25-أكتوبر-2023
الجماهير الرياضية النادي الإفريقي

ما قد لا تسعُه الكتب والمجالس وما لا تجرأ عليه التظاهرات السياسيّة تُقبل عليه الجماهير الرياضيّة بمنتهى الوضوح والشجاعة (صفحة النادي الإفريقي على فيسبوك)

 

"الدخلة" في اللهجة العاميّة التونسيّة تعني معجميًّا البداية أو العتبة أو المقدّمة لكنّها اصطلاحيًا تُحيل إلى مجهود استعراضيّ فنيّ تتظافر فيه الصورة والصوت، وقد يتحوّل المشهد إلى ما يشبه السيناريو القصير الذي تساهم في تجسيده نخبة من الأحباء، تشاركها عامّة المشجعين بالهتاف والغناء ورفع الأعلام المتنوّعة حجمًا ولونًا وإعلاء اللافتات التي تتضمّن رسائل في غاية الكثافة الدلاليّة تسهر على تدوينها ورسمها خليّة صغرى في جوّ سرّيّ جادّ فيه الكثير من الصبر والمثابرة والاجتهاد.

ولا يهنأ مبدعو هذه اللوحات إلّا حينما تكتمل وتخرج إلى الجمهور بعد تدريبات مضنية وعمليات بيضاء، فيكون المشهد في الغالب مثيرًا أخّاذًا مفاجئًا صادمًا أحيانًا.

 

  • الجمهور الرياضي، الصوت المبدع المتجدّد العالي/ Ultra

لمّا أصبحت "الدخلة" محطّ أنظار الجماهير الشغوفة بأنديتها وافتكّ هذا النشاط الجماهيري الأضواء، تغيرت الهندسة الجماليّة لمباريات كرة القدم من مساحة المستطيل الأخضر الأفقيّ المسطّح إلى المدارج العموديّة ذات الألوان المتنوعة والأبعاد المتعددة والزوايا المختلفة.

لمّا أصبحت "الدخلة" محطّ أنظار الجماهير الشغوفة بأنديتها وافتكّ هذا النشاط الجماهيري الأضواء، تغيرت الهندسة الجماليّة لمباريات كرة القدم من مساحة الميدان إلى المدارج التي تمثل فضاءً واعدًا متجددًا شكلًا ودلالات

بات المستطيل الأخضر في الغالب مساحة مألوفة رتيبة أحيانًا في ظلّ تحوّل كرة القدم من العفويّة إلى التقعيد، أمّا المدارج فهي فضاء واعد متجدّد لونًا وشكلًا وترتيبًا ومعانيًا ودلالاتٍ، هذا ما يجعل الجمهور يلتفت إليها أكثر من تحديقه في مهارات اللاعبين، ولنا في مدارج بعد الأندية التونسيّة أمثلة تقوم شاهدًا على ما تتّصف به نخبة المشجعين من عمق وإبداع وانفتاح دائم على واقع متقلّبٍ سياسيًّا واجتماعيًا واقتصاديًّا وذوقيًّا محليًّا وإقليميًا وقوميًّا وعالميًا.

 فما قد لا تسعُه الكتب والمجالس الفكريّة والنيابيّة وما لا تجرأ عليه التظاهرات السياسيّة والحزبيّة تُقبل عليه الجماهير الرياضيّة بمنتهى الوضوح والدقّة والشجاعة والخصوصيّة، فيكون صوتها عاليًا، عاليًا جدًّا بلا حدود" ألترا" Ultra، كذا كان صوت جماهير الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي والعديد من الأندية في تونس قبل الثورة وهذه الأيّام "أيّام العرب" "أيّام المقاومة".

 

صورة
من الشعارات المرفوعة في دخلت جماهير النادي الإفريقي في مباراته ضد الأولمبي الباجي في 22 أكتوبر 2023

 

  • استكانة في المدارج العلميّة وتمرّد في المدارج الرياضيّة 

"كريم" أستاذ رياضيات، كان قد اجتاز الباكالوريا بنجاح سنة 2004 لم يكفّ رغم وجهته العلميّة عن مطالعة الكتب الفكريّة والإيديولوجيّة، حدّثه والده وهو ابن الجنوب التونسي عن التوهّج السياسي في الجامعة التونسية لا سيّما في جامعتي "منوبة" و"9 أفريل" والمركّب الجامعي تونس المنار (Campus)، لكنّ خيبته كانت كبيرة حينما وجد الطلبة قد عدلوا عن الشأن العامّ ومضى كلٌّ إلى غايته يحرّكه الخلاص الفرديّ في رضوخ واستكانة وقبول مُزر بالأمر الواقع.

