26-مارس-2019

مواطنون لا تربطهم بالدولة سوى بطاقات الهوية (صورة تقريبية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

أنت الآن في الطريق الوطنية عدد 13 الرابطة بين مدينتي القصرين المدينة وسبيطلة، الطريق معبدة وقد لا يخيل إليك أنها قد تأوي على الضفة اليمنى متساكنين تحت خط الفقر.

تعبر الطريق الرئيسة لتغوص قدميك في الوحل، حتى تعجز عن تبين شكل حذائك، هنا المطر لعنة تنزل فتلتحم بالتراب وتتحول الطريق غير المعبدة إلى برك آسنة. هنا مواطنون في مهب النسيان، غارقون في بوتقة الفقر يتشبثون بالقش ويصرخون لعل صدى صوتهم يبلغ الدولة.

أنت الآن في "دوار الجرابعية"، أنت الآن لست صحفيًا سينقل معاناة مهمشين بل بصيصًا من الأمل يتلاقفه سكان هذه المنطقة وبارقة ضوء يرونها وسط العتمة المحيطة بهم.

في "دوار الجرابعية" مواطنون في مهبّ النسيان (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

ما إن بلغ الأهالي نبأ قدوم صحفية إلى المكان حتى هبوا جميعا ليلقوا في وجهها بكل مرارة الواقع، صحفية تمزقت بين ضوابط المهنة ووازع الإنسانية.

هل لك أن تتخيل أنك أمل عشرات من الأفراد تناستهم الدولة في أن تكسر جدار الصد بينهم وبين المسؤولين وتكون سبيلًا لتلبية مطالبهم، هل لك أن تتخيل أنك أعزل إلا من أخلاقيات المهنة وضوابطها وإنسانية حافظت عليها داخلك وسط كومة من توحش مختلف التجليات، في مواجهة الفقر والتهميش والمرض.

أنت الآن في "دوار الجرابعية" لست صحفيًا سينقل معاناة مهمشين بل بصيصًا من الأمل يتلاقفه سكان هذه المنطقة وبارقة ضوء يرونها وسط العتمة المحيطة بهم

اقرأ/ي أيضًا: حي هلال في تونس.. لا يزال للأمل مكان

هنا المواطنة مجرد شعار، بل كذبة تتجلى حقيقتها المطلقة من الطريق المؤدية إلى المنازل وصولًا إلى المنازل عينها، هنا لا مكان للحقوق، لا حق في الصحة ولا التعليم ولا الحياة. هنا في "دوار الجرابعية" تولد لتموت كمدًا وقهرًا أو تموت جراء مرض الحصبة، وهنا تحيا وأنت تحاول أن تكون تونسيًا، هذا ما تبوح به التفاصيل في "الدوار" من البنايات إلى النظرات.

7 أفراد تحت سقف واحد.. لعنة الفقر

عيون ملونة، خضراء وزرقاء وعسلية، وواقع بلون واحد رمادي يميل إلى السواد، أحلام كثيرة كأكداس الحطب المتراكمة أمام المنازل، حطب يستجيرون به من وطأة البرد القارس.

هنا تختلط كل أحاسيسك وتعمك فوضى مربكة، هنا تخجل من ابتسامة انفلتت منك وعيناك تعانق عيني "لويزة" البنت ذات الست سنوات، لكنك سرعان ما تبتلعها مرة بطعم القهر وأنت تراقب الصبية يلهون حفاة عراة إلا من بعض الملابس التي لا تقيهم برد المكان.

في "دوار الجرابعية" تخجل من ارتدائك حذاء لا ثقوب تتلوه ومعطفًا بكرًا لم تترك الإبرة والخيط علامة عليه، تخجل لأنك تذكرت أنك تتذمر من مشاركتك نفس الغرفة وأختك.

