21-مارس-2019

العمل بعد التقاعد بات ظاهرة واسعة الانتشار في تونس (مريم الناصري/الترا تونس)

 

باتت عمالة من تخطت أعمارهم الستين عامًا ظاهرة منتشرة في تونس، إذ تجدهم يمتهنون بعض الأعمال التجارية أو الحرف أو المهن كسياقة سيارات التاكسي. ويظن البعض أنّ هؤلاء العملة يشتغلون في تلك المهن منذ شبابهم والحال أنهم اختاروا هذه المهنة أو تلك بعد بلوغهم سنّ التقاعد.

التقاعد عند الأغلبية يعني الابتعاد عن الحياة المهنية والأعمال المتعبة وبداية راحة مستحقة بعد سنوات طويلة من الجهد ليتحرر المتقاعد من قيود الوقت والرسميات ويكتفي بذكريات أيامه في العمل، لكن بالنسبة للبعض هو فرصة لكل من هو قادر على العطاء لمزيد من العمل مجددًا. 

التقاعد عند الأغلبية يعني الابتعاد عن الحياة المهنية وبداية راحة مستحقة بعد سنوات طويلة من الجهد لكن بالنسبة للبعض هو فرصة لكل من هو قادر على العطاء لمزيد من العمل مجددًا

يبلغ سن التقاعد في تونس حاليًا 60 عامًا في انتظار المصادقة على مشروع حكومي لترفيعه لسن 62 عامًا وهو ما يثير الكثير من الجدل بين رافض ومؤيد. لكن فئة ممن تقاعدوا منذ سنوات لا يعني لهم بلوغ سن التقاعد فرصة للراحة أو المكوث في البيت، وذلك بخيارهم لمواصلة مسيرة العمل لسنوات أخرى في مهن مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: الـ"فريلانس".. وجهة جديدة لشباب تونس الباحث عن عمل

عودة لمهنة الأجداد بعد التقاعد

محمّد من بين هؤلاء المتقاعدين الذين يواظبون على العمل في عمر متقدّم، وهو أمر ضروري بالنسبة له وخيار يتحمّل مسؤوليته وفق قوله. ففي دكان صغير جدرانه تكاد تتداعى على من يدّثر تحتها ويتخذها مسكنا له، كان يبسط منسجه لنسج سجاد من نبتة السمار، السجاد الذي اشتهرت به ولاية نابل.

يعمل محمد بعد تقاعده في نسج السجاد من نبتة السمار (مريم الناصري/الترا تونس)

رغم بلوغه سنّ الـ63 عامًا إلا أنّه خيّر مواصلة العمل واختار تلك الحرفة التي تمتاز بها جهته. يقول لـ"الترا تونس" إنّه كان موظفًا في إحدى المؤسسات الحكومية، وكان يعمل بعد الدوام في نسج السجاد من الساعة الخامسة حتى ساعات متأخرة من الليل ليحافظ على حرفة الأجداد، التي مكنته من دخل إضافي كان يساعده مع أجره الشهري على مواجهة مصاريف الأسرة. وباتت تلك الحرفة تساعده اليوم أيضًا على توفير دخل يتجاوز أحيانًا 700 دينار لاسيما وأنّ المعاش لم يعد يكفيه لمجابهة غلاء المعيشة وارتفاع أسعار أغلب المواد الأساسية وفق تأكيده.

كثير من المتقاعدين من ذوي الدخل المنخفض تقابلهم زيادة أعباء الحياة وغلاء المعيشة، وبالتالي أصبحت مواصلة العمل بالنسبة لهم اضطرارًا أكثر منه اختيارًا وذلك لتغطية الحاجيات اليومية نظرًا لضعف راتب التقاعد.

سائق تاكسي بعد التقاعد

كثير من المتقاعدين من ذوي الدخل المنخفض تقابلهم زيادة أعباء الحياة وغلاء المعيشة، وبالتالي أصبحت مواصلة العمل بالنسبة لهم اضطرارًا أكثر منه اختيارًا وذلك لتغطية الحاجيات اليومية نظرًا لضعف راتب التقاعد.

العمّ عبد الحفيظ عيوني بعد أن قضى أكثر من 30 سنة كموظف في مكتب يقضي فيه ثماني ساعات بعيدًا عن صخب المدينة وشوارعها، بات يجوب يوميًا أغلب شوارع العاصمة بسيارة الأجرة منذ ثلاث سنوات بعد إحالته على التقاعد حتى أصبح اليوم أكثر قربًا من الناس.