ما قد لا تسعُه الكتب والمجالس الفكريّة والنيابيّة وما لا تجرأ عليه التظاهرات السياسيّة والحزبيّة تُقبل عليه الجماهير الرياضيّة بمنتهى الوضوح والدقّة والشجاعة والخصوصيّة، فيكون صوتها عاليًا جدًّا بلا حدود

في سنته الجامعيّة الرابعة سكن "كريم" في مونفلوري وهو حيّ غير بعيد عن باب الجديد معقل جماهير الأحمر والأبيض، سنة 2008 كان أحباء الأحمر والأبيض يحتفلون بالفوز على أحد الأندية قبل بضع جولات من نهاية المنافسة على البطولة، تواصلت الأهازيج إلى ساعة متأخرة من الليل، فتدخّل الأمن فردّد الجمهور شعارًا بدا للشاب كريم أخطر ما سمعه في تلك الفترة "الإفريقي لازيو روما سيّب (اترك) الجمهور يا حكومة"، فضلًا عن شعارات أخرى أكثر جرأة لا تخلو من سباب وشتيمة وتهديد.

 

صورة
من الشعارات المرفوعة في دخلت جماهير النادي الإفريقي في مباراته ضد الأولمبي الباجي في 22 أكتوبر 2023

 كان كريم موقنًا أنّ الأمر يتعدّى مجرّد مناوشة بين مجموعة من الجماهير وعدد من أفراد الشرطة، لم يكن في حاجة إلى كدّ الذهن تفكيكًا وتحليلًا ليكتشف أنّ المجموعة التي قارعت الأمنيين كرًّا وفرًّا هي عيّنة من الشعب تبحث عن مساحة للتنفيس عن الكبت السياسيّ والفكري والاجتماعي الذي خنق الجميع في تلك الفترة.

 

  • جمهور الترجي يمهّد الطريق للعاطلين وشباب الجهات المهمشة

في 8 أفريل/نيسان 2010 عاد "سامي" أحد رفقاء "كريم" دامي القدمين لاهثًا حالته تنبئ بأنّه قد نجا من أمر جلَلٍ، كيف لا وقد أفلت من معركة في غاية الخطورة بدأت في مدارج ملعب المنزه بين الأمنيين و أحباء الترجي وتواصل صداها إلى أحياء مجاورة. 

علّق سامي محدّثًا كريم: "أوّل مرّة أرى جمهورًا رياضيًّا يطارد الأمنيين، في مشهد لا يمكن ردّه بأي حال من الأحوال إلى إخفاق الترجي في الانتصار على حمام الأنف. 

بعد 2011 أجمع جلّ النقّاد في المنابر على أنّ جماهير الأندية الرياضية في مقدّمتها الترجي والنادي الإفريقي كان لها السبق في كسر شوكة النظام البوليسي الذي وظفة بن علي في قمع المعارضة وترهيب المواطنين

وعقّب "سمير" الرفيق الثاني لكريم في هدوء وتأمّل وقد جمعت الأصدقاء الثلاث شقة ضيقة على وجه الكراء، قائلًا: "إنّ الإفراط في إشعال الشماريخ لا يمكن ردّه إلى مقصد احتفالي، إنّه حمّال لمعاني الحماسة والتمرّد، الثورة قادمة لا محالة نيران الشماريخ تبشّر بها".

عاين بعض المقربين من الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي هذا المشهد المتوتّر في الملاعب فنصحوه بدفع أصهاره إلى الابتعاد مطلقًا عن الساحة الرياضية في مقدمتهم سليم شيبوب رئيس الترجي الرياضي وعماد وبلحسن الطرابلسي الداعمين للنادي الإفريقي. تبيّن لاحقًا أنّ تلك النصيحة أفقها ضيّق، فالحقد في المدارج الرياضيّة لم يكن يستهدف هذه الأطراف بعينها إنما كان رهانه غير المعلن زعزعة النظام في كليته وتمهيد الطريق لثوار الجهات المحرومة والشباب الذي يعاني التهميش والخصاصة والبطالة.

