23-مايو-2020

من المنتظر أن يفتح المتحف أبوابه نهاية سنة 2020 (رمزي العياري/ ألترا تونس)

 

لم تكن المطالب الشعبية في تونس مقتصرة على تحسين مستويات العيش والدفع نحو المزيد من الحقوق والحريّات، بل شملت مطالب ثقافية عدّها التونسيون أولوية ونزلوها منزلة عليا كالمطالبة بتجويد التظاهرات الثقافية والفنية، وتحسين منتوجات المطابع، ودعم الفنون المسرحية بالجهات، وبعث المؤسسات التي تهتم بصيانة الذاكرة الوطنية وإعادة الاعتبار لملاحم الشعب في مواجهته للاستعمار. ولنا أن نذكر في هذا السياق زيارة رئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي لمدينة مكثر يوم 1 مارس/ آذار 2012، والتي فاجأته فيها الجماهير بصوت واحد "نحن في مكثر مطلبنا وحيد وهو بعث متحف جهوي يحفظ تاريخ أرضنا ويرويه للأجيال".

شرعت وزارة الشؤون الثقافية في تكوين فرق عمل من المختصين استعدادًا لافتتاح المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر نهاية سنة 2020

ومن هذه المطالب الجماهيرية أيضًا نجد مطلب إنشاء "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر" الذي لم يكن مطلب العائلة التشكيلية التونسية فحسب، بل هو حلم قديم أصرّت عليه النخب التونسية بمختلف حساسياتها والجمعيات الثقافية ومدارس التعليم العالي للفنون الجميلة.

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

وما انفك هذا المطلب الوطني يغيب ليعود بقوة خاصة كلما تم التطرّق لوضعية الرصيد الوطني من الأعمال الفنية المحفوظة في "القصر السعيد، قصر الآداب والفنون" بضاحية باردو بالعاصمة، والذي يضمّ أكثر من 12 ألف عمل فني منها عدد قليل موروث عن فترة الحكم الحسيني إبان الاستعمار الفرنسي والبقية اقتنتها الدولة التونسية على مدى سبعين عامًا، لتكون تونس بذلك أول دولة عربية تمتلك هكذا رصيد فني كبير، لا يقدّر بثمن.

وعندما بدأت أشغال مدينة الثقافة في فترة حكم بن علي، أثيرت فكرة إنشاء المتحف. وكان هناك سؤال محير مفاده "هل سيكون هذا الحلم من ضمن محتويات المدينة؟". لكن الإجابة ظلت دائمًا غائمة وتنتظر اللحظة السياسية المواتية للإعلان عنها كما هو معمول به في تلك الفترة.

وأذكر جيدًا أن الفريق الهندسي للمدينة، وضمن لقاء إعلامي خاص بتقديم المدينة، وهي على مشارف نهاية الأشغال سنة 2008، انعقد بقصر المعرض بالكرم، بمناسبة فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب، من أجل تقديم المدينة ومحتوياتها، لم يشر إلى هذه المسألة، رغم التطرق خلال اللقاء إلى موضوع المتحف، واكتفى بالحديث عن قاعة الأوبرا وقاعات السينما وباقي الفضاءات.

مدخل المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر (رمزي العياري/ ألترات تونس)

لكن، بعد الثورة، عاد موضوع المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر ليطفو على السطح من جديد، وأصبح أولوية لدى وزارة الشؤون الثقافية التي حوّلته الى مشروع وطني كبير قابل للتنفيذ، فكان الأمر الحكومي عدد 381 لسنة 2018، المؤرخ في 23 أفريل/ نيسان 2018، والمتعلق بإحداث المتحف، والذي يحتوي على 30 فصلًا يجعل من هذه المؤسسة المحدثة ذات استقلالية مالية تخضع لإشراف وزارة الشؤون الثقافية، وذات مهمة واضحة وهي تأمين العرض الدائم للمجموعات المتحفية الخاصة به لفائدة العموم، واستعمال تقنيات وفنون العرض المتحفي المعتمدة والمتجددة، وحفظ المجموعات المتحفية وحمايتها وتثمينها وإثرائها وصونها واتخاذ التدابير اللازمة للعرض، بما في ذلك مختلف العمليات العلمية والفنية، هذا فضلًا عن استنساخ الأعمال وإقامة علاقات تعاون وشراكة قصد تعزيز قدرة المتحف على أداء وظائفه واندماجه في محيطه الثقافي والاجتماعي وتحقيق إشعاعه وطنيًا ودوليًا.

