10-أبريل-2019

مدارس في المناطق الريفية والداخلية تفتقد أحيانًا لأغلب مقوّمات البنية التحتية (مارتين بورو/أ.ف.ب)

 

حوادث حرق، وسقوط أجزاء من السقف ومن جدران الفصول، واقتحام وتهشيم محتويات إضافة لحيوانات وحشية وشرسة تهاجم ساحات المؤسسات التعليمية وأقسام التلاميذ، هي ظواهر لا تقتصر على مدينة أو قرية بعينها في تونس، في شمال البلاد أو جنوبها.

هي مؤشرات على المخاطر المحيطة بالفضاء المدرسي واهتراء بنيته التحتية بما يؤثر على العمليّة التعليمية وعلى قيمة المدرسة العمومية، كما تطرح التساؤلات حول مدى المحافظة على حرمتها وضمان الحد الأدنى للروّاد طالبي العلم.

مؤشرات عديدة على المخاطر المحيطة بالفضاء المدرسي واهتراء بنيته التحتية بما يؤثر على العمليّة التعليمية وعلى قيمة المدرسة العمومية

تحدثت الحكومة، منذ أكثر من عام، عن برنامج شامل لصيانة المؤسسات التربوية عبر تخصيص اعتمادات بقيمة 500 مليون دينار بما سيمكن بالخصوص من صيانة أغلب المدارس الابتدائية في إطار إستراتيجية النهوض بقطاع التعليم. ويُشار إلى أن عدد المؤسسات التربوية العمومية يقدر في تونس بـ 6086 مدرسة ابتدائية وإعداداية ومعهد ثانوي.

وتعهدت وزارة التربية بوضع مرجع وطني لجودة الفضاء المدرسي واستكمال تنفيذ الخطة الوطنية لصيانة المدارس الابتدائية في إطار العناية الخاصة بالفضاء المدرسي، مع الحرص على جعل المؤسسة التربوية لائقة بما يدعم شعور التلميذ بالانتماء إليها.

في المقابل، تتواتر نداءات استغاثة من الإطار التربوي والأولياء في بعض المدارس الريفية بسبب الوضع الكارثي لمؤسسات تفتقر للأسيجة وأبسط مقوّمات البنية التحتية. 

اقرأ/ي أيضًا: سكان "الهراهرة" في القصرين.. تونسيون مع وقف التنفيذ!

حيوانات في الساحة وتسرّب للمياه.. بنية تحتية مهترئة

خلف المرتفعات خارج مدينة كسرى، شرقي مدينة مكثر من ولاية سليانة، تقود طرق ملتوية وأحيانًا ضيقة وتالفة إلى لافتة أتى الزمن على بعض من طلائها. هي لافتة مدرسة "أولاد بوعافية" المؤسسة سنة 1986 وقد ارتفعت حول واجهة صغيرة من الآجر وبعض من الأحجار المرصوصة، فيما يتمثل سياج المدرسة في خليط من تين شوكي وصبّار يمتد على أكثر من 400 مترًا تحيط ساحة واسعة.

 يتمثل سياج المدرسة في خليط من تين شوكي وصبّار

على اليمين، أقسام أربعة علقت على جدرانها الداخلية جذاذات وبطاقات وأغلفة متنوعة لم تمنع على كثرتها الرطوبة المنتشرة أعلاها وعلى السقف. تكدست خارجها بقايا من حصى ورمل بعد عملية صيانة بسيطة لم تفلح في وضع حدّ لتسرّب مياه الأمطار من السقف.

كانت تكاليف الصيانة عبر عائدات محصول الزيتون من أشجار حديقة المدرسة، حسب مدير المدرسة الذي لم يخف حسرته أيضًا بسبب ظلمة المكان لانعدام الإنارة في الساحة. وليست الشبابيك بأحسن حال بعد أن أتى الدهر على طلائها وجل خشبها وأقفالها فأثقلت بالحجارة.

المسكن الوظيفي الذي يقطنه المدير وأسرته يشكو هو الآخر الرطوبة وعيوبًا كثيرة لم يذكرها، لكنه أكد، في حديثه لـ"ألترا تونس"، على أولوية أن يكون في المدرسة قاعة ومطعمًا يأوي التلاميذ من قسوة شتاء كسرى، وسورًا يحميهم من الكلاب السائبة والخنازير الجانحة التي تتطفل من حين لآخر.