بعد 2011 أجمع جلّ النقّاد في المنابر السياسيّة على أنّ جماهير الأندية الرياضية في مقدّمتها الترجي والنادي الإفريقي كان لها السبق في كسر شوكة النظام البوليسي القمعي الذي وظفة بن علي في قمع المعارضة وترهيب المواطنين. 

 

صورة
جمهور الترجي في مباراة للفريق ضد نادي السد القطري في إطار منافسات كأس العالم للأندية 2019

 

  • حصار قطر و"حقّ عمر" 

تواصل الخط الثوري في "دخلات" الجماهير وأهازيجها بعد الثورة، وقد تشكّل خاصّة مع مشجعي النادي الإفريقي في مناسبات عديدة أشهرها التمسّك بحقّ عمر العبيدي المحب الذي مات غرقًا في أفريل/نيسان 2018 إثر مطاردة من قبل بعض الأمنيين، وحظيت هذه القضيّة الجنائيّة بمساندة من كلّ الجماهير الرياضية في الجنوب والساحل والشمال، فاتحدت جميعها على شعار "تعلّم عوم" تنديدًا باستخفاف أعوان من الشرطة بروح الشاب ومعاينة غرقه بدم بارد دون التدخّل لإنقاذه وفق إحدى الروايات.

تواصل الخط الثوري في "دخلات" الجماهير وأهازيجها بعد الثورة وقد تشكّل خاصّة مع مشجعي النادي الإفريقي في مناسبات عديدة أشهرها التمسّك بحقّ عمر العبيدي الذي حظيت قضيته بمساندة من كلّ الجماهير الرياضية واتحدت جميعها على شعار "تعلّم عوم"

في نفس السنة، واصلت جماهير النادي الإفريقي تمرّدها على الظلم ووسّعت دائرة اهتمامها، لتشمل الشأن الإقليمي والعربي، إذ عمدت إلى رفع صوت احتجاجي ساخط ساخر من أنظمة عربيّة تواطأت على حصار دولة قطر من خلال شعار  كتب على لافتة غطّت جانبًا واسعًا عريضًا من المدارج الرئيسية جاء فيها "نكرهكم يا حكام العرب تحاصرون قطر وإسرائيل في سلام". 

 

صورة
شعار رفعته جماهير الإفريقي سنة 2018 احتجاجًا على الحصار الذي سلّط على قطر

 

ظلّت جماهير النادي الإفريقي منفتحة على واقعها، عينٌ على أداء اللاعبين واجتهاد المدرّب والهيئة وأخرى على الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة التي بلغت قاع التردّي في فترة كان فيها المتحزّبون منشغلون بتصفية الحسابات الأيديولوجية والتوافقات على حساب الخيارات الاجتماعية ومصلحة المواطن، فتعالت في المدرجات أغنية "يا حياتنا" التي حملت في كلماتها وإحالاتها ومرجعياتها ما يصحّ اعتباره ثورة على الظلم والفساد.

وقد عدّ ياسين العياري النائب السابق أغنية "يا حياتنا" ملهمة ومؤثرة  وأقدرَ تعبيرًا على الأوضاع المتردية من المداخلات الصاخبة آنذاك تحت قبة البرلمان، فاستأنس بها وعرضها على النواب ولسان حاله يقول إنّ هذه الأغنية المأخوذة من المدارج الرياضية أوضحُ وأقربُ إلى الأذهان وأكثر سريانًا على الألسن من الخطب السياسيّة.  

 

 

  • التغني بالمقاومة وتمجيد رموزها

هذه العروض في المدارج الرياضيّة ذات المنحى الثوريّ والنزعة النقديّة كبرت ونضجت وبلغت ذروة الانتظام والحبكة والجرأة بُعيد ملحمة "طوفان الأقصى"  التي دفعت إسرائيل إلى ممارسة كلّ ألوان التعسّف والتظليل والقصف والتهجير إلى درجة حقّ نعتها بالإرهاب والإبادة الجماعيّة.