وقد حددت وزارة الشؤون الثقافية المكان النهائي للمتحف، وهو مدينة الثقافة، وخصصت له جناحًا خاصًا يليق به بعد طول انتظار، وشرعت منذ أكثر من سنة في تكوين فرق عمل من المختصين استعدادًا للافتتاح الذي من المتوقع أن يكون نهاية سنة 2020، خاصة وأن أزمة فيروس كورونا المستجد قد عطّلت الأشغال المتعلقة بالافتتاح.

ومع استئناف جزئي للحياة اليومية ضمن تراتيب الحجر الصحي الموجه، تنقل "ألترا تونس" إلى مقر المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر للوقوف على الاستعدادات الخاصة بالافتتاح:

رابعة الجديدي (مديرة المتحف): المتحف هو واجهة ثقافية تروي جانبًا من الذاكرة الفنية التونسية

في الفضاء الخاص بالمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر بمدينة الثقافة، التقى "ألترا تونس" المديرة العامة للمتحف رابعة الجديدي التي أكدت في بداية حديثها أن "مشروع المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر هو مكسب ثقافي وحضاري تحقق لتونس بعد طول انتظار، وهو سيكون بمثابة الواجهة الثقافية والفكرية التي ستروي للأجيال جانبًا هامًا من الذاكرة الفنيّة والتشكيلية والتاريخ الثقافي الذي حفظته الدولة التونسية على مرّ العقود".

وأوضحت أن المتحف سيشتغل بالأساس على الرصيد الوطني من المقتنيات التشكيلية والفنية الذي تشرف على صيانته وزارة الشؤون الثقافية وهو مخزّن بالقصر السعيد بباردو منذ بدايات الاستقلال ويناهز 12 ألف عمل بين لوحات ومنحوتات ومنسوجات.

وبيّنت أن المتحف قام بعقد شراكة مع الإدارة التي تشرف على الرصيد الوطني صلب الوزارة، وبمقتضاها تم في مرحلة أولى الولوج إلى المجموعة وفهم محتواها وإعادة الترتيب والتبويب، ثم وفي مرحلة ثانية تم نقل حوالي  5 آلاف عمل فنّي ضمن 15 رحلة نقل إلى مقرات التخزين الجديدة بشكل وقتي بالمكتبة الوطنية التونسية وبمخازن المتحف بمدينة الثقافة والتي ضمت لوحدها 3200 عمل، مشددة على أن كل هذه الأنشطة تمت بحضور لجنة تشمل وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية ووزارة الدفاع الوطني التي أمنت ونقلت الأعمال إلى المقارّ الجديدة.

رابعة الجديدي: مخازن المتحف تضم حاليًا 3200 عمل سيخضع أغلبها للترميم والصيانة والافتتاح سيكون بـ300 عمل موفى سنة 2020

وأفادت مديرة المتحف أن الأعمال المنقولة على أيدي خبراء المتحف منها ما هو في وضعية سليمة، مشيرة إلى وجود العديد من الأعمال التي تستوجب الترميم وتدخل المختصين. وأوضحت، في هذا السياق، أن المتحف له فريق عمل يضم مرممين ومختصين في صيانة اللوحات الفنية تلقوا تكوينًا علميًا بتونس وفرنسا، مضيفة أنه أوكلت لهم مهمة متابعة كل هذه المسائل الفنية المختصة.

ولفتت إلى أن المتحف يتواصل أيضًا مع أحد شركائه الهامين وهو المعهد الوطني للتراث الذي يملك خبراء في المتحفيات وأساتذة مختصين في الصيانة والترميم مشهود لهم بكفاءتهم ما انفك يعاضد جهود المتحف كلّما طلب منه ذلك. 