شبابيك أتى عليها الدهر ولم تعد صالحة للاستغلال

اقرأ/ي أيضًا: التعليم في خطر: ثقافة "الموازي المدرسي" تهدد المدرسة التونسية

تضمّ المدرسة التي تأسست تحديدًا يوم 4 أكتوبر/تشرين الثاني 1986، 143 تلميذًا تبعد منازل بعضهم أكثر من 5 كلم يصلون إليها الساعة السادسة صباحًا. "ينتظرون حصصهم هناك"، وأشار المدير متحدثًا إلينا نحو مكان مسقوف لا يزيد طوله وارتفاعه عن متر ونصف.

وتقول معلمة بالمدرسة: "يحزّ في نفسي مشهد تلاميذي منتشرين في الساحة لتناول غذائهم في العراء في الحرّ والقرّ".

والماء في هذه المدرسة متوفر، ففي أقصى يسار الساحة شيّد خزان وامتلأ ماءً منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر، لكنه لم يسمح باستغلالها إلى حدّ الأن، رغم أن المدرسة تنتفع بالتزويد عبر خدمات الجمعية الموجودة في المنطقة. وهنا تساءل البعض ممن حضر في المدرسة عن جدوى مثل هذه الانجازات التي تهدر حوالي 40 ألف دينار لتبقى حوضًا للمياه الراكدة منذ أشهر.

معلمة (مدرسة"أولاد بوعافية" في سليانة): يحزّ في نفسي مشهد تلاميذي منتشرين في الساحة لتناول غذائهم في العراء في الحرّ والقرّ

وليست حالة المدرسة الابتدائية "الفضول" التي تأسست عام 1964 بأفضل. جزء من سياج واجهتها الأمامية من حجارة تداعت، والباقي من تين شوكي يكون وكرًا للزواحف الخطرة عند ارتفاع الحرارة، في حين لا يوجد أي حاجز في بقية محيط المدرسة. وأفاد مدير هذه المدرسة في تصريح لـ"ألترا تونس" أنها مرتع للحيوانات التي تأتي على كل مزروعات المدرسة وللكلاب السائبة التي تترصّد موعد لمجة التلاميذ حتى تتجمع في الساحة، مشيرًا إلى تعرض أحد المتفقدين إلى هجوم كلبين.

ففي هذه المدرسة التي تبعد عن العاصمة تونس أكثر من 170 كم شمال غرب العاصمة، لا يوجد لنحو 135 تلميذً، يقطع بعضهم 12 كم ذهابًا وإيابًا، مكان لتناول لمجتهم أو الاحتماء من البرد والمطر غير ساحة المدرسة المفتوحة. 

الرطوبة تغزو الأقسام نتيجة تسرب المياه

كما تشكو الأقسام الأربعة التي يتلقى فيها التلاميذ تعليمهم من الرطوبة وتسرب المياه من النوافذ. هي نوافذ من قطع الخشب يضطر المدير لإغلاقها دقًا بالمسامير كل عطلة مدرسية ويزيلها عند العودة. وتتسرب عبرها مياه الأمطار فتتلف ما تحتها من ملصقات، وتتسبب في رطوبة في جدران الأقسام.

وأما مسكن الديوان، فهو آيل للسقوط وقد أصابت جدرانه تشقّقات كبرى وتم اللجوء إلى رتق الباب المكسور بالألواح والمسامير. 

صد فراغات الأبواب القديمة بقطع من الخشب

بحسب تصريح المدير الجهوي للتربية الحبيب التاغوتي لـ "ألترا تونس"، يبلغ عدد المدارس المنعزلة في ولاية سليانة 114 مدرسة من بين 192 مدرسة لا يتوفر فيها الماء أو الكهرباء أو الطريق أو جميعها. ولم يخف الإشكاليات التي تهدد المدارس خاصة بسبب غياب السياج والنقص الكبير في خطة الحارس الليلي.  

وأفاد التاغوتي أنه تم بالتعاون بين وزارتي الفلاحة والتربية إحداث 120 خزان ماء بمواصفات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه لتغذية المدارس بالماء الصالح للشراب.

