06-نوفمبر-2023
الفساد الجمعيات الرياضية الصغرى في تونس

لا تسلّط على الفساد في الأندية الصغرى المتابعة المناسبة والمراقبة الواجبة (صورة توضيحية/ getty)

 

يحتاج التحقيق في الفساد الرياضيّ عامّة إلى البحث الدقيق والتقصّي المضني، لأنّ المتمرّسين في عوالم السرقة والإجرام عامّة لا يسلكون إلا الثنايا الملتوية المفتوحة على مئات الجحور التأويليّة للتخفي من المحاسبة، مستأنسين في ذلك بالخبراء في فنّ التستّر والطمس، فكلّما تعاظمت مكاسب الاختلاس والتزوير وقوِيت الرقابة، زادت أساليب الحيطة وتقنيات التملّص والإفلات من العقاب.

في هذا المقام، يعلم القائمون على الجمعيات الرياضيّة الكبرى علم اليقين أنّ العيون لا تنفكّ ترصد كلّ حركة أو همسة أو موقف يصدر عن هذا النجم الكرويّ أو ذاك المسيّر أو المستشار أو تلك الفئة من الجماهير، فأخبار النادي الإفريقي والترجي الرياضي التونسي، وجلّ الأندية الكبرى والعريقة بكلّ تفاصيلها ملقاة على قارعة الطريق تصلك حيثما كنت دون أن تكدّ الذهن أو تطيل النظر، هذا ما يجعل القائمين على تلك القلاع الرياضيّة يتحصّنون بمنتهى الحذر ويتوخّون في كلامهم وردود أفعالهم ذروة التحفّظ، فهم على يقين بأن الكاميرا مصوّبة على أعينهم وشفاههم وأرجلهم وأيديهم إن في الملعب أو خارجه.

يبدو المشرفون على الأندية الصغرى في حالة ارتخاء، لاستبطانهم شعورًا بأنّهم أبعد ما يكونون عن الرقابة، ما يجعل الكثيرين منهم يستخفّون بالعديد من التجاوزات والجنح والجنايات التي تستوجب العقاب

في المقابل، يبدو المشرفون على الأندية الصغرى في حالة ارتخاء، فهم يستبطنون شعورًا بأنّهم أبعد ما يكونون عن الرقابة الرسميّة والجماهيريّة والإعلاميّة، هذا ما يجعل الكثيرين منهم يستخفّون بالعديد من التجاوزات والجنح والجنايات التي تستوجب العقاب، فما يحدث في بعض الجمعيات التي تنتمي إلى الرابطات الجهوية يتنزّل ضمن باب من أبواب الفساد عنوانه "بعيد عن العين بعيد عن المحاسبة".

  • الجمعيّات الكبرى "سلّة الخبز" الإعلاميّ

 الحقيقة هي الرهان الأصليّ والأمثل والأرقى الذي يتجشّم من أجله الإعلاميّ عناء التقصّي والتسجيل والتوثيق والمراجعة والمقارنة والتحليل والتقييم والمتابعة والتعديل، لكنّ الحافز المادّي لأصحاب المؤسّسات قد يجعل معايير النشر غير علميّة، فالأخبار لا تكتسي أهمّيتها من ذاتها إنما تستمدّ قيمتها من درجات الإقبال عليها، فمشهد نجم من الترجي الرياضي يُطرد ذبابة حطّت على أنفه وهو على دكّة الاحتياط قد يحظى بمتابعة أعلى من صورة لاعب يطارد حكمًا في مباراة تجمع فريقين من الأقسام الدنيا.

رؤساء الجمعيات في النوادي الصغرى كانوا يحظون في عهد بن علي بدعم من الحزب الحاكم والسلطات المحليّة والجهويّة، فهم يمثّلون خزانًا انتخابيًا ودعائيًّا تحتاجه السلطة

يضمن صاحب المؤسسة الإعلاميّة الذي يراهن على أخبار الأندية الكبرى ملايين المتابعات والتفاعلات من تونس وخارجها، ولا بدّ أن نعترف أنّ النادي الإفريقي والترجيّ يمثلان مصدر رزق للكثير من المواقع والصحف المختصّة في الشأن الرياضي وغير المختصّة، فهما بمثابة "سلّة الخبز"، (على حدّ تعبير التوحيدي) ولنا في قصّة "الفالح" (اسم مستعار) خير دليل.

