30-يناير-2022

عدد المتقاعدين في تصاعد ملحوظ وفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء (Getty/ Thierry Monasse)

 

"سوق المنصف باي" بتونس العاصمة المعروف لدى عامّة الناس ببيع الأدوات الإلكترونية المنزلية الصينية المقلّدة وأكسسوارات الهواتف النقالة، نجد الأنهج المحاذية له تتحول مع صبيحة كل يوم أحد إلى سوق أسبوعية لبيع الحيوانات المدجّنة من قطط وكلاب وسلاحف ودجاج وطيور وعصافير وفئران وقنافذ وثعالب.. وغيرها.

السّوق تبدو غير منظمة، فالأرصفة متاهة لأصوات الحيوانات، والمعروض منها متنوع وغريب، لكن المارة لا يأبهون لذلك، فلكل واحد ضالّته، ووسط هذه الزحمة، يجلس رجل أنيق بربطة عنق زرقاء داكنة على كرسي بلاستيكي أبيض ويضع على طاولة صغيرة تستقر أمامه مباشرة ثلاثة أقفاص جميلة متوسطة الحجم وداخل كل واحد منها عصفور "مقنين" (الحسّون) والذي يُطلق عليه التونسيون "البومزيّن".

الأسعد النّوي (متقاعد)  لـ"الترا تونس": تقاعدت منذ ثلاث سنوات وقد انشغلت بتربية العصافير وهذا يدرّ عليّ بعض المال لكنه أيضًا ملء للوقت، إذ يبقى الأهم بالنسبة إليّ هو عدم الاستكانة للروتين الذي يعتبر مُبددًا للروح

 اقتربت من الرجل وسألته أسئلة عديدة تتعلق بتربية العصافير وخصوصًا هذا النوع من العصافير، وبعد أن تشكّل حقل من الألفة بيني وبينه عرفت أن اسمه هو "الأسعد النّوي" وكان يشغل منصب مدير بإحدى إدارات وزارة الفلاحة ويقطن بمدينة سيدي ثابت من ولاية أريانة وهو متقاعد منذ ثلاث سنوات وقد انشغل بتربية العصافير مشيرًا إلى أنها تدرّ عليه بعض المال لكنها في الوقت نفسه هي ملء للوقت، إذ يبقى الأهم بالنسبة إليه هو عدم الاستكانة للروتين الذي يعتبره مُبددًا للروح.

إن كلام "الأسعد النّوي" جعلنا نطرح سؤالًا بسيطًا لكنه يتّسم بالعمق أيضًا، وهو ماذا يفعل المتقاعد بعد الإحالة على شرف المهنة؟ كيف يقضّي وقته؟ وكيف يرى ذاته بعد أن أتم عمله؟ 

اقرأ/ي أيضًا: العمل بعد التقاعد.. حاجة إلى المال وهروب من الاكتئاب

مع بداية التهرّم الديمغرافي الذي تعرفه تونس في العقدين الأخيرين وحسب منشورات المعهد الوطني للإحصاء، فإننا نجد مؤشرات الأرقام الخاصة بعدد المتقاعدين في تصاعد ملحوظ، ففي سنة 2021 يُتبيّن أن عددهم تجاوز المليون متقاعد موزعين بين القطاعين العام (320 ألف) والخاص (700 ألف)، ومن المرجح أن يرتفع هذا الرقم مع أفق 2024 ليصل إلى مليون و200 ألف و500 متقاعد.

 كما تفيد المؤشرات الصادرة أيضًا عن المعهد الوطني للإحصاء والجمعية التونسية للمتقاعدين، إلى أنّ 40% من هؤلاء المتقاعدين يتقاضون أجرًا لا يرقى إلى مستوى الأجر الأدنى المضمون في تونس المعروف بـ"السّميغ" الأمر الذي يضطرّهم إلى العودة إلى العمل من أجل تأمين حياتهم في ظل الاختلال المعيشي وتفشي الجائحة.

الطاهر القيزاني (متقاعد) لـ"الترا تونس": أيام التقاعد بسيطة جدًا، الجلوس في المقهى صباحًا، ثمّ زيارة السوق المركزية والعودة إلى المنزل وبعدها تمضية المساء في حلقة ذكر صوفية بأحد مساجد المدينة، ثم صلاة العشاء في جامع الزيتونة

ولمزيد الاقتراب من الموضوع، توجهنا لمقهى المتقاعدين بنهج "شارل ديغول" بالعاصمة وهناك التقيت عم "الطاهر القيزاني" وهو سبعينيّ متقاعد من البريد التونسي ويسكن بمدينة تونس العتيقة، ذكر لـ"الترا تونس" أن أيام التقاعد بسيطة جدًا، فهو يأتي يوميًا إلى هذا المقهى ليشرب "الفيلتر" رفقة بعض الأصدقاء المتقاعدين فيتذاكرون الماضي وينظرون إلى المستقبل الغائم بقلوب مفعمة بالدعاء والصلاح، ثم يزور "المارشي سنترال" (السوق المركزية) لشراء بعض الأغراض ليعود إلى المنزل ومن ثمة يقضّي المساء في حلقة ذكر صوفية بأحد مساجد المدينة، ثم ينهي يومه بأن يصلي صلاة العشاء في رحاب جامع الزيتونة المعمور. 

بالمقهى نفسه، وليس بعيدًا عن جماعة عم "الطاهر القيزاني"، تجلس مجموعة أخرى من المتقاعدين، كان الحديث إليهم ممتعًا وشائقًا وثريًا بالتجربة الحياتية. 

محمود السعيدي (متقاعد)  لـ"الترا تونس": مرتّبي الشهري بعد التقاعد نقُص بنسبة 20%، وهو ما اضطرني إلى فتح "محل للتمريض"، كما أصبحت ناشطًا في فرع الهلال الأحمر بجهتي، وأقدم دورات تدريبية في الإسعافات الأولية

من جلاّس المجموعة، نجد "محمود السعيدي"، ممرض متقاعد من القطاع العام، اشتغل بعدة مستشفيات بالجهات وبالعاصمة، عمره 68 سنة، أوضح لـ"الترا تونس" أن مرتّبه الشهري بعد التقاعد نقُص بنسبة 20%، فوجد نفسه مضطرًا لفتح "محل للتمريض" بالحي الذي يقطن به، يقدّم فيه خدمات صحية بسيطة كوضع الضمادات وإزالتها ودق الحقن، وقياس ضغط الدم والسكري. ويضيف أن هذه التجربة أضافت إليه الكثير على المستوى الإنساني إذ جعلته يقترب أكثر فأكثر من أبناء الحي. وأضاف "السعيدي" أنه أصبح ناشطًا في فرع الهلال الأحمر بجهته، يقدم دورات تدريبية في الإسعافات الأولية وورشات للأطفال خاصّة بالوقاية من جائحة كورونا.

اقرأ/ي أيضًا: عقود العمل الوهمية.. تجارة الرق الحديثة

أمّا "محمد الهادي النعيمي" المتقاعد من قطاع التعليم، والذي يبلغ من العمر 71 عامًا فقد أوضح لـ"الترا تونس" أنه قضّى أكثر من 20 سنة مدرّسًا بأرياف الوطن القبلي والبقية قضّاها بمدارس العاصمة، وعن سنوات ما بعد التقاعد، أشار إلى أنه يقضّي أغلب وقته ضمن الأنشطة التربوية البيئية التي تنظمها "دار المربّي" والجمعيات التربوية الشريكة معها، ويضيف "النّعيمي" أنه ومجموعة أخرى من المتقاعدين من قطاع التربية والتعليم، يسعون إلى تدريب الناشئة الجديدة على حب الطبيعة وحماية المحيط وذلك عبر الورشات التّوعوية والبراعة اليدوية والرحلات الترفيهية الموجّهة، والعناية بالحدائق المدرسية وحملات النظافة وغراسة الأشجار في الحدائق العمومية بالتنسيق مع البلديات.

حسن التّبيني (متقاعد)  لـ"الترا تونس": أصبحت أشتغل مع أقاربي بعد التقاعد في وكالة أسفار مختصة في العمرة والحجّ، فأتنقل إلى المؤسسات والشركات، للترويج لعروض الوكالة، وهذا الأمر أعاد إليّ مشاعر الاستمرار في العمل، وهو ما لا يقدّر بثمن

كما تنقلنا إلى أحد مكاتب الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بتونس العاصمة لنلتقي هناك "حسن التّبيني" عمره 68 سنة، متقاعد من شركة الوطنية للسكك الحديدية، ذكر أنه أصبح يشتغل مع أقاربه بعد التقاعد في وكالة أسفار مختصة في العمرة والحجّ إلى بيت الله، فهو يتنقل إلى المؤسسات والشركات، ويقوم بالإعلان والترويج لعروض الوكالة والتخفيضات الممكنة والتسهيلات في الدفع التي يمكن أن يتحصل عليها الحريف، مضيفًا أن هذا الشغل الإضافي مكّنه من مشاعر الاستمرار في العمل، وهو حسب رأيه أمر لا يقدّر بثمن، والأهم من ذلك كلّه هو سفراته المتتالية إلى الأراضي المقدسة ضمن وفود الوكالة.

