16-أكتوبر-2020

انتصرت الكمامة رمزيًا للعين مركز العذرية والرومنسية على الشفاه (Getty)

 

أكرهت جائحة كورونا البشرية خاصّة في الأوساط الحضريّة على اتباع أنماط سلوكيّة جديدة، وهو ما أحدث تغييرات عديدة في مجالات شتّى اقتصاديّة وتعليمية وأخلاقية وثقافيّة وتواصليّة وذوقيّة.

ولئن اتخذت بعض التحولات طابعًا كميًّا فإنّ عددًا منها قد كان نوعيًّا جذريًا، فغسل الأيدي والأثواب وتعقيم الأسطح والأدوات وتهوئة الأماكن المغلقة عادات صحيّة ضرورية وقائيّة ساهمت كورونا في التذكير بها وتعهدها ودفعت نحو جعلها أكثر تواترًا وانتظامًا، وحولتها في الأذهان إلى أفعال أساسيّة روتينية حيوية، فباتت شرط بقاء ووجود بعد أن كانت آية نظافة ولياقة.

هذا التقييم لا ينطبق على بروتوكول التباعد الجسدي/ الاجتماعي وإلزامية ارتداء الكمامة، فهما يندرجان ضمن التحوّلات النوعية الجذرية الأكثر إحراجًا والأشدّ تأثيرًا.

عالج العديد من الباحثين بعض التحولات التي فرضتها الجائحة، فانتهوا إلى ملاحظات وصفية ونتائج تقييمية ومواقف تنحو منحى نقديًا تهدف في الغالب إلى النظر في السياسة الأمثل لمواجهة كوفيد 19.

حوّلت الكمامة العناصر المخفية من الوجه إلى ما يشبه الأماكن الحميمية، وخلقت ضربًا جديدًا من التبئير، ووضعت الشفاه في منطقة الظلّ وأقصتها من الأضواء

من المداخل التي لم أجد لها صدى بيّنًا في القراءات المتصلة بجائحة كورونا المقاربة الجمالية، فالكمامة قد أصبحت بمقتضى صحّي وتشريعيّ (مناشير رسمية) واحدة من أوكد اللوازم عند الخروج من البيت شأنها شأن الملبس وبطاقة الهوية ومحفظة النقود وغيرها، ولئن بدت بالنسبة إلى البعض في مرتبة عربون المرور والدخول إلى وسائل النقل العمومية والمؤسسات الإدارية والتجارية فإنّها بالنسبة إلى فئة أخرى تبدو مصدر سخرية لما أثاره ارتداء الكمامة من تناقضات سلوكية غريبة مثيرة يمكن التقاطها في بعض النوادر التي تزخر بها عدّة صفحات اجتماعية. 

اقرأ/ي أيضًا: أكوام النفايات الطبية بسبب "كورونا".. أي تأثيرات على الصحة والبيئة؟

الشفاه: من الأضواء إلى منطقة الظل

المدخل الجمالي يفرضه التحوّل الذي يحدثه ارتداء الكمامة على لابسها، إذ يخفي هذا "الاكسسوار الوبائيّ الخاص" جل ملامح الوجه وعناصره، فيستر الشفتين والخدين إلّا قليلاً والذقن والوجنتين وثلث القسم الأمامي من الرقبة، ولم يتمرد على هذا النقاب الفريد الاستثنائيّ غير الجبين والعينين وحوضيهما.

حوّلت الكمامة تلك العناصر المخفية من الوجه إلى ما يشبه الأماكن الحميمية، وخلقت ضربًا جديدًا من التبئير، ووضعت الشفاه في منطقة الظلّ، وأقصتها من الأضواء، فتركزت الأبصار على العيون التي استحوذت على الركح الجمالي للوجه بعد أن أزاحت في معركة الإثارة الشفتين والوجنين.

لا شكّ أنّ الحديث عن العين في صلة بالكمامة قد اتخذ عند الأطباء في البدء وجهة صحيّة، فقد تفطّن العديد من الباحثين إلى أنّ هذا الحاجز الموضوع أمام الفم من شأنه أن يتسبب في أعراض جانبية منها صعود هواء الزفير إلى الأعلى، فيتدفق فوق سطح العين، وهو ما قد يفضي إلى تجفيف الغشاء الدمعي، وذلك وفق تقرير نشرته واشنطن بوست في سبتمبر/أيلول 2020. ذاك شأن علميّ يمكن إثباته بالمعاينة والاختبار والتجريب، أمّا الشأن الجمالي والعاطفي فيحتاج منّا إلى كثير من الترويّ والتنسيب، فما أحوجنا في هذا المقام إلى ارتداء كمامة نقدية تقي من الإطلاقية والوثوقية.

بفعل الكمامة، تركزت الأبصار على العيون التي استحوذت على الركح الجمالي للوجه بعد أن أزاحت في معركة الإثارة الشفتين والوجنين

العيون الرومانسية والشفاه الإباحية

في المجال الإنساني العاطفي لا يمكن أن نجزم أي العناصر في الوجه أكثر إثارة، لكنّ الناظر في المدونة الشعرية العربية وفي كلمات الأغاني التونسيّة واجد مسافة جمالية وتعبيرية وتواصلية واضحة بين الشفتين والعينين يمكن حصرها في نقاط ثلاث على الأقل.

