02-أكتوبر-2018

العمل الحر أو "الفريلانس" يشهد انتشارًا واسعًا في تونس في صفوف الشباب (getty)

بينما أكتب أنا هذه السطور كمقدمة لمقال عن العمل الحر أو "الفريلانس" كما هو متعارف على تسميته، هناك من انتهى من عمله منذ الساعة العاشرة صباحًا ولكن لزامًا عليه أن يجلس في مكتبه حتى الساعة الخامسة بعد الزوال حتى يستطيع المغادرة. لماذا؟ لتسجيل وقت الخروج والدخول. نعم الوقت في تونس ورغم التطورات التي شهدها العالم في ميكنزمات العمل إلا أنه لا يزال المحدد الأول لتقييم الانتاجية والحصول على الراتب.

محمد (اسم مستعار)، شاب تونسي يبلغ من العمر 30 ربيعًا، يعمل في أحد الفروع التي تتبع وزارة الشؤون الاجتماعية، يضطر إلى حمل كتاب معه إلى العمل حتى يستطيع تمضية الوقت قبل أن يسمح له بالمغادرة في الوقت المحدد قبل الزوال. روتينية العمل اليومي والمشروط بعقد يحمل في فصوله عدد ساعات العمل اليومية والراتب الذي لا يتغير، جعل العمل الحر يتسلل شيئًا فشيئًا إلى تونس ويحظى بإعجاب عديد الشباب وفي اختصاصات متعددة. يتساءل محمد عن مصير تجربته المهنية، فرغم مرور أكثر من سنتين من نجاحه في المناظرة المهنية، لم تتطور تجربته كثيرًا.

سيف الدين لـ"الترا تونس": أنا سعيد لأنني بدأت شيئًا فشيئًا أقتحم مجالًا لطالما تحدث عنه أصدقائي بإطناب

يعاني سيف الدين، مهندس في الإعلامية (26 سنة)، هو الآخر من البطالة منذ أشهر، لكنه أنشأ قبل أيام حسابًا في موقع يهتم بالأشخاص الذي يختصون في العمل الحر. أدخل سيف الدين كل بياناته، ونسخ شهائده، وأضاف بعضًا من أعماله على حسابه، وبعد يومين وجد حريفًا من دولة الكويت. حريف يريد أن ينشئ موقعًا لشركته المختصة في نقل البضائع (الترانزيت)، تواصلا بسرعة واتفقا على جميع التفاصيل حول سعر العمل ووقت إنجازه، وانطلق تنفيذ المهمّة.

اقرأ/ي أيضًا: عقود العمل الوهمية.. تجارة الرق الحديثة

يتحدث سيف الدين لـ"الترا تونس" قائلًا: "أنا سعيد لأنني بدأت شيئًا فشيئًا أقتحم مجالًا لطالما تحدث عنه أصدقائي بإطناب. كنت أعمل بشركة خاصة وأعمل لأكثر من 8 ساعات يوميًا براتب لا يتجاوز 800 دينار (285 دولار)، وهو ما أفقدني الطاقة وحماس العمل والقدرة على المواصلة حتى أن طموحاتي وأمالي بتحقيق مستقبل أفضل بدأت تتداعى".

لفظ "فريلانس" (Freelance) هو لفظ من اللغة الأنقليزية، ويستعمله كذلك الفرنسيون الذين لم يجدوا له مرادفًا في لغتهم. استعمل اللفظ لأول مرة الكاتب الأسكتلندي والتر سكوت (1771-1823)، الذي أطلق لقب "الفريلانسر" (Freelancer) أو المشتغلون في العمل الحر على الجنود أو المرتزقة الذي يهبون قوتهم الجسمية والحربية لأمراء الحرب مقابل المال.

فؤاد الغربالي (باحث في علم الاجتماع): بدأ العالم اليوم يتجه نحو ما يمكن تسميته بالعمل المرن عبر عقود قصيرة الأمد تصل في بعض الأحيان لأيام وأصبح يرتبط الراتب بالنتيجة وليس بالوقت

يقول الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي إن تطور ظاهرة "الفريلانس" في العالم يأتي نتيجة لتغير عالم العمل الذي يرتكز على معايير مثل العقود والوقت والراتب الشهري. يضيف الباحث لـ"الترا تونس" قائلًا: "بدأ العالم اليوم يتجه نحو ما يمكن تسميته بالعمل المرن عبر عقود قصيرة الأمد تصل في بعض الأحيان لأيام، واتفاقات مسبقة على العمل والأهداف وارتباط الراتب بالنتيجة وليس بالوقت".

مريم ناصري (صحفية تونسية) تعمل بشكل حر، لم تختر مريم في بادئ الأمر هذا النوع من العمل بل تقول إنها اُجبرت عليه إجبارًا بسبب شح سوق الشغل وضعف الرواتب. لكن بعد تجربة لسنوات في العمل الحر، تحدثنا مريم قائلة: "لم أختر العمل كـ"فريلانس" في بادئ الأمر، لكنني اليوم لست مستعدة للتخلي عنه في مقابل أي نوع من العمل الآخر. لقد وفرت الكثير من الوقت، والنجاعة والمردودية فيما يتعلق بالتجربة والمال. واكتسبت كذلك خبرة متنوعة فأنت اليوم تعمل مع جريدة أجنبية وغدًا مع قناة تلفزية وربما بعد غد تقوم بمراسلة لراديو في أي دولة في العالم". لقد ساعد العمل كـ"فريلانسر" مريم على الشعور بحرية أكثر من خلال اختيار شركاء العمل، وتؤكد أن العمل بشكل حر جعلها بمنأى على المؤسسات التي تعتمد خطًا تحريريًا موجهًا.

