19-سبتمبر-2022
قيس سعيّد

عديد الخطابات تدعو لفكرة المستبد النير لتشكل وعيًا جماعيًا بأن لا خلاص للأزمة بتونس إلا على يدي "ديكتاتور صالح" (ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي

 

في كتابه "سيكولوجيا الجماهير"، كتب المنظّر الفرنسي غوستاف لوبون (1841-1931): "والظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية: مهما كانت نوعية الأفراد الذين يشكلونه، ومهما كان نمط حياتهم متشابهًا أو مختلفًا وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية. إذن إليكم الآن مجموعة الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور: تلاشي الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتوجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل لتحويل الأفكار المحرّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة". 

لأن الشعبوية تقوم بالأساس على مخاطبة العواطف، لا تزال عديد الخطابات تدعو لفكرة المستبد النير لتشكل ما يشبه الوعي الجماعي بأن لا خلاص للأزمة في تونس إلا على يدي "ديكتاتور صالح" حامل لأفكار أو على الأقل ينطق بها هلاميًا

نسبيًّا، قد يبدو خطاب لوبون تعميميًا، نمطيًا، نخبويًا ومتعاليًا إلى حد ما، وهو ما أثار حفيظة عدة علماء اجتماع حول الهوية الفردية للأفراد المكونة للجمهور، ومدى حقيقة انصهار الفرد ووعيه داخل المجموعة، فتهيمن الكتلة على العنصر. لكن الثابت أن الحشود، ومهما بلغت درجة وعي أفرادها، تميل غريزيًا، حسب طرح توماس هوبز حول طبيعة الأفراد، وتسهل استمالتها، حسب نظريات إدوارد بيرنايز في التحكم بالجماهير، إلى القصووية في التعامل والمطالب، كالاستدراج إلى العنف، وهو ما يدركه السياسيون ويتسابقون في استخدامه. ولأن الشعبوية تقوم بالأساس على مخاطبة العواطف وتأجيجها، لا تزال العديد من الخطابات السياسية تدعو وتروج لفكرة المستبد النير، أو العادل، حتى تشكل ما يشبه الوعي الجماعي بأن لا خلاص للأزمة السياسية في تونس إلا على يدي "ديكتاتور صالح" حامل لأفكار أو على الأقل ينطق بها هلاميًا، وهو ما رآه الكثيرون في شخص الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ 25 جويلية/يوليو 2021.

  • المستبد المستنير: أصل الفكرة

عبر خيط رومنطيقي رفيع يمتد إلى العهد الأفلاطوني و"الملك-الفيلسوف"، ونظرًا لاقتناع عديد نخب التنوير، على غرار كل من جون لوك، فولتير ومنتسكيو، باستحالة تطبيق الديمقراطية على شاكلتها الأثينية في أوروبا القروسطية قبيل الثورات في فرنسا وإنجلترا، ظهرت فكرة الاستبداد النير، "Enlightned despotism"، كفكرة جذابة تدعو لوجود حاكم مطلق حامل لأفكار تحررية، تسنده مجموعة من العقول النيرة في التدبير والحكم، كمرحلة تمهيدية لبناء الدولة وتحقيق التحديث السياسي والثقافي، قبل المضي في الحكم الديمقراطي الذي رآه ديكارت نظام حكم مثالي إلى حد يليق بالآلهة فيما بينها، لا بالبشر. باقتضاب، الاستبداد النير هو نظام سياسي تقوده أقلية حاكمة، ملكية بالأساس، تؤمن بالفلسفة والأفكار التنويرية والحقوق الفردية كحرية الفكر والتعبير، المعتقد والحق في الملكية. 

وظهر في تلك الفترة، بين القرنين 17 و18 م، عدة ملوك شهد لهم بالحكمة والرشد، على غرار إمبراطور النمسا-المجر جوزيف الثاني (1741-1790) الذي جعل التعليم أكثر إتاحة للعموم وحارب نظام الأقنان في الفلاحة، وكذلك ملك بورسيا فريديك العظيم أو الثاني (1712-1786) الذي طوّر الإدارة والجيش وشجّع على الصحافة والتعبير، أيضًا كاترين العظيمة إمبراطورة روسيا (1729-1796) التي تسمى فترة حكمها بالفترة الذهبية الروسية إذ عرفت خلالها روسيا استقرارًا اقتصاديًا وازدهارًا ثقافيًا وأتاحت التعليم للنساء. 

فكرة الاستبداد النير ظهرت قبيل الثورات في فرنسا وإنجلترا كفكرة جذابة تدعو لوجود حاكم مطلق حامل لأفكار تحررية تسنده مجموعة من العقول النيرة في التدبير والحكم كمرحلة تمهيدية لبناء الدولة وتحقيق التحديث السياسي والثقافي

وقد لقت الفكرة رواجًا بين النخب الأوروبية، اليعقوبيون وأتباع "الشيخ" سان سيمون وباقي مكونات حركة التنوير، في قيادة ما يشبه الثورة الناعمة عبر الضغط وحث ملوك وأمراء أوروبا للتحول نحو الملكيات الدستورية وتوزيع بعض السلطات والتشاركية في القرار. 

