03-ديسمبر-2019

المتاجرة بآمال الناس وأحلامهم لا يقلّ خطورة عن المتاجرة بالأفيون (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

مقال رأي

 

تتّخذ مقاومة الفساد أساليب متعدّدة وتهدف إلى مقاصد متباينة، أمّا الأساليب فيمكن حصرها في أربعة وهي الطريقة الوعظيّة، والمنزع النقديّ، والمنحى التشريعيّ والمسلك الدعائيّ، وأمّا المقاصد فهي نبيلة حميدة متى كانت إصلاحيّة أو تعبّديّة أو وطنيّة أوإنسانيّة، وهي مبتذلة وضيعة متى أصابتها لوثة النعرات الذاتيّة والعصبيّة والعنصريّة والانتقاميّة والانتقائيّة والتحريضيّة.

تلك النعرات لا تكون في الغالب الأعمّ صريحة معلنة، إذ تتخفّى وراء معاجم الطهارة والعفّة وصور الصدق والعفويّة وقيم الشفافيّة والوضوح، وتعتمد في الغالب الأعمّ حيلًا كفيلة بإغواء العامّة وشدّهم والتأثير فيهم، فيغدو هؤلاء المداهنون والمتحيّلون أشبه ما يكونون بالتجار، سلعتهم الإيهام بمقاومة الفساد، وزبائنهم المواطنون الطامعون في العدل والحوكمة الرشيدة وحماية الممتلكات الخاصّة والعامّة من النهب والاختلاس والتزوير.

اقرأ/ي أيضًا: نصيبي من الفساد...

زيف الشعارات أخطر من الأفيون والمخدّرات

المتاجرة بآمال الناس وأحلامهم لا يقلّ خطورة عن المتاجرة بالأفيون والمخدّرات، هذا يجني الأموال آنيًا مباشرة، وذاك يكسب الاحترام والسلطة والهيبة التي يمكن تحويلها لاحقًا إلى مكاسب ماديّة، فملفات الفساد قد تخضع إلى قوانين البيع والشراء والمزاد العلني. ألم يعلن أكثر من عضو في مجلس النواب السابق (2014- 2019) عن ملفّات فساد تمّت تسويتها " تحت الطاولة" خارج الأطر القانونيّة اجتهادًا أو خوفًا أو طمعًا؟

المتاجرة بآمال الناس وأحلامهم لا يقلّ خطورة عن المتاجرة بالأفيون والمخدّرات، هذا يجني الأموال آنيًا مباشرة، وذاك يكسب الاحترام والسلطة والهيبة التي يمكن تحويلها لاحقًا إلى مكاسب ماديّة

يختار التاجر السلع التي تلقى رواجًا، ولأنّ السرقة واللصوصيّة قد بلغت ذروتها في بلادنا قبل الثورة وبعدها فقد أصبحت دكاكين المتصدّين للفساد موضوع إقبال المواطنين والإعلاميين، فمَثَل تلك الدكاكين كمثل الأبواب والنوافذ الحديديّة وأجهزة المراقبة التي أقبل عليها السكّان بحثًا عن الأمان حين انتشرت جرائم السطو والسرقة.

اقترنت أسماء العديد من السياسيين بمسألة مقاومة الفساد منهم يوسف الشاهد رئيس الحكومة، وعماد الدايمي النائب السابق عن حزب الحراك، وسامية عبّو النائب عن التيّار الديمقراطيّ وماهر زيد النائب عن ائتلاف الكرامة.

هذه الأسماء فضلًا عن شخصيّات مستقلّة وقيادات أخرى من أحزاب متعدّدة كشفت بأنّ مقاومة الفساد قد باتت أعدل الخطابات توزيعًا بين السلطة والمعارضة والمستقلّين وحتّى المشبوهين والمتّهمين. وعلى هذا النحو، حضر الجميع مهرجان الطهارة والصلاح، وشاركوا معًا ترتيل أنشودة مقاومة الفساد.

 وقد انخرط، على سبيل المثال، نبيل القروي رئيس حزب "قلب تونس" مباشرة بعد مغادرته السجن في هذه الموجة من خلال بعض تصريحاته وتعليقاته، فبدا المشهد آنذاك متناقضًا في عيون جلّ المتابعين لا سيّما مناوئي هذه الشخصيّة المثيرة للجدل، بل إنّ الحفر في ذاكرة الثورة واجد أنّ بن علي نفسه المتورّط في ألوان من الجرائم قد أعلن ساعات قبل فراره حربه على الفاسدين، وتوعّدهم بالمحاسبة، وأعدّ لهم جهازًا استقصائيًا لمطاردتهم.

في تمييز الطيّب من الخبيث

تواصل إقبال النخبة التونسيّة من سياسيين ومفكّرين وإعلاميين وفنّانين ومبدعين على تسجيل أسمائهم في سجلّ المتعففين المتطلّعين إلى مقاومة الفساد، وبدأت المزايدات بينهم، فتشكّل هذا التنافس جدالًا وسجالًا وسِبابًا في البرلمان وتأصيلًا وتحليلًا وتفكيكًا في المنتديات الفكريّة، وتجسّد خاصّة من خلال عناوين موغلة في الإثارة والمبالغة من قبيل وصل كلمة الفساد بمعجم حماسي مثل سلاح وحرب ومقاومة، آخرها دعوة عبد القادر بن الحاج نصر الكاتب والروائي في حوار صحفيّ إلى إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الفساد في تونس.

  يحقّ لنا أن نضبط جملة من الأمارات التي تعدّ من المؤشّرات الدالّة على دخول هذه الشخصيّة أو تلك الجهة سوق المتاجرة بشعار مقاومة الفساد

تكذيب هذه الأطراف دفعة واحدة يعدّ موقفًا متسرّعًا متهافتًا متعسّفًا لكن الإقرار بصدقها كلّها يعتبر حكمًا ساذجًا سخيفًا. لا يمكن في هذه الوضعيّة التقييميّة أن نفتح صدور هؤلاء لنميّز الطيّب من الخبيث والنزيه من المخادع، لكن يحقّ لنا أن نضبط جملة من الأمارات التي تعدّ من المؤشّرات الدالّة على دخول هذه الشخصيّة أو تلك الجهة سوق المتاجرة بشعار مقاومة الفساد، وهو ما جعل المصطلح يفقد دقّته الدلاليّة وصرامته الإجرائيّة وآفاقه الإصلاحيّة ليصاب بكلّ أشكال التمييع والتلبيس والتبخير وسوء التوظيف، ومساهمةً في رفع هذا الحرج جاز القول إنّ أمارات المتاجر بشعار مقاومة الفساد عديدة يمكن ذكر أربع منها.

مقاومة الفساد في مهبّ الدعائيّة والازدوجيّة والطهوريّة

العلامة الأولى تتمثّل في الإعراض عن اللجوء إلى القضاء أو التردّد في ذلك والاكتفاء بحملات التشهير على المنابر التلفزيّة أو في الحصص الإذاعيّة أو من وراء برج من أبراج فيسبوك العاجيّة. يفقد الشعار بهذا الأسلوب قيمته العمليّة، فيغدو مجرّد تداعيات وجدان وشجن حديث لا يستفيد منه غير صاحبه، فمن مكاسبه تحقيق المزيد من الشهرة والانتشار ونيل الحظوة في المساحات الإعلاميّة وبلوغ المنزلة الاعتباريّة، وقد تمّ مجابهة هذه الفئة من المتاجرين بلونين من الإحراج، لون ناعم يتمثّل في مطالبتهم بتبليغ السلطات المعنيّة في إطار مبادرة تلقائيّة، ولون حادّ تنفيذيّ يتجسّد من خلال دعوتهم الرسميّة الفوريّة للمساءلة والتحقيق، ممّا قد يحوّلهم، إن لم يتسلّحوا بملفات متينة، إلى متهمين بالثلب والتشهير، هذا إن لم يسارعوا بإعلان وقوعهم في دائرة الخبل والهلوسة والجنون، فليس على المجنون حرج.

يبلغ المشهد منتهى الغرابة حينما تجد الواحد من هؤلاء متصديًا للفاسدين في هذا المنبر المسائيّ لكنّك سرعان ما تجده صباحًا قد ارتدى روب المحاماة مدافعًا عن نفس الفئة التي كان قد خاصمها ليلًا

اقرأ/ي أيضًا: عندما يصبح "الكناطري" في تونس رجل أعمال!

العلامة الثانية التي تؤكّد هذا المنحى التجاريّ الاتّصاف بالازدواجيّة في السلوك السياسيّ، فترى الحزب معلنًا إعلان المؤذّن عن عدائه الحادّ القطعيّ للفاسدين، لكنّه سرعان ما يتحالف معهم سرًا، وحينما يفتضح الأمر ويخرج إلى العلن يغدو هذا المتاجر في أعين خصومه آية التقلّب والنفاق، ويصبح في نفوس الشرفاء من أنصاره موضوع شكّ وارتياب، فيطالبون بمراجعة المواقف وتعديلها تعديلًا داخليًا حرًا وذاتيًا، لكنّه يظلّ في ظنّ المتعصّبين حكيمًا رشيدًا يتقن فنّ المناورة وخطط الكرّ والفرّ.

العلامة الثالثة تنطبق على فئة وجدت سرديّة مقاومة الفساد أكثر تناسبًا مع كرسيّ المعارضة، فقد أتاح لها هذا المنهج دعاية مجانيّة ذهبيّة رفعتها إلى مراتب سنيّة عليّة، ونالت بها وسام البطولة والاستحقاق في هذا الاختصاص حتّى كادت تطالب بتسجيلها ضمن الملكيّات الفكريّة من باب الاحتكار السياسيّ والاعتباريّ. يفتضح أمر هذه الفئة حينما تُدعى إلى الحكم، فتأبي، فكأنّها ترفض تحويل تلك الشعارات إلى أفعال ووقائع، حجّتها إمّا كلّ شيء أو لا شيء، ومعلوم أنّ أكثر الناس مساهمة في تأبيد الفساد هذه الفئات التي تدّعي منتهى الثوريّة والطهوريّة وتضع نفسها موضع "الفرق الناجية".

العلامة الرابعة شبيهة بالأولى، وهي أشنع وأخطر، فقد كشف النبش في "الذاكرة العكرة" والتقصّي في السير الذاتيّة أنّ أحزابًا شعارها مقاومة الفساد قد تحوّلت إلى مرتع للفاسدين في صفوف الأعضاء والقياديين، ويبلغ المشهد منتهى الغرابة حينما تجد الواحد من هؤلاء متصديًا للفاسدين في هذا المنبر المسائيّ حتّى كاد يلبس زيّ النيابة العموميّة، لكنّك سرعان ما تجده صباحًا قد ارتدى روب المحاماة مدافعًا عن نفس الفئة التي كان قد خاصمها ليلًا.

مقاومة الفساد والمرأة والدين وآلام المقهورين

لا شكّ أنّ مقاومة الفساد مسلك لا غنى عنه تحثّ عليه الشرائع والقوانين والأخلاق، سواء تجسّد بالنصح أو بالنهي عن المنكر أو بالتبليغ أو غيرها من السبل المتحضّرة، كما أنّ السكوت عن الفساد يعدّ آية جبن وتشجيع وتواطؤ وافتقار إلى قيم الصلاح والمواطنة، غير أنّ المتاجِرَ بالقيم النبيلة يعدّ أخطر من الساكت عن الفساد، بل يعتبر أخطر من الفاسد نفسه، ذلك أنّ الفاسد يسرق أموالنا وأمتعتنا وأراضينا وممتلكاتنا، أمّا المتاجر بشعار مقاومة الفساد، فهو يسرق منّا عقولنا ونفوسنا وأحلامنا وطهارتنا وعفّتنا، ومن يقدر على ذلك غير هؤلاء الذين نثق فيهم، فنفتح لهم بيوتنا ونسلّمهم مفاتيح أسرارنا.

 يجب دفع الصحفيين إلى التحلّي بمنتهى الحكمة والمهنيّة حتّى لا تتحوّل المنابر الإعلاميّة إلى مساحات يرتع فيها أصحاب البطولات الوهميّة والماسكين بشهائد زائفة خالية من الرصيد المعرفيّ أو الأخلاقيّ

لا تختلف المتاجرة بشعار مقاومة الفساد عن ألوان أخرى من المتاجرة بالقيم النبيلة مثل المتاجرة بالدين وبآلام المقهورين وبهموم النساء والأطفال والمفقّرين، ويبلغ هذا الضرب من التحيّل ذروته حينما يفتح مسلكًا جديدا أكثر عمقًا وتجريدًا يتمثّل في المتاجرة بالرموز الوطنيّة والنقابيّة والفكريّة والإبداعيّة، ويتشكّل ذلك خاصّة من خلال التكالب على وراثتها واحتكار التحدّث باسمهما وتوظيفها في خصومات شخصيّة ومادّيّة وسياسيّة.

الفساد في تونس شديد الانتشار والتشعّب زادته المتاجرة به تعقيدًا حتّى أصبحت محاربة المتاجرة بشعار مقاومة الفساد أوكد من التصدّي للفساد نفسه، فكشف الحقيقة ونشرها أسبق منطقيًا من العمل على تجسيد الخير والصلاح، بيد أنّ هذا المقصد يقتضي جملة من الشروط الأساسيّة أوّلها مواصلة دعم الفكر النقدي، فهو القادر على فضح التناقضات وهتك سرّ المزايدين وكشف ألاعيب الكاذبين والحواة. ثانيها دعوة النيابة العموميّة إلى التحرّك عند كلّ إشعار بوجود فساد، وفتح تحقيقات تفضي إلى التمييز بين الحقائق والمغالطات، فيفتضح أمر هذه الفئة من تجّار الصلاح.

وثالثًا، يجب دفع الصحفيين إلى التحلّي بمنتهى الحكمة والمهنيّة حتّى لا تتحوّل المنابر الإعلاميّة إلى مساحات يرتع فيها أصحاب البطولات الوهميّة والماسكين بشهائد زائفة خالية من الرصيد المعرفيّ أو الأخلاقيّ و الوطنيّ، فلا تذهب إلى ما يبلغ سَمعكَ أو ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل والبحث والتحقيق، فثمّة الخبر الأقرب إلى اليقين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا تمتلك القصرين خالًا مثل حسيب بن عمار؟

عن الاستثمار في مآسي الفقراء..