وتحدث المندوب الجهوي عن برنامج الصيانة الشاملة الذي قال إنه يهدف إلى صيانة وتجهيز المدارس، وانتفعت بموجبه 5 مؤسسات تربوية في سليانة على أن تشمل الصيانة 30 مشروعًا سنة 2019.

الحبيب التاغوتي (المدير الجهوي للتربية بسليانة):  يبلغ عدد المدارس المنعزلة في ولاية سليانة 114 مدرسة من بين 192 مدرسة لا يتوفر فيها الماء أو الكهرباء أو الطريق أو جميعها

وعن صيانة المساكن الوظيفية، قال المدير الجهوي إن الوزارة بصدد تحضير تصوّر للتصرف فيها وتجاوز الإشكاليات المتعلقة بها.

لكن يبدو أن إدراج المدارس المعنية بالإصلاح لا يتم عبر الاتصال بالقائمين على المدارس المنعزلة ومعاينة نقائصها التي تحدد الأولوية في التدخل. في تصريح لـ "الترا تونس"، أفاد علي العمدوني، المربي الذي قضى 42 سنة بين تدريس وإدارة عملية الصيانة، أنه غالبًا ما تكون الصيانة بوسائل ذاتية وخاصة في المدارس الابتدائية التي لا تخصّص لها اعتمادات أو كانت اعتماداتها قليلة لا تفي بالحاجة. وقال إنه عانى الأمرين في صيانة بعض المرافق في المدارس التي مرّ بها. 

اقرأ/ي أيضًا: العودة المدرسية: مدارس منهارة.. ووزارة التربية تخيّر الصمت

وأشار العمدوني إلى الفرق الكبير في ظروف البنية التحتية لهذه المؤسسات بين المناطق الريفية والحضرية، معلًلا ذلك بأن الأخيرة تتوفر على اعتمادات أفضل، بالإضافة إلى مساهمات بعض الأولياء الميسورين للقيام أحيانًا بكامل الصيانة المطلوبة والمساهمات المادية في كل الأنشطة في ظل شحّ التدخّلات الرسمية على حد قوله.

وأكّد المدير السابق، في نهاية حديثه معنا، ضرورة العناية بالمؤسسات التربوية بتسييجها وتجريم الاعتداء عليها وعلى المربّين فيها.

دائرة المحاسبات على الخط

جاء في تقرير دائرة المحاسبات فيما يتعلق بوضعية التعليم في ولاية جندوبة أن مستوى البنية التحتية ببعض المؤسسات التربوية يحول دون مواصلة السير العادي للعمل. ويذكر في هذا الشأن وجود قاعات مهددة بالانهيار بالمدرستين الابتدائيتين نهج الاستقلال ببوسالم و4 أفريل 1934 بواد مليز، وبالمدرستين الإعداديتين بعين دراهم وغار الدماء، عدا عن تسرب المياه داخل قاعات الدرس بالمدرسة الابتدائية الحساينية بطبرقة والبرانصية بغار الدماء وساحة المعتمدية بعين دراهم.

تحدثت دائرة المحاسبات في تقاريرها على الوضعية الكارثية للمؤسسات التربوية في المناطق الريفية والداخلية في تونس

وتحدث تقرير الدائرة أيضًا عن وجود تصدّعات وشقوق بجدران العديد من الفضاءات المدرسية منها المدارس الابتدائية واد مليز وفج حسين بغار الدماء، والمدارس الاعدادية 2 مارس بجندوبة وحمام بورقيبة بعين دراهم وسوق الجمعة بجندوبة الشمالية والجليل بغار الدماء. وأدى عدم الإسراع بصيانة هذه الفضاءات الى حصول انهيار الأسقف والجدران بالمدارس الابتدائية "الشحارير" و"البيضة بعين دراهم" و"المعالي" بجندوبة" والدزيرة ببوسالم" خلال سنتي 2015 و2016.

وضعية كارثية للمؤسسات التربوية

اقرأ/ي أيضًا: صيانة المؤسسات التربوية في تونس: انتفاضة المجتمع المدني وجدل التطوع والمصلحة

وأضاف التقرير أن وقاية التلاميذ من المخاطر الصحية تتطلب العناية بظروف التزود بمياه الشرب والتطهير ووضعية المركبات الصحية والمطابخ وحالة المحيط الداخلي والخارجي للمؤسسات الصحية، مبينّا أن 66.3 في المؤسسات تشكو تسرب مياه في الأسقف و25 في المائة منها لديها إشكاليات في تصريف المياه المستعملة عدا عن نسبة 22.3 في المائة لديها شبابيك معطوبة.