يُحكى أنّ الفالح كان شابًّا مولعًا بأحد الأندية الكبرى في العاصمة مواظبًا على متابعة التمارين والمباريات، وكان قويّ البنية فارع الطول، لم يتخطّ السادسة من التعليم الأساسيّ، وكان موفور الغلظة والعجرفة عديم الأدب والحشمة، وقد عاين المسؤولون منه نزوعه إلى التهوّر الذي ينطوي على سخافة ممّا يجعله قابلًا للتوظيف، فتقرّب منه البعض وتحاشاه الكثيرون، وفي فترة اشتدّ فيها الصراع في نهاية التسعينيات بين جناحين من الجمعية خاصّة حول انتدابات اللاعبين والإطار الفني، دعاه أحد مديري الأعمال وبدأ يحرّضه مرّة على هذا اللاعب وأخرى على ذاك المدرب، فكان يقف عند سياج الملعب يكيل للطرف المستهدف الشتيمة والسباب لأبسط خطأ يرتكبه في التمارين.

ما يحدث في بعض الجمعيات التي تنتمي إلى الرابطات الجهوية يتنزّل ضمن باب من أبواب الفساد عنوانه "بعيد عن العين بعيد عن المحاسبة"

 واصل "رجل الظل" توظيف "الفالح" في كلّ صغيرة وكبيرة للتنغيص على خصومه، وليضمن طاعته الدائمة، تدخّل لفائدته فضمن له خطّة "شاوش" في مؤسّسة تجارية غير بعيدة عن حديقة التمارين، وأصبح يجالسه في الفضاءات الراقية ويتيح له ملاقاة كبار "الجمعية"، فتمكّن الفالح من الاطلاع على جلّ الخفايا المتصلة بالجمعيات الكبرى والجامعة والحكّام.

  • الأندية العريقة وخطّة الانتشار والصعود الاجتماعي

 في العقد الأخير من القرن العشرين، تفطّن الناصر (اسم مستعار) وهو أحد الإعلاميين المتمرّسين في الحقل الرياضي إلى الأمر، ورغم اتّصافه بالمهنية والشجاعة لم يتجه إلى فضح "الفالح" ومن وراءه بل وجد من الأجدى الاستفادة من هذا الخيط الكفيل بجعله يرصد الكواليس الرياضيّة في فترة كانت الأخبار حول الصراعات والمناكفات تلقى صدى في نفوس القرّاء، وكانت الدولة العميقة تشجع بطريقة أو بأخرى هذا اللون وألوانًا أخرى من "الفضائح" للإيهام بالحريّة في ظلّ تزايد الضغط على نظام بن علي ليكفّ عن القبضة البوليسيّة إثر إضراب الجوع الذي نفذه عدد هام من قياديي الأحزاب المعارضة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2005، بعدها خاصّة بداية من 2006 لاحظنا هامشًا مقبولًا من الحرية في تناول الفساد الرياضي والاجتماعي في برامج من قبيل الحقّ معاك وبرنامج بالمكشوف.

أغلب رؤساء الجمعيات الصغرى، كانوا يستمدّون استقرارهم قبل الثورة من دعم السلطة فأصبحوا يستمدونه اليوم من غفلة الجمهور وانشغاله بهموم الكبار

تحت إشراف "الناصر"، تحوّل "الفالح" إلى مراسل في إحدى الصحف الورقية رغم أنّ رصيده العلميّ ضعيف، وقد أنصفته الحجة السحرية المعتمدة في الرد على أيّ احتجاج "من أراد أن يحظى بمساحة أوسع في النشر فليكن في كفاءة الفالح من حيث رصد الأخبار"، فالصياغة لا تهمّ لأنّ فريق التحرير كفيل بالإصلاح والتنظيم والترتيب حتى إن كان النصّ بالعاميّة مثيرًا للغثيان خطًّا ورسمًا ونحوًا وتعبيرًا.

تمكّن الفالح من شقّ طريقه بنجاح في عالم الإعلام وأصبح ضيفًا مبجّلًا في البرامج الرياضيّة التي تراهن فقط على الجرأة في التطاول وبات بين سنة وأخرى يلقبّ بالمختصّ والخبير والعارف بالخفايا والتفاصيل.