تحضر العيون في الأغاني والأشعار في المقامات العاطفية العذرية الخالصة، فهي تحرك في الرجل مشاعر المحبة والوجد والهيام، يتّضح هذا على سبيل المثال في مطلع أغنية للهادي الجويني ومن كلماتها "مفتون بغزرة عينيها غزرة عينينها والشفرة اللي بيها تسحر بيها تسحر" وغنت هيام يونس قصيدة مطلعها يؤكّد أثر العين في وجدان المحب الولهان منشدة "رمت الفؤاد مليحة عذراء بسهام لحظ ما لهنّ دواء".

في المقابل، تحضر الشفاه في مقام اللذة والمتعة التي تنحو منحى حسيًا جنسيًا، إذ تقترن بالقبل وترشف الرضاب وغيرها ممّا تحفل به القصائد والأغاني الإباحية وهي لتواترها وكثرة سريانها على الألسن لا تحتاج منّا إلى التوسع والإفاضة.

وفقًا لهذه الشواهد والأمثلة، يمكن القول إن الكمامة قد انتصرت رمزيا للعين مركز العذرية والرومنسية على الشفاه بوابة الإباحية والعلاقة الجنسية.

انتصرت الكمامة رمزيًا للعين مركز العذرية والرومنسية على الشفاه بوابة الإباحية والعلاقة الجنسية

العيون تنوب عن الشفاه

الكمامة توحي بالصمت فهي تخفي الفم واللسان والثغر والأسنان، ومن يرتديها هو أشبه بمن يخيط فمه أو يضع شريطًا لاصقًا احتجاجًا على سياسة تكميم الأفواه. الجامع بين الكمامة الصحية والصمت هو الخوف، هذا يخشى الإصابة الكورونية وذاك يرهب من المطاردة الدكتاتورية.

في الحالتين، يمكن للعين أن تنوب عن الشفاه في التعبير، فهي مستودع أسرار القلب التي منها تتسرب المشاعر حينما تشتدّ، فتفيض دمعًا أو ألماً أو قلقًا أو بؤسًا أو حسدًا، العين تفضح صاحبها في مقامات الحب والغضب والرأفة والاستعطاف وغيرها من المشاعر، يقول مجنون ليلى "وأعرف منها الودّ من لين طرفها *** وأعرف منها الهجر بالنظر الشزر".

وفي نفس المعنى، يقول أحمد شوقي مبرزًا دور العين في نيابة اللسان والشفتين كشفًا وإفصاحًا "وتعطلت لغة الكلام وخاطبت *** عيناي في لغة الهوى عيناك".

ويتردّد صدى هذه الصورة في بيت لأحد الشعراء يؤكّد فيه سلطان العيون في المجال التعبيري والتواصلي فيقول: "إنّ العيون إذا تحدّث صمتُها *** خرست أمامها ألسن الفصحاء".

وللعين دور في كسر طوق الرقباء والعذال وغطرسة المجتمع الذي يرى الحبّ خطيئة:

"أشارت بطرف العين خشية أهلها *** إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنتُ أنّ الطرف قد قال مرحبا *** أهلاً وسهلاً بالحبيب المتيّم".

الفم يضحك والعيون "غضابا"

تستمدّ العين وجاهتها مقارنة باللسان والشفتين من منسوب الصدق الذي تتصف به، سأل مؤدّب صبيانٍ المأمون بن هارون الرشيد وهو بصدد تلقينه درسًا: هل فهمت؟ فقال نعم، ثم سأل أخاه الأمين هل فهمت؟ فقال نعم، فردّ المؤدّب: كذبت لأنني لم أر لمعان الفهم في عينيك". بصرف النظر عن صحة هذا الخبر وخلفيته فإنّ الوعي بمنزلة العين في كشف حقيقة صاحبها مترسخ في التراث العربي الفكري والعلمي والأدبي والشعبيّ.

الكمامة لم تعد مجرّد واق ضدّ العدوى فقد أصبحت مساهمة في ترجيح كفة جمالية وتواصلية على أخرى

على هذا النحو ووفق هذه القاعدة التواصلية والبيداغوجية، تدفعنا الكمامة إلى تركيز النظر على العينين فهما الأصدق في البوح بالحقيقة، وقد تساهم في فضح أقرانها من أجهزة التصويت، تقوم شاهدًا على ذلك عبارة وردت في الأغنية التراثية التونسية على الجبين عصابة وجاء فيها "الفم يضحك والعيون غضابا". الحكمة من هذه النماذج لا تذهب إلى ما يسمعك الفم وما تبوح به الشفتان واذهب إلى ما تريد العينان. 

هكذا يتّضح أنّ الكمامة لم تعد مجرّد واق ضدّ العدوى، فقد أصبحت مساهمة في ترجيح كفة جمالية وتواصلية على أخرى، ولو كَدّ الباحثون أذهانهم أكثر لاكتشفوا لهذا "الاكسسوار الوبائيّ" أبعادًا فكرية وفلسفية أعمق منها موضوع الهويّة السياسيّة والإيديولوجية والرياضيّة والجندرية ألا ترى أنّ بعض الألوان والصور المرسومة على الكمامات تكاد تعلن عن جانب من مرجعيات لابسيها ومهجاتهم وانتماءاتهم؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

مدارس سوسة تحت وطأة كورونا

العودة المدرسية زمن كورونا: المسؤول يطمئن والوليّ متوجّس