واعتبرت الجديدي أن مشروع المتحف الذي خصصت له إدارة عامة ذات استقلالية مالية تشرف عليه رأسًا وزارة الشؤون الثقافية لن يكون متحفًا نمطيًا كلاسيكيًا، بل سيكون متحفًا بمواصفات عصرية حديثة على غرار المتاحف في العالم.

وأوضحت أن هذه المؤسسة الوطنية ستضم، إلى جانب أروقة العرض الحديثة وقاعات الترميم والصيانة المتحفية والتخزين، مركزًا علميًا للبحث والتوثيق سيكون على ذمة التشكيليين والباحثين والإعلاميين المختصين. كما سيكون هناك حيّز بيداغوجي مخصص للأطفال واليافعين مهمته ربط الصلة بين الأجيال الجديدة وذاكرتهم الثقافية والفنية، وذلك عبر مجموعة من الأنشطة البيداغوجية التي سيشرف عليها مختصون، وربّما ستنجز بالشراكة مع وزارة التربية ووزارة المرأة والطفولة والأسرة وكبار السن، وفق محدثتنا.

مراسل "ألترا تونس" مع مديرة المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر

وبيّنت رابعة الجديدي أن المتحف قام منذ تأسيسه بأنشطة محدودة يمكن إدراجها ضمن سياقات الترويج والتعريف إلى جانب أنشطة مناسباتية مثل معرض "للعطر منظور" في مارس/ آذار 2019، والذي أقيم بمناسبة احتضان تونس لفاعليات القمة العربية، أو معرض تكريم الرسام الراحل علي عيسى الذي احتضنه رواق "المقام" الموجود بالبهو الخارجي لمدينة الثقافة.

أمّا بخصوص الافتتاح الرسمي، أكدت محدثتنا أن الاستعدادات حثيثة وسريعة، مبينة أن الأشغال التعديلية والجمالية للمتحف المتعلقة بهندسة الفضاء بمختلف مكوناته شابها بعض التعطيل جرّاء أزمة الكورونا، لكنها ستعود للعمل قريبًا.

اقرأ/ي أيضًا: مليّنو المعادن.. مبدعون حوّلوا الخردة إلى فن

وأوضحت أنه "من المتوقع أن يكون الافتتاح موفى سنة 2020 بمعرض ضخم سيضمّ حوالي 300 لوحة تشكيلية ستعود بالرائي إلى بدايات الرسم في تونس، حيث سنشاهد اللمسات السحرية للآباء المؤسسين للرسم وقدرتهم على الإبداع، كما سنقف من خلال هذا المعرض على جوانب من الحياة اليومية للتونسيين في القرون الماضية".

كما تولت رابعة الجديدي مرافقتنا في جولة داخل أجنحة المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، موضحة تصور إدارة المتحف ومجلسه العلمي للشكل الجمالي الجديد وملامح الأساسية للافتتاح.

يضم المتحف فريق عمل من مرممين ومختصين في صيانة اللوحات الفنية (رمزي العياري/ ألترا تونس)

سليم الدريسي (مختص في ترميم القطع الأثرية): عمل علمي من أجل تثمين الذاكرة الرائعة  

وعند دخولنا لقاعة الصيانة والترميم، التقى "ألترا تونس" مرمم القطع الأثرية والمتحفية سليم الدريسي، الذي كان منهمكًا في ترميم منحوتة للفنان والنحات التونسي الكبير علي السلمي، والدريسي هو شاب تونسي درس بفرنسا ترميم القطع الأثرية والمتحفية، ويتولى حاليًا الإشراف على المجموعة المتحفية بالمتحف.

وتحدث الدريسي لـ"ألترا تونس" عن الجهد الذي قام به المتحف خلال عمليات نقل الأعمال من القصر السعيد إلى المخازن الوقتية بالمكتبة الوطنية وبمخازن المتحف، وفتح أمامنا غرف التخزين، مبينًا أنها تنقسم الى قسمين، قسم أول ما قبل الترميم ويجمع الأعمال حسب الحقب الزمنية وأسماء الفنانين والأحجام مع بطاقات الجرد القديمة والجديدة التي أسندها المتحف، وقسم ثان وهو مخصص للخزن النهائي بعد الترميم والصيانة والتنظيف والذي منه تنطلق الأعمال للعرض.

سليم الدريسي لـ"ألترا تونس": المجموعة المتحفية الوطنية المخزنة بالقصر السعيد قاومت الزمن بفضل هندسة القصر ومتانة جدرانه

وأوضح محدثنا أن ما يميز هذا الخزن العصري هو التحكّم في درجات الحرارة والرطوبة مما يساعد على إطالة عمر الأعمال ومنع البكتيريا وحشرات السوس من نخرها، مبرزًا أن درجة الحرارة الحالية بمخازن المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر هي 25 درجة أما درجة الرطوبة فهي لا تتجاوز 50 في المائة.

وأشار إلى أن فريق خبراء المتحف قسمّ أدواره بطريقة علمية، موضحًا أنه يتم الاشتغال لساعات مطولة على المجموعة الفنية التي اتفقت بخصوصها اللجنة الفنية العلمية لتكون في الافتتاح الرسمي، ويساعدهم في ذلك مؤرخ المتحف الأستاذ الجامعي محمد علي بن رحومة المختص في تاريخ الفن.

سليم الدريسي بصدد ترميم منحوتة (رمزي العياري/ ألترا تونس)

وبخصوص وضعية المجموعة المتحفية الوطنية المخزنة بالقصر السعيد، أكد سليم الدريسي أنها قاومت الزمن بفضل هندسة القصر ومتانة جدرانه، لافتًا إلى أنه قد تفاجأ بالوضعية الجيدة لبعض الأعمال عكس ما كان يروج حول الوضعية السيئة للمجموعة التي يعتبرها كنز تونس الحقيقي لما تحويه من تاريخ اجتماعي وسياسي وثقافي.

وأضاف أن صيانة الأعمال وترميمها هي جهد يومي ويتطلب المزيد من الإمكانيات، خاصة وأن وسائل الترميم والصيانة باهظة الثمن وغير منتجة في تونس، مشيرًا إلى أنه حان الوقت لكي تنتهج تونس درب تكوين خبراء في الصيانة وترميم الأعمال الفنية. وختم بالقول إن دور المتحف سيكون تثمين ذلك الموروث الرائع، وفق تعبيره.

قاعة التخزين الأساسية بالمتحف (رمزي العياري/ ألترا تونس)

ريم اليونسي (مختصة في ترميم الخشب): الرصيد الوطني يتطلب سنوات من العمل

أما الأستاذة ريم اليونسي، المختصة في ترميم الخشب ضمن فريق المعهد الوطني للتراث، الذي يشتغل حاليًا بالمتحف ويساعد على الترميم والصيانة ضمن عدة اختصاصات، والتي وجدناها منهمكة في معالجة عمل فني للرسام الكبير عبد العزيز القرجي، فقد أكّدت لـ"ألترا تونس" أن الأعمال التي جلبت من القصر السعيد كانت محفوظة فقط، ولم تخضع لصيانة دورية مما أثر على وضعيتها الجمالية وخاصة أطر اللوحات، وهو ما جعلهم يتدخلون لمعاضدة جهود المتحف.  واعتبرت أن الرصيد الوطني يتطلب سنوات من العمل حتى تعود إليه نظارته.

تعمل ريم اليونسي على معالجة عمل فني للرسام الكبير عبد العزيز القرجي (رمزي العياري/ ألترا تونس)

يعدّ المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، الذي سيفتتح أبوابه وأروقته أمام عموم الناس موفى السنة الجارية، فعلًا مكسبًا وطنيًا ومؤسسة نفاخر بها، لكن لا بد أن نتذكّر دومًا أنه كان مطلبًا شعبيًا ما كان ليكون لولا تلك النضالات على مرّ العقود من قبل العائلة التشكيلية والانتلجنسيا التونسية عمومًا.                

 

اقرأ/ي أيضًا:

أيّ هويّة لتظاهرة أيام قرطاج للفنّ المعاصر؟

معرض المصّور زكرياء الشائبي.. في غفلة من الحياة تستبدّ الحركة بالفوتوغرافيا