ورغم الاختلاف الممكن في النسب، يمكن أن تنسحب الإشكاليات التي تعانيها المؤسسات التربوية في جندوبة على كل المؤسسات خاصة منها في المناطق الداخلية والريفية خاصة وأن عدد كبير منها يعود تاريخ الإنشاء الى فترة الاستقلال، ولم يتم ترميمها أو تجديدها منذ عقود.

هل التزمت وزارة التربية الصمت؟

هاجم كلب من نوع "بيتبول" مدرسة السعادة في ولاية نابل في شهر أفريل/نيسان 2019، وتسبب اقتحامه لقسم التحضيري وقسم الثالثة ابتدائي في إصابة معلمة وثمانية تلاميذ بجروح مختلفة نقلوا على إثرها للمستشفى، وهو ما أدخل الذعر في صفوف التلاميذ والإطار التربوي.

وأوضح عضو نقابة التعليم الابتدائي في نابل حاتم بن رمضان في تصريح إذاعي أن الكلب تسلّل من الباب الخلفي للمدرسة في غفلة من صاحبه وهجم على التلاميذ ودخل في حالة هستيرية لمدة تزيد عن الساعتين قبل أن يتم تخديره.

وكانت المدرسة نفسها والتي تحصلت على أكثر من 400 ألف دينار للصيانة والتهيئة، عرضة للخلع والسرقة وانتهاك الحرمات وعقد جلسات خمرية من قبل منحرفين وفق ما أفاد به الكاتب العام للنقابة الأساسية للتعليم الابتدائي بقربة عيسى الرايس في تصريح إذاعي.

وقبل ذلك، اقتحم ثلاثة خنازير ساحة المدرسة الابتدائية بمنطقة تبلبو التابعة لولاية قابس. كما تعرضت مدرسة صالح بن صالح بالمكنين إلى التخريب وإتلاف مكونات 4 أقسام في غياب حارس من قبل أطفال يبلغون من العمر 12 عامًا ثلاثة منهم من المنقطعين عن الدراسة.

في السياق ذاته، دوّنت مديرة المدرسة الإعدادية بوخريص ببنزرت استغاثة عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بعد وصول رسائل تهديد من منحرف يروّع التلاميذ ويبتزهم عبر كلب من نوع "بيتبول" أمام المدرسة. ويعود ذلك إلى غياب الحماية الضرورية وغياب الحراسة أساسًا.

وعلى إثر الحادث، كلف وزير التربية لدى زيارته للمدرسة فريقًا تقنيًا للقيام بالتدخل اللازم لصيانة سياجها وتبليط ساحتها والنظر في إيجاد الحلول لتصريف مياه الأمطار وفق ما ورد على الموقع الرسمي للوزارة.

تقرّ الوزارة حسب ما جاء في المخطط التنفيذي لإصلاح المنظومة التربوية لوزارة التربية بأن الفضاء المدرسي يمثل نقطة ضعف بالرغم من أنه مكون أساسي في العملية التربوية وله دور رئيسي في إنجاحها. لكن الوزارة لم تعلّق على حوادث متكررة أخرى، كما لم تفصح عن إستراتيجيتها في الإصلاح والصيانة وتحيينها للخارطة المدرسية وخاصة في الأرياف من أجل إنقاذ ما تبقى من مدرسة عمومية حتى تكفل الدولة تكافؤ الفرص بما يتعلق بظروف التعلم والتعليم.

فيما يجب، في الأثناء، العمل على إيجاد الحلول الجذرية وفسح المجال أمام المبادرة الخاصة وإسناد دور المجتمع المدني كشريك فاعل للوزارة وعدم اعتباره منافسًا لها يفضح قصور أداء المسؤولين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مبادرات لبعث الحياة في مؤسسات تربوية تسلّل إليها شبح "الموت"

الخبير محمد بن فاطمة: منظومة التربية منهارة ولا بدّ من منهجية للإصلاح (حوار)