مريم ناصري: لست مستعدة للتخلي عن العمل الحرّ في مقابل أي نوع من العمل الآخر فلقد وفرت الكثير من الوقت، والنجاعة والمردودية فيما يتعلق بالتجربة والمال

لكن رغم تطور ميكنزمات العمل في العالم إلا أنه في تونس لا تزال تغزو البيروقراطية أغلب المؤسسات، حتى أن أغلب الشركات تختار معيار الوقت أي التواجد الفعلي للموظف في المؤسسة كشرط أساسي لتسليم الراتب. بيد أنه من جانب آخر، بدأت شركات أخرى تعتمد "استراتيجية الأهداف" (بالفرنسية Gestion par objectif)، إذ يقع الاتفاق على نتائج معينة مع الموظفين ثم يتم تحديد مدة معينة لتحقيق هذه النتائج ليقع لاحقًا اعتماد درجة تحقيق النتائج لتحديد قيمة الراتب.

ولا يعني تطور ظاهرة "الفريلانس" عالميًا أنها تشهد ذات التطوّر في تونس. يعتبر الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي أن العمل الحر في تونس لازال هشًا لدرجة أنه لا يمكن التعويل عليه لبناء مستقبل. لكن مريم ناصري ترى أن هشاشة العمل الحر هي بنفس درجة هشاشة العمل المنظم في قطاع الصحافة وتحدثنا قائلة: "حينما تعمل في العمل الحر، فأنت توفر الكثير من الوقت وتقوم بتجارب مهنية منوعة، ثم أنه يظلّ هكذا عمل هش أفضل من قضاء 8 ساعات يوميًا في مكتب في عمل بنفس الهشاشة".

اقرأ/ي أيضًا: الهجرة الداخلية في تونس.. قصص البحث عن فرص شبه منعدمة!

وقد اقتحم العمل الحر ميادين كثيرة. فتحي بن عمر، هو مصور تلفزي انقطع عن العمل في قناة تلفزية وتوجه للعمل كـ"فريلانسر"، ويحدثنا فتحي عن تجربة فاقت 3 سنوات تقريبًا من العمل بطريقة فيها الكثير من الارتياح قائلًا: "لقد تمكنت من ربط العديد من العلاقات إضافة إلى أن أوضاعي المادية تحسنت بشكل كبير عدا عن ذلك التجربة المهنية الثرية التي أعيشها الآن".

العمل الحر في تونس هو قطاع غير منظم، ولم تسع الدولة إلى تنظيمه رغم قدرته على خلق مواطن شغل كثيرة، هذا إضافة إلى المشاكل التي تعترض العاملين في هذا النوع من العمل. فمثلًا يسعى سيف الدين إلى الحصول على قرض من بنك خاص لشراء سيارة لكن مطلبه قوبل بالرفض بحجة أنه لا يمتلك شهادة ترسيم في العمل، كما أن العاملين في قطاع العمل الحر لا يتحصلون في بعض الأحيان على مستحقاتهم بسبب غياب إطار قانوني يحميهم من الابتزاز.

العمل الحر في تونس هو قطاع غير منظم ولم تسع الدولة إلى تنظيمه رغم قدرته على خلق مواطن شغل كثيرة

يعتمد "الفريلانس" على النظرية النيوليبرالية الجديدة، وهي عدم استقرار المكان (الحركة والحراك)، والمرونة في الوقت والراتب والعمل. وساهم في خلق مهن جديدة في عدة ميادين مثل الإعلامية، والإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي المهن التي أصبحت تحظى باهتمام الكثيرين. فحسب الكاتب إكزافي دو ميزنود، فإن أكثر من 50 في المائة من السكان النشيطين في الولايات المتحدة سيقتحمون عالم "الفريلانس" قبل 2027، كما تقدر عائدات هذا العمل في الولايات المتحدة بـ1.4 مليار دينار.

لكن رغم التطور السريع للعمل الحرّ أو "الفريلانس" في العالم، لازال يعاني في تونس من اللامبالاة الكلية من السلطات رغم إسهاماته الكبيرة في إنقاذ العديد من براثن البطالة. ولعل أهم مشاكل هذا الصنف من العمل أنه يفتقر إلى قانون ينظمه. لكن في الأثناء، وبينما تتطور مفاهيم العمل وتسعى النظريات الاقتصادية إلى القفز بانتاجية ومردودية الإنسان، لا يزال صديقنا محمد يعاني من الرتابة اليومية في مكتبه بإحدى إدارات وزارة الشؤون الاجتماعية وينطفئ حماسه للعمل يومًا بعد يوم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الفوسكة".. تنخر الجسد التعليمي وصفّارات الإنذار لم تدوّ بعد

"أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة