02-ديسمبر-2018

اقتحم المهربون عالم الأعمال لتبييض أموالهم (Getty)

يعرف التونسيون جيدًا لفظ "كناطري"، وهو يعني بالدارجة التونسية "مهرب"، وهو مشتق من اللفظ الفرنسي "La contrebande" أي "التهريب". وترتسم صورة المهرب أو "الكناطري" لدى الكثيرين على أنه رجل بمستوى تعليمي متدني، ولا يمتلك إلا السيارات رباعية الدفع أو سيارات "الديماكس" ويستمع لأغاني يعتبرها البعض هابطة مثل "السطايفي" وهو غناء جزائري شهير.

ترتبط أيضًا الصورة النمطية لـ"الكناطري" أنه مرتشي وفاسد لا يجيد التواصل مع النخبة، ولكنه قادر على مجاراة المواقف الخطيرة والتعامل مع أعوان حرس الحدود والحرس الديواني. يعتقد جزء كبير من التونسيين، أن المهرب في تونس تكون ملابسه بالية ويغطي رأسه بوشاح عادة ما يكون أسود، وأنه يعيش حياة الفقراء بمنزل متواضع رغم ضخامة ثروته. ربّما ما طبع في مخيلة التونسيين ينطبق على بعض المهربين لكن ليس كلهم، إذ انتقل نسبة هامة من هؤلاء المهربين في السنوات الأخيرة إلى صنف رجال الأعمال عبر أموال التهريب الضخمة.

ساهم ارتفاع وتيرة التهريب باستغلال للوضع الأمني المضطرب في تكدس ثروات ضخمة لدى عديد المهربين

شهدت ظاهرة التهريب في تونس منذ 2011 تطورّا بشكل مخيف حتى بات يمثل الاقتصاد الموازي أكثر من 50 في المائة من الاقتصاد الرسمي، وتأتي مصادر هذا الاقتصاد من الحدود الغربية مع الجزائر والحدود الجنوبية مع ليبيا. إذ تتدفق مختلف أنواع السلع من الجهتين من المواد الغذائية والنفط وقطع غيار السيارات وصولًا للمواد الفلاحية بل أيضًا تهريب الأغنام والأبقار.

وساهم ارتفاع وتيرة التهريب باستغلال للوضع الأمني المضطرب في تكدس ثروات ضخمة لدى عديد المهربين، ثروات تبقى دائمًا خارج دورة الاقتصاد الرسمي. وليست ظاهرة التهريب بظاهرة جديدة على المجتمع التونسي، إذ شهدت طفرتها أواخر الثمانينيات بعد إمضاء إتفاقية فتح الحدود بين بلدان المغرب العربي، وتطورت شيئًا فشيئًا حتى بدأت تتشكل بعض مراكز المال على الحدود لكن خوفًا من بطش السلطة بقيت متواضعة إلى حد كبير.

اقرأ/ي أيضًا: صفحة من تاريخ فساد تحالف السلطة والثروة في تونس..

ورافق تطور التهريب تشكل صورة نمطية لدى التونسيين حول المهرب، حتى أن أحد سكان الحدود قال مرة إن المهربين هم "فقراء لديهم المال"، والمقصود أنهم يعيشون كالفقراء من حيث طريقة عيشهم وملبسهم رغم أموالهم الطائلة. ويعود تقشف المهربين أو عزوفهم على تطوير مستوى عيشهم إلى خوفهم من جلب أنظار السلطة والمراقبين ما يجعل العيش المتواضع وسيلة للتخفي من الشرطة الاقتصادية. وقد تكدّست ثروات المهربين خاصة بعد الثورة رغم سعي السلطات لدفعهم لإخراج أموالهم الضخمة عبر تغيير الأوراق المالية من طرف البنك المركزي في أكثر مناسبة في السنوات الأخيرة.

وفي ظل الوضع الجديد مع استفحال الفساد وضعف الرقابة، عمل مهربون على تغيير نشاطهم لتبييض أموالهم وإدخالها في الاقتصاد الرسمي من خلال الاستثمار في مشاريع صغيرة بطاقة تشغيلية محدودة. ومثلما تباع السلع المهربة على بعد أمتار من وزارة الداخلية، لم يعد يقتصر نشاط المهربين على المناطق الحدودية وتحولوا بدورهم نحو العاصمة حيث يتمركز مجتمع المال والأعمال في تونس. ونشط المهربون أو "رجال الأعمال الجدد" في قطاع العقارات والمبيتات الجامعية الخاصة، واستثمروا في المقاهي الفاخرة خاصة في منطقة البحيرة 2.

يبدأ الأمر بمبلغ مالي يأتي به المهرب للاستثمار في مشروع ما أو لشراء مقهى من الصنف الفاخر، وهذه المرحلة الأولى لتبييض الأموال. ثم يبدأ المشروع أو المقهى بالنشاط، وشيئًا فشيئاً يتم تضخيم العمليات المالية من خلال تزوير المداخيل، مثلًا تبلغ المداخيل الفعلية السنوية لمقهى ما مليون دينار لكن تسجل الحسابات المالية مبلغ 2 مليون دينار، والفارق هي أموال التهريب، وهذه المرحلة الثانية لتبييض الأموال.

عمل مهربون في السنوات الأخيرة على تبييض أموالهم وإدخالها في الاقتصاد الرسمي من خلال الاستثمار في مشاريع صغيرة

 دخل المهربون أيضًا في شراكات مع رجال أعمال ما مكنهم من اكتساب خبرة في إدارة الأعمال، كما عمل المهربون على مزج التهريب بالتصدير، في خلط بين العمليات القانونية والأخرى غير القانونية. إذ تُهرّب سلع من الحدود الجنوبية أو الغربية وتُنشئ شركات وهمية تونسية في ولايات مختلفة تصدر فواتير تثبت بيعها لهذه المواد المهرّبة، وبالتالي يصبح وجودها في تونس قانونيًا ليتم لاحقًا تصديرها، وأهم المواد التي يتم تصديرها بهذه الطريقة مادة النحاس.

يعرف الاقتصاد التونسي مرحلة خطيرة جدًا، في تحالف بين البرجوازية القديمة و"برجوازية التهريب"، استغلت الأولى الثانية في الدخول في عالم التهريب واستيراد مواد بطرق غير قانونية، فيما استغلت الثانية الأولى في التعرف على عالم الأعمال والدخول في الاقتصاد الرسمي واكتساب مهارة تبييض الأموال والإفلات من عيون الشرطة الاقتصادية. هكذا أصبح "الكناطري" رجل أعمال، وتغيّرت صورته النمطية لدى العديد، لكن الخشية أن لوبيات المصالح والنفوذ المشكّلة بموجب هذا التحالف، قد تتحكم قريبًا في الاقتصاد التونسي برمّته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (1/2)

مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (2/2)