بعد عملية "طوفان الأقصى" خرق جمهور النادي الإفريقي كلّ خطوط الكتمان والتحفّظ فلم تكن "الدَّخلة" مجرّد رسالة تعاطف مع أطفال غزة ولم تقتصر اللافتات على التنديد، وإنما تضمنت تمجيدًا صريحًا للمقاومة بمرجعيّة دينية وإنسانية وقيمية

ولئن حفلت جلّ المدارج الرياضيّة في العالم وفي البلدان العربيّة بلافتات الدعم والتعاطف بمبادرات فرديّة أو جماعيّة، فقد كانت مع الجماهير التونسيّة لا سيّما أحباء النادي الإفريقي فريدة استثنائيّة خارقة، أي نعم لقد خرق جمهور الأحمر والأبيض يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كلّ خطوط الكتمان والتحفّظ والتنسيب وتصنّع الاعتدال، فلم تكن الدخلة مجرّد رسالة تعاطف مع أطفال غزة ونسائها، ولم تقتصر اللافتات على التنديد بالتواطؤ الغربي والخزي العربي، لقد تضمنت تمجيدًا صريحًا للمقاومة المسلّحة بمرجعيّة دينيّة وإنسانيّة وقيميّة، فتصدّرت المشهدَ صورة الناطق الرسمي الإعلاميّ لكتائب عز الدين القسّام، المكنى بأبي عبيدة الذي تميّز في خطاباته بالعزم والتصميم وبحماسة تنهض بوظيفة تحفيزيّة لبني قومه وإحباطيّة في صفوف العدوّ.

 

صورة
من الشعارات المرفوعة في دخلت جماهير النادي الإفريقي في مباراته ضد الأولمبي الباجي في 22 أكتوبر 2023

 

لم يعبأ جمهور النادي الإفريقي بخطورة هذا الاختيار رغم أنّ الشخصيّة الرئيسية في سيناريو "الدخلة" هو من أوّل المطلوبين في إسرائيل وفي الدول الغربيّة الداعمة لها، شأنه شأن كلّ أفراد التيار السياسيّ والعسكريّ الذي ينتمي إليه، فهؤلاء تتصدّر أسماؤهم قائمات الإرهاب في الولايات المتحدة وجلّ الدول الغربيّة وبعض الأقطار العربيّة، ولولا المقام الاستثنائيّ الذي تعيشه تونس، ولولا التناغم بين صوت المقاومة والهبة الشعبيّة والموقف الرسمي في خطابات الرئيس قيس سعيّد الداعمة للخطّ الجهاديّ والقتالي في المقاومة.. لولا كلّ ذلك لصعد إلى المنابر الإعلاميّة التونسيّة صنّاع الفتن والتفاهات لتذكيرنا بأنّ الجماهير الرياضيّة في المدارج ترتكب جريمة تقع تحت طائلة دعم الإرهاب في خلط واضح مقصود متعمّد بين المقاومة المشروعة المحمودة والجرائم المرفوضة المذمومة. 

 

 

رسائلُ الجماهير الرياضية تختلف عن رسائل السياسيين تكره المداهنة والنفاق والازدواجيّة وتعشق الوضوح وتسمية الأسماء بأسمائها، لسان حالها يقول "ماذا جنينا منذ خمسة عقود أو يزيد من التسوّل على عتبات السلام".  تجرّأ أحباء الأحمر والأبيض على رفع شعارات من قبيل "ألا إنّ نصر الله قريب" المشحونة بدلالات الصبر والاستبسال في المقاومة بأرجل ثابتة وأياد حازمة وأجساد متحفزة وأذهان متيقظة ونفوس حالمة.


صورة

 

  • صرامة المدرج الرياضي وميوعة " السُّجّاد الفنيّ"

الجماهير الرياضيّة تربّت على ثقافة العدل، لا تغفل عن أيّ قرار تتخذه الجامعات الرياضيّة حول كلّ مواجهة بين فريقين وطاقمها التحكيمي وسيرته ونزاهته وشجاعته في اتخاذ القرارات العادلة. ولأنّ الهياكل الرياضية واعية بتمسّك الجماهير أكثر من غيرها بعدالة الأحكام تدرجت نحو مزيد التدقيق والضبط خشية التحيز والظلم الذي لا يغتفر من قبل الأحباء والمشجعين.