لم ينل الفالح هذه الحظوة بفضل علمه أو جرأته أو "رجل الظل" الذي يسنده، إنما نالها لقربه من كواليس الجمعيات الكبرى، حتّى كدت أقول إنها لا تمثلّ فقط "سلة الخبر" بالنسبة إلى الإعلاميين ومؤسساتهم إنما هي سبيل إلى الصعود في السلم الاجتماعيّ والاعتباريّ.

  • دعه يفسد دعه يمرّ..

السبيل الذي سلكه الفالح أغرى العشرات من المراسلين فعدلوا عن متابعة مشاغل الجمعيات الصغرى والتحقوا بفيلق الإعلاميين المختصين في أخبار الإفريقي والترجي والأندية الكبرى، ومن لم يجد مساحة في صحيفة ورقيّة أو إلكترونية، فتح صفحة على أحد منصات التواصل الاجتماعي، فضمن حينئذ القائمون على الأندية الصغرى السلامة من الرقابة الإعلاميّة، فاتسعت فيها دوائر الفوضى والعنف والفساد المالي.

 

رؤساء الجمعيات في النوادي الصغرى كانوا يحظون في عهد بن علي بدعم من الحزب الحاكم والسلطات المحليّة والجهويّة، فهم يمثّلون خزانًا انتخابيًا ودعائيًّا تحتاجه السلطة في حملات المناشدة أو التظاهرات التي ينظمها الحزب لاستقبال رئيس الجمهوريّة أو أحد أعضاء الحكومة أو غيرها من الشخصيات، فلا تعجب أن تتحوّل حصّة التمارين في جمعية نسائيّة إلى حصّة لحفظ الشعارات المزمع رفعها عند حضور هذه الشخصيّة أو تلك من اللجنة المركزية للتجمع أو من الديوان الرئاسيّ.

رؤساء الجمعيات الصغرى، إلا أقلهم، كانوا يستمدّون استقرارهم قبل الثورة من دعم السلطة فأصبحوا يستمدونه الآن من غفلة الجمهور وانشغاله بهموم الكبار، فترى المواطنين معنيين برئيس الجامعة، ووزراء الرياضة، ومدرّب المنتخب الوطني، ومدربي الترجي والنادي الصفاقسي والنادي الإفريقي..

يمكن تلخيص الفساد في الأندية الصغرى في 5 عناوين على الأقلّ، وعلى سلطة الإشراف الاجتهاد في فتح تحقيقات جادّة وتحميل المسؤوليات

ومن المضحكات المبكيات أن تجد في بعض الجهات والأحياء وليًّا لا ينفكّ في المقهى يحتجّ على وديع الجريء رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم، وجلال القادري مدرب المنتخب التونسي، بسبب ما يراه انحرافًا في بعض الاختيارات ويغفل عن مظالم مفضوحة في ملعب غير بعيد عن محلّ سكناه تضرّر منه ابنه أو أحد جيرانه أو أقاربه!

لا تسلّط على الفساد في الأندية الصغرى المتابعة المناسبة والمراقبة الواجبة، كأنّ صوتًا خفيًّا يهمس في الآذان "دعه يسرق دعه يمر". هذا الاختيار السلوكيّ يبدو طاغيًا في صلة بالتجاوزات التي تبدو للعامّة صغرى أو صادرة عن صغار المسؤولين، وإن نبّهتَ إلى هذه المعضلة جابهك البعض بمعادلة إصلاحيّة مفادها "إذا أردت أن تكنس/ تنظف السلّم فابدأ من الأعلى".

  • العناوين الكبرى للفساد في الجمعيات الصغرى

الفساد في الأندية الصغرى يمكن تلخيصه في خمسة عناوين على الأقلّ، وما على سلطة الإشراف إلا الاجتهاد في فتح تحقيقات جادّة وتحميل المسؤوليات:

1-    جلّ الجلسات العامّة الانتخابيّة أو التقييميّة تفتقر إلى المتابعة الجادّة، فبعض الأندية ترسل الإعلان عن الجلسة إلى صحيفة ورقية منسيّة لا تحظى بالقراءة، فلا يتفطّن إليه أحد، فيُخلي كاتب عام الجمعية مسؤوليته ويساهم في تمكين رئيس الجمعية من التمديد عبر جلسة انتخابيّة صوريّة تجري في شكل "احتفاليّ أخويّ" خال من شروط المنافسة والمحاسبة.