في "دوار الجرابعية" تخجل من ارتدائك حذاء لا ثقوب تتلوه ومعطفًا بكرًا لم تترك الإبرة والخيط علامة عليه

في "دوار الجرابعية"، تخجل من مظاهر الزينة ولا تفكر كثيرًا لتمحي أحمر الشفاه بمنديل ورقي، المقام هنا لا يحتمل أحمر شفاه، فأنت في حضرة أم ثكلى فقدت ابنها جراء مرض الحصبة، أم تخونها العبرات وهي تتحدث عن محمد الإمام الحمدوني ابنها ذو الخمسة والعشرين سنة الذي مات ليخلّف أرملة وابنًا لم يبلغ بعد عامه الأوّل.

تشرق الأم بدمعها وتشرد الأرملة العشرينية بنظرها وكأنّها تعانق المجهول، ولكنّ الأب تجلّد وتسلّخ بالصبر وهو يحدّثنا عن ابنه الذي كان يعيلهم قبل أن تفتك به الحصبة ويلقى حتفه في المستشفى المحلي بسبيطلة.

العم التليلي الحمدوني، أعزل في مواجهة موت ابنه، هو يكابد ليكبت دمعه ولكن ارتعاشة صوته تخونه في كل مرّة، لا سيّما إذا نطق "ياخي مانش توانسة" (ألسنا تونسيين؟).

مظاهر الفقر والمعاناة في كل مكان في "دوار الجرابعية" (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

هنا في "الجرابعية"، الألوان ليست على حالها وكأنّ يدا امتدت لتمحو بريقها وتوشّحها بالرمادي الكئيب والأصفر الشاحب، فقط لون العيون ساطع وقاتل أيضًا وكأنّه يصرخ "لا شيء جميل هنا سوى لون أعيننا وجمالها الآسر".

وفيما تلاحق أرملة محمّد الإمام ابنها كي لا يلقي بيد في "الكانون" الذي يعدّون عليه الشاي وهي عادة مستشرية لدى سكّان الدواخل، يحدّثنا الأب المكلوم عن معاناة ابنه من الحمّى وتنساب دمعته غضبًا عن رغبته في حبسها وهو يحدّثنا عن تلك الصفعة التي وجّهها إليه أحد الحراس حينما طلب زيارة ابنه لتوجّه له الحياة صفحة ثانية وتنهي "التعاقد" مع ابنه.

هل تعلم أن العم التليلي وزوجته وابنه المتوفى وزوجة ابنه وحفيده وابنته التي تشكو من إعاقة وابنه ذو الـ13 سنة يسكنون في منزل بغرفة واحدة بنافذة تفتح على كل السيناريوهات باستثناء الأمل؟

هنا يرحب بك السقف فينثر عليك بعض شظايا الإسمنت وتتسلل قطرات الماء من الحيطان لتترك أثرًا أخضر، هنا يتحوّل براد وغسالة مهملين إلى مقعد وخزانة، هنا تتلاحم أنفاس الكل في مواجهة عدو أوحد هو البرد، برد الطقس وبرد المسؤولين.

هنا يتحوّل براد وغسالة مهملين إلى مقعد وخزانة (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

لا تمتلك كل تلك الشجاعة التي تخوّل لك البقاء وقت أكثر في هذه الغرفة التي تفتح عينيك على حقائق بالجملة وتجعلك تلعن الكل في سرّك بدءًا من مؤسسات الدولة والقائمين عليها وصولًا إلى الأحزاب ورؤسائها المستثمرين في مآسي الفقراء، فيما يبدو أن "دوار الجرابعية" يقع على هامش الهامش.

اقرأ/ي أيضًا: آخر سكّان "الوكايل"... انتظار الموت تحت سقف متداعي؟!

تغادر الغرفة التي دوّى فيها صدى صوت العم التليلي الحمدوني وهو يردّد طلبًا وحيدًا "أريد بطاقة علاج تضم ابنتي التي تشكو إعاقة"، رجل يواجه الفقر والعراء ويكاد منزله يتهاوى عليه وعائلته لكنّه لا يطلب سوى الحق في الصحة وفي العلاج، ربّما هو الخوف من أن يفقد ابنته كما فقد ابنه.

