بدأت مرحلة أخرى من الصراع السياسي في تونس بعد إعلان النتائج الأولية للاستفتاء على مشروع الدستور الجديد بنسبة مشاركة ضعيفة مقارنة بالجسم الانتخابي وبنسبة موافقة عالية على الدستور، وهي معركة أخرى يحسمها الرئيس التونسي قيس سعيّد رغم عدم اعتراف المعارضة بهذه النتائج وبالمسار بشكل عام وهو ما يبقي على الانقسام السياسي الحاد الذي سبق مرحلة الاستفتاء ويضع المعارضات التونسية أمام حتمية التموقع إما خارج بقية مسار الرئيس ومواصلة مقاطعة بقية محطاته أو دخول المنافسة الانتخابية بداية من الانتخابات التشريعية في الشتاء القادم.
يتواصل الانقسام السياسي الحاد الذي سبق مرحلة الاستفتاء ويضع المعارضات التونسية أمام حتمية التموقع إما خارج بقية مسار الرئيس أو دخول المنافسة الانتخابية بداية من الانتخابات التشريعية
جمع جسم المعارضة التونسية، التي بدأت تبحث عن نفسها بعد أشهر من إعلان الرئيس التونسي الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية/يوليو 2021، مكونات رافضة لقرار الرئيس انطلاقًا من تشكل لقاء "مواطنون ضد الانقلاب" وصولا ًإلى تكوين "جبهة الخلاص الوطني" التي يتزعمها القيادي التاريخي للمعارضة التونسية أحمد نجيب الشابي، بالإضافة إلى التحاق لقاء الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية وحزب العمال في جبهة كانت تهدف إلى إسقاط الاستفتاء وصولًا إلى الحزب الدستوري الحر، الذي كانت استطلاعات الرأي تضعه في المقدمة قبل أن يقرر الرئيس قيس سعيّد حل البرلمان ووضع خارطة طريق بدأت بالاستشارة الإلكترونية وستنتهي بانتخابات تشريعية مرورًا باقرار دستور جديد.
- جبهة الخلاص وبقية المسار
ويمثل الموقف من نتائج الاستفتاء مؤشراً على تمشي المعارضات التونسية في المرحلة المقبلة فهناك خيط ناظم "تمشي" عليه الأحزاب والشخصيات السياسية بين من يمكن أن يتطور موقفه نحو القبول بقواعد اللعبة الجديدة وبين من يواصل في معارضة المسار بشكل راديكالي وهو ما تمثله جبهة الخلاص، التي تعتبر أنها دخلت في مرحلة نضال ضد التأسيس الجديد للرئيس التونسي بل إنها ذهبت إلى أكثر من ذلك حيث شككت في نتائج الاستفتاء ودعت إلى حوار يستثني الرئيس سعيّد يصل إلى تكوين حكومة إنقاذ وطني، ورغم أن هذه الدعوة ليست بالجديدة باعتبار أنها سبقت الاستفتاء إلا أن مواصلة التأكيد عليها بعد ساعات من بداية عملية التصويت يلزم الجبهة بموقع المعارضة الراديكالية لقيس سعيّد المتمتع بصلاحيات واسعة، وفق ما جاء في الدستور المستفتى عليه.
تعتبر جبهة الخلاص أنها دخلت في مرحلة نضال ضد التأسيس الجديد للرئيس وذهبت إلى التشكيك في نتائج الاستفتاء ودعت إلى حوار يستثني الرئيس ويصل إلى تكوين حكومة إنقاذ وطني
وتقول الجبهة، في أول بيان لها بعد الاستفتاء، إنها تعتبر أن قيس سعيّد اغتصبٍ السلطة ووضع نفسه خارج إطار الحوار الوطني داعية القوى الوطنية السياسية والمدنيّة إلى فتح مشاورات عاجلة من أجلِ عقد مؤتمر للحوار الوطني.
غير أن هذا الموقف قد لا يجد صدى لدى المجتمع السياسي والمدني الذي ورغم معارضة جزء منه لطريقة إدارة سعيّد للأزمة السياسية فإنهم لا يتبنون إمكانية الوصول إلى تسويات تستثني من يمسك بالسلطة الآن وهو ما يمكن اعتباره أيضًا مكابرة ومواصلة في الهروب إلى الأمام مع تواصل ثقة جزء من الشعب التونسي في خيار الرئيس. لكن تسجيل المواقف في الأحداث السياسية الكبرى مهم ربما لتحديد مربعات اللقاء ومساحات الاشتباك بين الفاعلين في المشهد.