صورة توضيحية لمتقاعدين أثناء جلوسهم في مقهى (Getty)

المتقاعد "حسن التبيني" عرّفنا إلى السيدة "مامية النفزي" (62 سنة) وهي متقاعدة حديثًا من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وقد قدمت إلى هذا المكتب الإداري لتسأل عن أجرتها التي تخلّفت للشهر الثاني على التوالي، وحسب روايتها لنا فإن المتقاعد في تونس يعيش عدة صعوبات وأزمات منها النقص الفادح في أجرة التقاعد، إذا لا أحد في تونس يحصل على 100% من أجره الذي كان يتقاضاه من مؤجره الأصلي، مرجعة ذلك إلى تواطؤ الاتحاد العام التونسي للشغل مع حكومة يوسف الشاهد بخصوص عملية احتساب الأجر معتبرة ذلك ضربًا معنويًا وماديًا لشريحة مجتمعية أفنت العمر في بناء الوطن، الأمر الذي يدفع بالعديد من المتقاعدين الى العودة إلى العمل الهش من أجل خلق توازن ما لأجورهم.

وأضافت محدثتنا أن المتقاعد في تونس لا يلقى القبول الحسن والمخصوص بالمؤسسات الصحية العمومية وبالإدارات بشكل عام. وبالنسبة إليها أوضحت السيدة "مامية" أنها بعثت مشروعًا فلاحيًا بأرض ورثتها عن والدها بجهة باجة مؤكدة أنها ربّما تستقر نهائيًا بهذا المشروع.

سفيان الفراحتي (مختص في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": لا بدّ من بعث مجلة قانونية لحماية المتقاعدين تحميهم وتمنع تشغيلهم في أعمال تمسّ من كرامتهم وحرمتهم الجسدية، وتعاقب كل من يقوم باستغلالهم

اتصل "الترا تونس" بالأستاذ "سفيان الفراحتي" المختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية، وبسط بين يديه هواجس المتقاعدين التونسيين وطلب رأيه فيما يقومون به من أنشطة بعد الإحالة على شرف المهنة، فأكد منذ البداية أن المجتمع التونسي آخذ في التهرّم، وأنّ شريحة المتقاعدين بالقطاعين الخاص والعام ستتزايد في السنوات القادمة وخاصة مع توخي الحكومة الحالية سياسة التقاعد المبكّر في الوظيفة العمومية ومقابل ذلك لا تستعد الدولة لهذا الأمر بل نراها تمعن في إهمال هذه الشريحة، إذ لا نجد استراتيجية واضحة خاصة بالمتقاعدين كأن تقوم مثلًا بتهيئة نفسية قبل الإحالة على التقاعد عبر دورات تكوينية، فتحفزهم على المضي للمرحلة القادمة بمعنويات عالية، كما نجد أن القوانين التي تنظم حياتهم الجديدة متقادمة إذا ما قارنّاها بمجتمعات أخرى مشابهة.

وبخصوص توخيهم لأعمال هشة تتسم بالصعوبة والمشقة في بعض الأحيان، أكد المختص في علم الاجتماع أن ذلك "عار على الدولة التونسية وفيه مس من حقوق الإنسان، فكما نجد مجلة للطفل تمنع تشغيلهم قبل السن القانونية فإنه بات من الضروري أن نبعث في تونس مجلة للشيوخ والمتقاعدين تحميهم وتمنع تشغيلهم في أعمال تمسّ من كرامتهم وحرمتهم الجسدية، وتعاقب كل من يقوم باستغلالهم" وفقه.

اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

أما ذهابهم من تلقاء أنفسهم لأعمال تطوعية أو دينية أو علمية أو بيئية أو الانخراط في الجمعيات مدنية، ووفق المختص في علم الاجتماع، فإن ذلك يرمم نفسيتهم ويهون عليهم شيخوختهم ويجعلهم يشعرون بأنهم مازالوا يسهمون في المجتمع. ودعا الأستاذ  "سفيان الفراحتي" إلى ضرورة بعث نسيج داخل المجتمع المدني يهتم بهذه الشريحة المجتمعية ويساعدها على جميع الأصعدة حتى تشعر بالأمان ولا نرى في أعين الآباء والأمّهات مشاعر الخذلان.

إن المتقاعدين في دولة مثل اليابان يعتبرون "ثروة وطنية" لا بد من حمايتهم والاعتراف لهم بالتجربة الحياتية والمهنية التي خاضوها وذلك بواسطة القوانين وأساسًا عبر الأخلاق اليابانية القديمة، بل ودعوتها لتمرير عصارة سنوات العمر للأجيال الصغيرة عبر لقاءات في المؤسسات التعليمية واستشارتها في المسائل الشائكة التي تهم الأمة واحترام رأيها. فمتى تعتبر تونس متقاعديها "ثروة وطنية"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

 يوم الحنين بكلية الآداب بمنوبة: طلاب هزهم الشوق لأرض البدايات وأمجد الكليات

الـ"فريلانس".. وجهة جديدة لشباب تونس الباحث عن عمل