يقول "لـ"الترا تونس" إنّه اختار العمل بعد التقاعد كسائق تاكسي لأنّها مهنة غير متعبة وتناسب سنّه ولا تتطلب منه مجهودًا كبيرًا، كما أنّها مهنة أخرجته من روتين المكتب الذي قضى فيها سنوات عدّة بعيدًا عن حياة الحرية التي وجدها اليوم، على حد تعبيره.

عبد الحفيظ (سائق تاكسي بعد التقاعد): خططت للعمل كسائق تاكسي قبل تقاعدي وأعمل من أجل المال وللابتعاد أيضًا عن الاكتئاب

وأضاف أنّه خطط لهذا العمل قبل خمس سنوات من إحالته على التقاعد وادخر المال الكافي لاقتناء سيارة تاكسي، موضحًا أن حاجته للمال أولًا وللابتعاد عن الركود والاكتئاب ثانيًا هما من دفعاه إلى التفكير في العمل بعد التقاعد. وأشار إلى أنه اضطر للعمل بعد التقاعد نظرًا لضعف معاشه الذي لا يتجاوز 500 دينار والحال أنّ أغلب أبنائه مازالوا يدرسون بالجامعات.

اقرأ/ي أيضًا: هل تفضح مقابلات العمل سوق الشغل في تونس؟ (شهادات)

العمل من أجل مواجهة الفراغ والاكتئاب

أصبحت اليوم فئة كبيرة من المتقاعدين لا تعرف للراحة طعمًا، وتختلف أسباب اللجوء إلى العمل الموازي لمنحة التقاعد غير أن أهم هذه الأسباب وفق ما التقيناهم هي مجابهة غلاء المعيشة. لكن العودة إلى العمل بعد الستين لا تُعزى فقط إلى الحاجة للمال بل تُعتبر حلًا لمحاربة الفراغ والاكتئاب لدى من تعودوا على وتيرة حياة نشيطة، وفق ما يشير إليه محدثنا إبراهيم المهيدي لـ"الترا تونس".

ابراهيم المهيدي (عامل نجارة بعد التقاعد): العمل بعد التقاعد يعتبر حلًا لمحاربة الفراغ والاكتئاب لدى من تعودوا على وتيرة حياة نشيطة

محدثنا أضاف أنّه تقاعد منذ أربع سنوات لكنّ بقاءه في البيت طيلة سنتين دون عمل جعله يشعر بالملل، إذ لم تخرجه الصحف اليومية التي يطالعها ولا جلساته مع رفاقه في مقهى الحي من الركود والشعور بالاكتئاب ليخيّر العمل الذي يجعله يشعر بالعافية والاحساس بوجوده على حد تعبيره.

ويعمل إبراهيم اليوم في ورشة نجارة، يرسم تلك الرسوم على الخشب ليقوم العمال هناك بنقشها مستثمرًا ابداعه في الرسم بقلم الرصاص على كل المحامل لاسيما وأنّه حاصل على شهادة تكوين في فنون الرسم. يقول إنّه يشتغل اليوم بأجر بسيط لكنّه لا يبحث عن المال بقدر ما يبحث عن عمل يشغله ويخرجه من حياة الركود في البيت، وقد وجد ضالته في عمل ممتع لا يجهده كثيرًا حسب قوله.

بالنهاية، يضطرّ عديد المتقاعدين للالتحاق بالعمل مجددًا في اتجاه يسير عكس إرادة الحياة التي تستوجب راحتهم بعد تعب سنين لأجل إعالة أبناء مازالوا يدرسون أو أبناء تخرجوا ولم يجدوا عملًا، فيصبح من الضروري عليهم البحث عن وظيفة جديدة لتتغيّر الصورة الحالمة التي كانت مرسومة في خيال البعض منهم. فمن عبء السنين والكبر إلى تحمّل أعباء أخرى والبحث عن طريقة جديدة لتحصيل القوت. هي أعباء تختفي معها الصورة الوردية المعروفة عن مرحلة التقاعد وراحة البال ليتحمّل بعضهم روتينًا آخر قد يكون أكثر ثقلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوادث شغل المهن غير المهيكلة.. ضحايا دون تعويض!

عقود العمل الوهمية.. تجارة الرق الحديثة