لم تتوقّف الأنشطة الرياضيّة في تونس حُزنًا على أطفال غزة ولم يحتجّ أحد على تدفق الجماهير إلى الملاعب وحماستها في تشجيع أنديتها لأنّ الضمير الجمعي واثق أنّ هذا الفضاء بات الأقدر على تربية الأجيال على التحلّي بالشجاعة والتمسّك بالعدل

هذه التجربة في المدارج حتمًا ستساهم وفق معادلات علم النفس في تشكيل البنية الذهنيّة للجماهير الرياضيّة، فينعكس ذلك على ردود أفعالها في الشأن العام السياسي والاجتماعي، فإذا رفع المشجّع صوته في المدارج محتجًّا على هدف مسبوق بتسلل فاعلم أنّه لن يسكت متى رأى الجهلة والسذج والفاسدين يتسللون إلى مواقع القرار أو ينالون شهادات وأوسمة لا يستحقونها، وإذا رأيت الجماهير ترمي الحكم بسخطها وترجُمه بغضبها حين تراه محابيًا هذا النادي متحاملًا على ذاك الفريق فاعلم أنّ تلك العادة الحميدة ستتجسد ضدّ حاكم يتوخّى المحسوبيّة والزبونيّة وضدّ مستعمر أدمن الغدر والغطرسة وتنكّر لكلّ مقتضات العدل والحق والسلام.

لذلك كلّه لم تتوقّف الأنشطة الرياضيّة في تونس حُزنًا على أطفال غزة واليتامى والثكالى في فلسطين، ولم يحتجّ أحد على تدفق الجماهير إلى الملاعب وحماستها في تشجيع أنديتها، لأنّ الضمير الجمعي واثق أنّ هذا الفضاء بات الأقدر على تربية الأجيال على التحلّي بالشجاعة والتمسّك بالعدل والتعهد بالوفاء والترفع عن الميوعة والتطهّر من لوثة البحث عن الخلاص الفرديّ. 

 

صورة
من الشعارات المرفوعة في دخلت جماهير النادي الإفريقي في مباراته ضد الأولمبي الباجي في 22 أكتوبر 2023

 

هذا ما يفسّر التفاعل الإيجابيّ مع إلغاء الدورة 34 من أيام قرطاج السنمائية، ولا تظنّن الجمهور التونسي يكره الفنّ ويعادي الفنانين، إنما هو على بينة من أنّ أي رافد من روافد الفكر والعقيدة والجمال متى تحوّل إلى أفيون للثورة والمقاومة فلا حاجة لنا به. 

التونسيّ لم يغفر للسينمائيين التونسيين شغفهم في "السجاد الأحمر" بصور الصدور المكشوفة المكتنزة والثغور اللطيفة الباردة وإعراضهم في إنتاجهم الفني عن ثغور (حدود) المدن المقاومة وصدور الفدائيين التي تتصدّى للرصاص على خطّ التماسّ بين المغتصب وصاحب الحق، ولم تشفع لهؤلاء الفنانين رغبتُهم في التدارك بتوظيف السينما للتوعية بالقضيّة، لأنّ التونسي قد خبرهم ويعلم أن رصيدهم فارغ وأنّ الأعمال الفنية الملتزمة تأبى العُجالة والاستدراكَ في اللحظات الأخيرة. 

الأمر يختلف تمامًا عن التحوّل من المناشدة في 13 جانفي/يناير 2011 إلى الاحتجاج في شارع بورقيبة في اليوم الذي يليه، التونسيّ يرفض كلّ أشكال الإلهاء عن القضايا الجادّة في هذا الظرف الحاسم سواء صدرت عن رجل دين أو فنّان أو منشّط أو مفكّر خاصّة ذاك الأكاديميّ الذي ظلّ حبيس مدرج دروس المنطق الصوريّ وعزّ عليه استيعاب المنطق العملي في مدارج الثورة والمقاومة.