عرف كذلك عدة حضارات أخرى هذا المفهوم، كالعقيدة الكونفوشيوسية في الصين التي تعتمد نظامًا فرز دقيق في ترشيح الإمبراطور، وللمسلمين من الاستبداد النير نصيب من الطرح، بل كانت جوهر عملية الحكم من خلال تداخل السلطتين السياسية والدينية فكان السلاطين والملوك يغلفون استبدادهم بغطاء ديني أساسه الشورى والفتوى، ومن هنا كانت فكرة شيوخ السلطان وفقهاء البلاط، كما سنرى فيما يلي.

  • المخاتلة أو المعادلة المستحيلة: 

"وإذا بدأنا بمصطلح "الطاغية الصالح أو الخير" فعلينا رفضه منذ البداية، إذا كانت هناك فكرة واحدة في النظرية السياسية لا خلاف عليها فهي أن الطغيان هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فسادًا." هكذا تحدّث الدكتور إمام عبد الفتاح إمام في كتابه "الطاغية"، أين تعرّض في الصفحة 62 من طبعة عالم المعرفة إلى فكرة الاستبداد النير ومدى المخاتلة التي تنضوي حولها: "أنه نظام يستخدم السلطة استخدامًا فاسدًا، كما يسيء استخدام العنف ضد الموجودات البشرية التي تخضع له... ولقد لاحظ أرسطو بحق أنه "يوجد رجل حر قادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم، إذا كان في استطاعته أن يهرب منه". 

بعد استفحال الديموفوبيا بعد 10 سنوات صعبة من ديمقراطية يتيمة انتهت بالأفول ذات 25 جويلية نادت الحشود وتصاعد النداء استبشارًا بحلول ركب "المستبد الصالح"، لكن من سيحاسبه ومن سيحمله المسؤولية؟

يقتبس فرانسيس فوكوياما على التراث الكونفوشيوسي الصيني عبارة "عقدة الإمبراطور السيئ"، حيث لم ينكر في أطروحته "أصول النظام السياسي" قدرة الأنظمة التسلطية، متى كان لها قدر أدنى من الحكمة، على الإنجاز السريع والأفضل من الأنظمة التي تكون فيها الإجراءات مكبلة بالبيروقراطية والقوانين المحكمة، لكنه استدرك مطولًا فرضية أن يكون الإمبراطور سيئًا أو فاشلًا، وقدر الدمار الذي قد يلحقه مستبد غير كفء ولا نظر له، الذي قد يقود البلاد إلى المجاعات والاحتلال والتشتت، وليس أوضح من هذا مثلًا ما تقدّم من سيرة محمد الصادق باي الذي كان له نصيب لا لبس فيه، حسب المؤرخين التونسي ابن أبي الضياف والفرنسي جون غاليانج، مما آلت إليه البلاد في زمانه من مديونية وعجز فتحت أبواب الاحتلال، بعد أن صار للقناصل والسفراء صولات في البلاد وأمر. 

يرد إمام عبد الفتاح إمام في كتابه هذا على عديد النخب العربية التي تبنت صدقًا أطروحة الاستبداد النير، رغم التضاد الجوهري الذي بنيت عليه، كجمال الدين الأفغاني وتوفيق الحكيم، من خلال التدقيق الاصطلاحي من العهد الإغريقي في كلمة Despotism، والتي تعني طاغية، حيث أن الأثنيين يطلقون كلمة ملك على الحاكم الصالح، وطاغية أو مستبد على الحاكم السيئ، وفق ما جاء في كتابه. أما عن الأمثلة السالف ذكرها كالإمبراطور جوزيف الثاني، أو جوزيف العظيم والعبارة لفوليتر، يستحضر د. إمام مراسلات بين الملك وصديقه الفيلسوف، عندما هم الأخير باجتياح النمسا بعد تأكده من ضعف السلطة فيها وقوة جيشه. 

الواضح والجلي بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد تخللها فاصل ديمقراطي قصير أن حال الاستبداد والإصلاح متضادان كثنائية الماء والنار أو الخير والشر، لا يمكن جمعهما في فرد واحد

في السياق التونسي، وبعد استفحال الديموفوبيا، خوف الديمقراطية، بعد عشر سنوات صعبة من ديمقراطية يتيمة انتهت بالأفول ذات 25 جويلية/يوليو، نادت الحشود وتصاعد النداء استبشارًا بحلول ركب "المستبد الصالح". وكانت من بين أبرز الحجج المطروحة: هي سنوات تشتتت فيها السلطة واستحالت المحاسبة، فليتولَّها فرد منفردًا لتسهل محاسبته ويتحمل المسؤولية. جميل... من سيحاسبه ومن سيحمله المسؤولية؟ بديهيًا، لا يمكن للحشود أن تجيب على هكذا أسئلة. لكن الواضح والجلي بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد تخللها فاصل ديمقراطي قصير، أن حال الاستبداد والإصلاح متضادان كثنائية الماء والنار أو الخير والشر، لا يمكن جمعهما في فرد واحد. 

 في الختام، إن ما آلت إليه ثورات الربيع العربي هو تحقيق لنظرية سياسية قديمة قد تعرّض لها في كتابه عبد الرحمان الكواكبي"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": قرر الحكماء أن الحرية التي تنفع الأمة التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأن التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئًا، لأن الثورة غالبًا تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولًا".

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"