذلك أعلن العصيان الإبداعيّ والفكريّ والنقديّ و فتح على نفسه واجهات تصدّى فيها لفئة من النقاد والأدباء
لم يكن هذا الشابّ محصّنًا بحزب سياسيّ أو طرف نقابيّ أو محميًّا ببعض المقتدرين والوجهاء، ومع ذلك أعلن العصيان الإبداعيّ والفكريّ والنقديّ في غير تخفّ أو تستّر، وقد تجلّى ذلك فعليًّا في ساحة فكريّة ثقافيّة بدا فيها فردًا أعزل إلا من فكره وشعوره أمام جمع غفير من الخصوم المدجّجين بالامتيازات الماديّة والمراكز الاعتباريّة، كان ذلك في فيفري/ شباط 1929 بمكتبة الخلدونيّة حينما قدّم محاضرة عنوانها "الخيال الشعريّ عند العرب"، وكم كانت صدمة الحاضرين شديدة مُربكة حينما تكشّف لهم أنّ أطروحة الشابي لم تكن قائمة على التغني بالشعر العربيّ القديم إنّما كانت مبنيّة على إبراز افتقار هذه المدوّنة للخيال والتخييل وغلبة الطابع الحسيّ عليها، وهو ما يتعارض مع أوكد شرط من شروط الإبداع في رأيه.
تفرّق دمُ الشابيّ الشابّ اليافع بين شيوخ عدّة من اختصاصات شتّى جمع بينهم التمسّك بالموروث في غير مراجعة أو تجديد استئناسًا بالرأي القائل "ليس في الإمكان أفضل ممّا كان".
واجه أبو القاسم الشابي التشويه والتضييق والحصار بعد محاضرة عنوانها "الخيال الشعريّ عند العرب"، أبرز فيها افتقار هذه المدوّنة للخيال والتخييل وغلبة الطابع الحسيّ عليها
واجه أبو القاسم الشابي التشويه والتضييق والحصار، فطلب "اللجوء الإبداعيّ"، إلى أن احتضنته مجلّة "أبولو" بالقاهرة، فوجد فيها فضاء أكسبه حريّة التعبير، ولأنّ هذه الصفحات المتاحة لا تفي بمساحات الأنوار التي يحلم بها الشابيّ فقد سكت قلبُه عن النبض في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1934، وصعدت روحه إلى عالم علويّ واسع فسيح مشيَّدٍ لكلّ من يأبى العيش في "ذلّ القيود" ويرفض التخفّي بين الحفر.
إلى النور فالنور عذب جميل *** إلى النور فالنور ظلّ الإله
- محمد البوعزيزي: جسدُ شابّ يحترق وجثّةُ أمّة تعود إليها الحياة
أحرق محمد البوعزيزي جسده فخرجت روحه من التنكير إلى التعريف ومن المفعوليّة إلى الفاعليّة ومن الضعف والانحسار إلى القوّة والانتشار، لقد تحقّقت في هذا الشاب نبوءة أبي الطيب المتنبيّ:
إذا كانت النفوس كبارًا ** تعبت في مُرادها الأجساد
محمد البوعزيزي المفتقر إلى الرصيد المالي، والكفاءة الأكاديميّة والتجربة الثقافيّة كانت نفسه كبيرة، وكان مسكونًا بروح متعالية حرّة أبيّة، رفض الإهانة فأحرق جسده فأحيا به الأرض كلّها، أرضَ سيدي بوزيد التي انتفض أهلها احتجاجًا وأرضَ كلّ المدن التونسيّة التي اهتزت وزلزلت زلزالها لإسقاط النظام، وأرض العديد من الدول العربيّة ثائرة متطلعة إلى الحريّة والكرامة.
محمد البوعزيزي بإحراقه جسده، أخرج روحه من التنكير إلى التعريف ومن المفعوليّة إلى الفاعليّة ومن الضعف والانحسار إلى القوّة والانتشار
عمرٌ قصير، لحظةٌ وجيزة، حركةٌ خاطفة، كانت كفيلة بتحويل محمد البوعزيزي من شاب مقهور مغمور إلى رمز من رموز الحريّة، فاهتزّ له عرش جلّ الأنظمة المستبدّة وتحوّلت بفضله عقيدة الشباب من الرهان على الكفايات الماديّة مأكلًا وملبسًا ومسكنًا إلى جعل الحريّة والكرامة في مقدّمة كلّ المطالب.
محمد علي الحامي وأبو القاسم الشابي ومحمد البوعزيزي، وعلي بن غذاهم وعلي بن عيّاد وحبيبة مسيكة وغيرهم.. تباينت أساليبهم النضاليّة واختياراتهم السلوكية وتكوينهم المعرفيّ والثقافيّ وتجاربهم الحياتيّة لكنّ الجامع بينهم جميعًا هو الوعي بأنّ حياة الإنسان لا يمكن تقييمها تقييمًا ماديًّا يستند إلى السنّ وعدد الأبناء وحجم الثروات، إنّما المعيار في المفاضلة هو الأثر الذي يتركه الإنسان بعد مماته، "إنّما المرْءُ حديث بعده".
المدوّنة التاريخيّة التونسيّة حافلة بالأعلام الذين كان لهم ومازال أثر بعيد المدى في الذاكرة الوطنيّة رغم وفاتهم في سنّ الشباب، هذه الأسماء يتصدّرها بلا شكّ المناضلون ضدّ الاستعمار والاستبداد لكنّها تضمّ أسماء من مجالات وميادين أخرى مثل علي بن عيّاد في المسرح وحبيبة مسيكة في الرقص والغناء ومحمّد علي عقيد ومحمّد الهادي بالرخيصة والأسعد الورتاني في الرياضة هؤلاء وغيرهم كثيرون عاش كلّ منهم عمرًا قصيرًا وعلقت أسماءهم ومازالت في الذاكرة دهرًا طويلًا.