2-    الإيهام بمصاريف وهميّة غير واقعية رغم الدعم الكبير من الجامعة والولاية وبعض الأطراف الأخرى، أمّا "إيصالات الإنفاق" فيمكن تدبيرها بيسر، وهو أمر لا يكاد يخفى على أحد، هذا فضلًا عن أشكال شتّى من الابتزاز يتعرّض له أولياء اللاعبين كأن تتم دعوتهم الصريحة المتكررة إلى المساهمة من حين إلى آخر بمصاريف اقتناء عدد من التجهيزات أو التنقل لإجراء بعض المباريات، وليس يخفى ما لذلك من تأثير على اختيار قائمة اللاعبين المشاركين.

يميل الحكام إلى إرضاء الفريق المضيّف في جلّ مباريات الأقسام السفلى التي تدور في أجواء فيها الكثير من التوتّر والتهديد بالعنف

3-    جلّ المباريات في الأقسام السفلى تدور في أجواء فيها الكثير من التوتّر والتهديد بالعنف، وفي غياب المتابعة الإعلاميّة الواسعة يميل الحكام إلى إرضاء الفريق المضيّف.

4-    تحويل الملعب التابع للبلديّة والمجموعة الوطنيّة إلى محلّ تجاري، من خلال توسيع قاعدة اللاعبين المنتفعين بالتدريبات بمقابل مادّي (الأكاديميّات)، وتحويل اللاعبين من ذوي الإجازات إلى زبائن حينما ينتهي سباق البطولة الذي يمتدّ على حوالي أربعة أشهر في السنة، هذا فضلًا عمّا يسميه المدربون l’entrainement/ travail spécifique وهو أشبه ما يكون بالدروس ما بعد الدوام/ الخصوصيّة تقدّم في بعض الملاعب/ المؤسسات العموميّة بمقابل دون محاسبة أو متابعة دقيقة أحيانًا في غفلة من رؤساء الجمعيات أنفسهم.

5-   كرة القدم شأنها شأن المهن المحكومة بعقود، ينبغي أن تحظى بالمتابعة والمحاسبة الجادّة والدقيقة فالاختيارات الفنية هي بمثابة الانتداب، فالمحاباة في اختيار هذا اللاعب وحرمان الآخر تدخل حسب رأيي في باب الرشوة والظلم، رشوة يستفيد منها ماديًّا واعتباريًّا الطفل المفتقر إلى المهارة الفنية والكفاءة البدنية، وظلم يتأذى منه نفسيًا الأحق والأفضل والأجدر، هذا فضلًا عن الزبونية والمحسوبية في انتخاب المدربين حيث تتقاطع المصالح تحت عنوان " الوِداد والفساد".

جمهور الأحياء القريبة من الملاعب البلديّة والإعلام العمومي وسلطة الإشراف، كلهم مطالبون بالحدّ من الفساد في الأقسام السفلى والأندية الصغرى

ثلاثة أطراف ينبغي أن تتعاضد جهودها للحدّ من الفساد في الأقسام السفلى والأندية الصغرى:

  • جمهور الأحياء القريبة من الملاعب البلديّة التي تحتضن تمارين تلك الأندية ومبارياتها.
  • الإعلام، لا سيما الإعلام العمومي، الذي ينبغي أن يوازن بين المقصد الربحي المتأتي من أخبار الأندية الكبرى والرسالة المهنية المتمثلة في كشف الحقائق حيثما كانت.
  • أما الطرف الثالث فهو بلا شكّ سلطة الإشراف، أقصد البلدية والولاية والمندوبيات الجهوية للرياضة والجامعة والرابطة والنيابة العمومية التي ينبغي أن تضع خطّة للحدّ من فساد يمكن إثباته بسهولة وبجهد يسير وبكثير من الصدق والشجاعة والوطنيّة حتى ينصلح حال الرياضة التونسية وننقذ كرة القدم من التصحّر الفني الذي يلوح في الأفق بسبب الاختيارات الظالمة في أصناف الشبان وفي الأقسام السفلى.