غير أن حجم المناورة يبدو ضعيفًا لدى جبهة الخلاص التي تتكوّن من شخصيات مدنية لكنها أيضًا مدعومة من حركة النهضة التي يرى الملاحظون انها تمثل حجرة عثرة أمام إمكانية توسع هذه الجبهة في المرحلة المقبلة.
سمير ديلو (جبهة الخلاص): الواقعية لو كانت هي السقف الذي ينشط تحته كل رافض للأمر الواقع لما تحررت أي أرض ولما انتصرت أي مقاومة
في هذا السياق، يقول القيادي في جبهة الخلاص سمير ديلو في تصريح لـ"الترا تونس" إن الجبهة لم تطلب الالتفاف حول جبهة الخلاص إنما الالتفاف حول المصلحة الوطنية ليكون فتح حوار تشاركي حقيقي وإن من يرفض المسار لا يمكن أن يقبل بجزء من مخرجاته، وعن إمكانية التعامل مع الأمر الواقع وإمكانية المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة، يقول ديلو إن القانون الانتخابي سيضعه أحد المنافسين وتشرف عليه هيئة عينها أحد المنافسين، مشيراً إلى أن الواقعية لو كانت هي السقف الذي ينشط تحته كل رافض للأمر الواقع لما تحررت أي أرض ولما انتصرت أي مقاومة ولما فازت أي معارضة ولما سقط أي مستبد ولما هرب أي دكتاتور، مؤكدًا أن الواقعية في المعارك التقليدية لكن في المواجهات غير المتوازنة الأهم هو الحق وقوة الإرادة والمبادئ والقيم، وفقه.
- حملة إسقاط الاستفتاء.. إلى أين؟
ويبدو أن الأرضية التي تقف عليها جبهة الخلاص هي تقريبًا نفس الأرضية التي تمشي عليها أحزاب الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء التي لا تعترف بالمسار السياسي والدستوري والقانون الذي وضعه الرئيس التونسي حيث يقول الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي، في تصريحات إعلامية، إن "هذه الأحزاب ستواصل المقاومة والنضال لأن مسار سعيّد عاد بالبلاد إلى الوراء وإن رزنامته التي وضعها تبقى خارج الشرعية".
يبدو أن الأرضية التي تقف عليها جبهة الخلاص هي تقريبًا نفس أرضية أحزاب الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء التي لا تعترف بالمسار السياسي والدستوري الحالي
وهو ما يعني أن هذه الأحزاب قد عبرت من الآن عن مقاطعتها للانتخابات التشريعية القادمة غير أنها في المقابل تطرح إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها وهو ما يمكن اعتباره مطلبًا غير قابل للتطبيق في الوضع الراهن اعتبارًا لعدم قدرة هذه الأحزاب على تغيير موازين القوى الحالية حتى وإن استعمل سعيّد وسائل فرض الأمر الواقع التي تعتبر غير ديمقراطية ولا مصداقية لها، وفق هذه الأحزاب.
ولا يبدو التوقيت في صالح هذه الأحزاب التي أخرجها سعيّد بشكل دراماتيكي من دائرة الخيارات المطروحة أمام الشارع التونسي انطلاقًا من تفرده بالمبادرة السياسة وحتى القانونية والحال أنه سيطرح في المرحلة المقبلة قانونًا انتخابيًا جديدًا قد لا يختلف كثيرًا في طريقة إعداده عن طريقة إعداد الدستور وربما سيرفق ذلك بقانون للأحزاب قد يضع فيه تصوره الخاص الذي يحجم كثيرًا من دور الأجسام الوسيطة ويجعلها بمثابة الديكور في مجلس نواب الشعب القادم.