بخروجنا من الغرفة، تلاشى لهب "الكانون" وتجمع الرماد على جانبيه تمامًا كما تراكمت مطالب المهمشين على قارعة النسيان. أنت ما تزال تحت وطأة الصدمة غير مستوعب أن غرفة واحدة تأوي سبعة أشخاص، وغير مستوعب أنهم مازالوا يطهون الطعام على "الكانون"، أنت لا تريد أن تستوعب وإن أردت فإنّك لا تستطيع فمظاهر البؤس هنا كثيرة ولن تترك لك مجالًا للتأمل.

دوّار الجرابعية.. هامش الهامش!

وأنت تحاول أن تلبّي رغبة الكل في أن تنقل صوتهم وفي داخلك قناعة أنّك لن تستطيع، تشيح بناظريك إلى اليمين علّك تلحظ شيئًا ينتشلك من وطأة البؤس، فترى غسيلًا منشورًا على أكوام من الحطب، أتصدّق أنه لا يوجد حبل لنشر الغسيل هنا!

وأنت تتأمل الملابس المسجاة على أكوام الحطب في مواجهة شمس تغدق بأشعتها أحيانًا وتحجبها أحيانًا أخرى، لا تملك إلا أن تتبع نداء امرأة تتوسل إليك أن تبلّغ صوتها إلى المسؤولين بنبرة كأنها وخز السهام، هي أم هاني الهرهوري أرملة وأم لسبع بنات وطفل.

الغسيل يُنشر على أكوام الحطب في "دوار الجرابعية" (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

تسعة أشخاص يسكنون في غرفة واحدة، لا تختلف كثيرًا عن غرفة العم التليلي، الحيطان متشققة والماء ينساب منها كما تنساب دموع المعذبين في الأرض في كنف الصمت، هنا توضع الأغطية وأدوات المطبخ على صناديق كان يستعملها العائل الوحيد للأسرة في جلب الخضر التي يبيعها.

في هذا المنزل الكل منقطع عن الدراسة، شباب تتراوح أعمارهم بين 19 و24 عامًا لم يتلقّوا تعليمًا ولم تطأ أقدامهم المعاهد والجامعات، هنا يعيش "مواطنون" لا تربطهم بالدولة سوى بطاقة علاج مجاني وجراية تقدر بـ180 دينارًا (59 دولار) تقول الخالة أم هاني إنها لا تسدّ كل الاحتياجات.

لا تربطهم بالدولة سوى بطاقة علاج مجاني وجراية تقدر بـ180 دينارًا (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

في "دوّار الجرابعية"، "مواطنون" لا تربطهم بالدولة سوى بطاقات الهويّة التي يفتقر إليها بعضهم، في "دوار الجرابعية" قد تظن أنّهم يتبعون الدولة إذا ما طالعتك كوابل الكهرباء التي يعلّقونها على الشبابيك.

هل تعلم أن العائلات التي زرناها لا يوجد تلفاز في بيوتها، قد يكون الأمر نعمة فما تمرّره التلفزيونات في تونس قد يعمّق الهوة بين من أحكموا قبضتهم على البلاد وبين أولئك الذين لا تعرفهم البلاد لأنهم خارج سياقها.

وهي تمرّر يديها على الحيطان الباردة، وتشير إليّ ببقايا "الجير" العالقة بيديها، تقول الخالة أم هاني "أنا تونسية وأريد لفتة من دولتي.. أريد من السلطات المحلية ان تساعدني في إطار "تحسين المسكن" وأريد بطاقة علاج مجاني.. أريد أن أشعر أنّني أتبع هذه الدولة.. بلغوا صوتي إلى المسؤولين".

أم هاني:  أريد من السلطات المحلية ان تساعدني في إطار "تحسين المسكن" وأريد بطاقة علاج مجاني.. أريد أن أشعر أنّني أتبع هذه الدولة

لا ينقطع صوتها ويطاردك حتّى باب منزل امرأة أخرى ضربت مع الفقر والمرض موعدا يبدو أنه لن ينتهي إلا بلفتة جادة من المسؤولين.