- من أجل استعادة المبادرة
في جبهة المعارضة المتفرقة بين أجسام لا تجمعها إلا مناهضة مشروع الرئيس قيس سعيّد، يقف الحزب الدستوري الحر كواحد من الأحزاب التي لا تعترف بالمسار ككل وهو ما أكدته رئيسة الحزب عبير موسي في اجتماع مع قيادات الحزب إثر إغلاق مكاتب الاقتراع يوم الاستفتاء، حيث أكدت على جملة الإخلالات التي شابت عملية الاستفتاء، معتبرة أن سعيّد قد فشل فيه وأنها لن تعترف بالمسار ككل ولن تنخرط فيه، مشيرة إلى أن حزبها قدم خارطة طريق سابقًا وهو متمسك بها قوامها الدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وهو ما يتطابق ولو جزئياً مع المعارضات الأخرى خاصة على الأقل في جزئية عدم الاعتراف بالمشروع السياسي الذي يواصل قيس سعيّد في وضع أسسه انطلاقًا من الرزنامة التي أعلن عنها بعد الاستفراد بالسلطة وإلغاء دستور 2014.
الدستوري الحر يملك حظوظًا أكثر من غيره من الأحزاب المعارضة في التشريعية القادمة وهو متمسك بالدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها منذ فترة
غير أن الدستوري الحر هو من يملك حظوظًا أكثر من غيره من الأحزاب المنافسة حيث كان يتصدر استطلاعات الرأي قبل أن يقلب سعيّد الطاولة على الجميع، لكن هذه الأرقام ستتغير حتمًا مع حدوث متغيرات كبيرة خلال السنة الماضية وإمكانية صعود قوى مساندة لمشروع سعيّد قد تقضي على طموح الحزب الحر الدستوري وتحصره في زاوية الأقلية داخل المؤسسات المنتخبة القادمة ذلك أن مشروع سعيّد قد لا يقف عند محطة الدستور الجديدة بل سيكمل في رسم ملامح المشهد السياسي القادم.
- بين المقاومةوالقبول بقانون اللعبة
يبدو أن هامش التحرك أمام المعارضة ضئيل رغم مشروعية جزء مما تبني عليه مناهضتها لمشروع الرئيس وهو الارتباك البيّن في صياغة محطات خارطة الطريق بدءًا بالاستشارة الوطنية التي لم تعرف إقبالًا كبيرًا من المواطنين وصولاً إلى محطة الحوار الذي وصف بالشكلي انتهاء بالتشكيك في الجانب الإجرائي والتنظيمي للانتخابات وبالتالي التشكيك في نتائج الاستفتاء وعدم الاعتراف بها.
المعارضة لم تتقدم خطوة في مجال تحرك الرئيس الواسع لأسباب ذاتية تتعلق بتآكل مشروعية الطبقة السياسية دون تقديم بدائل على مستوى تجديد القيادات والقيام بمراجعات
ورغم كل هذا فإن المعارضة لم تتقدم خطوة في مجال تحرك الرئيس الواسع لأسباب ذاتية تتعلق بتآكل مشروعية الطبقة السياسية دون تقديم بدائل على مستوى تجديد القيادات والقيام بمراجعات في السياسات والخطاب أو لأسباب موضوعية تتعلق بتشتت المعارضة والحديث عن معارضات متنافرة فيما بينها لا تملك مشروعًا موحدًا لا مرحليًا ولا استراتيجيًا ويذهب البعض بالقول إن لقاء المعارضة في جبهة موسعة هو من قبيل معجزات العصر الجديد، وهو ما يدعم موقف سعيّد ويعزز مكانته.
لا يتحدث سعيّد لغة السياسة التقليدية ويذهب شيئًا فشيئًا إلى غلق الحياة السياسية اعتمادًا على موالاة المؤسسات الصلبة لقراراته
لكن هذا الانحسار في هامش التحرك الذي يدعمه عدم تحدث الرئيس التونسي لغة السياسة التقليدية وذهابه شيئًا فشيئًا إلى غلق الحياة السياسية اعتمادًا على موالاة المؤسسات الصلبة لقراراته، لا يعني أن سعيّد حسم نهائيًا المعركة بل إنه سيكون في مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية قد تستفيد منها المعارضة لإجبار سعيّد على تعديل مواقفه في علاقة ببقية المسار، لكن شخصية سعيّد العنيدة وراديكالية جزء من المعارضة تجاه الذي حدث في 25 جويلية 2021 يؤشر إلى جولات قادمة من عدم الاستقرار في تونس.