نعيمة الهرهوري أم لتسعة أطفال وزوجة لرجل أقعده المرض عن العمل، تسكن هي الأخرى في غرفة واحدة لم يجد النور طريقه إليها، نعيمة لم تطلب من الدولة أن توفر لها الإنارة أو سكنًا يليق بمواطن لكنّها تطلب بطاقة علاج تلجأ إليها إذا ما ألمّت بها الحصبة، وفق قولها.

اقرأ/ي أيضًا: باعة المشموم.. عندما يتحوّل الياسمين إلى خبز

الجميع هنا يطلبون بطاقات العلاج بعد أن خطفت الحصبة أرواح الأزواج والأبناء، هنا في المنزلين المحاذين لمنزل نعيمة ماتت طفلتان جرّاء الحصبة " شيماء" و"تسنيم"، وفي منزل لا يبعد إلا بعض خطوات تحمل أم رضيعها المصاب بالحصبة بين ذراعيها وكأنها تصدّ عنه شبح الموت.

هنا لن تفكّر كثيرًا في إمكانية انتقال العدوى إليك، كل ما تفكّر فيه أن تزور أكبر عدد ممكن من العائلات قبل أن يشفق عليك أهالي "الدوار" ويدعونك للجلوس على حصير لأخذ قسط من الراحة أو لنقل من "التعب". فكل التفاصيل هنا متعبة وموجعة، تجلس فيسألك أحدهم "أنحضر لك كرسيًا؟" وتجيبه "أنا مثلكم أجلس على الحصير وعلى التراب"، وفي الحقيقة وأنت تتجوّل في "دوّار الجرابعية" لن تلمح كرسيًا يصلح للجلوس وكأنهم هنا يكفرون بالكراسي، تلك الكراسي التي يجلس عليها مسؤولون أتت بهم الصدفة ليتركوا مصير عائلات يصارعون القدر المحتوم.

يغيب الأثاث في بيوت "دوار الجرابعية" (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

ولا تلبث أن تلتقط أنفاسك وترتب الأفكار في رأسك حتّى تطلّ عليك شابة عشرينية تحمل ابنيها بين يديها رضيع ذو عامين مصاب بالتهاب اللوزتين ووضعه يتطلّب تدخّلًا جراحيًا، هي سنية الهرهوري امرأة ذات جمال خجول تعلوه مسحة من الحزن، تعي جيدًا أن الحياة أولويات وأنّ الخير في أن يكون ابنها بصحّة جيّدة لذلك هي ما تنفك تعيد على مسمعك "أريد أن اعالج ابني.. أنا تونسية ومن حقي أن أعالج ابني".

هي هادئة وقليلة الكلام ولكن عينيها تفضحان كل الكلام العالق في حنجرتها، هي أسيرة الخوف على ابنها من ناحية وأسيرة الفقر من ناحية أخرى. فقد جمعها القدر بشريك في مكان تنعدم فيه مواطن الشغل، هنا إذا تمكّن زوجها قيس الهرهوري من بيع بعض الخضر يعرف الطعام طريقه إلى بطونهم وإلا فإنهم يلتحفون الجوع وينامون.

في "دوار الجرابعية" من منطقة "الهراهرة"، جولة صغيرة في عدد من المنازل لا تتجاوز مدّتها نصف الساعة كفيلة بأن تزعزع كيانك وتربكك وتجعلك تتساءل: "أين هؤلاء من الحياة ومن الدولة"، ويأتيك الجواب حينما تهم بمغادرة المكان ويتجمّع حولك النسوة والأطفال والرجال ويردّد بعضهم "رانا توانسة وصلولنا صوتنا" لكن الجواب هو "سكان منطقة الهراهرة تونسيون مع وقف التنفيذ!".

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحياء الآجر على ضفاف المدينة.. بوصلة الفقر في سوسة

في مستشفى سليانة.. غياب طب الاختصاص يعمّق أوجاع المرضى