21-مايو-2018

البريك من الأكلات الضرورية بالنسبة للكثير من التونسيين خصوصًا خلال شهر رمضان (صورة تقريبية/ Getty)

الصّائم يغالب إمساكه عن لذائذ الأطعمة بالتنقل ذهنيًا وجسديًّا للإقامة في عوالم الرّوائح والأصوات فتقيم نفسه في مشهديات غير مألوفة. فأسواق التغذية والمغازات الكبرى تتحوّل إلى أمكنة مشتهاة للصّائمين، أحيانًا ليس للتبضّع وإنّما لممارسة طقوس غريبة والاستماع إلى غزليات قديمة.

ومن هذه الغزليات التي لا يخلو منها سوق في تونس وتزداد خلال شهر رمضان فتتحوّل أحيانًا إلى شعر بديع "دياري الملسوقة"، " توا جات"،  "قمرة الملسوقة"، ورقة ذهب محلاها". وكلّها كناية بليغة وعفويّة في ورقة "الملسوقة " الشفافة والمستديرة كقمر فضي والتي ستتحوّل إلى أكلة "البريك" الشهيرة عندما تمسك بها أيادي السيّدات التونسيّات في المطابخ.

من الممارسات الخاصة ببربر شمال إفريقيا..

الملسوقة، تلك الورقة الشفافة والرّقيقة، المستديرة والمصنوعة من عجين، خضعت لديناميكية التاريخ وعاشت تحوّلات كبيرة لقرون طويلة إذ أن أغلب شعوب البحر الأبيض المتوسط لها هذا النّوع من رقائق العجين المتعدد الاستعمالات في مطابخها. فنجده في الأطباق الحلوة مثل" البقلاوة" بأنواعها والمالحة مثل "الطواجن" والبريك.

وقد أثبتت الدراسات الأنتروبولوجية أن البربر والأمازيغ من سكّان شمال إفريقيا الذين استقروا في الجبال والصحاري استعملوا هذه الأوراق في أطباقهم. "فالمريّش" مثلًا طبق حلو اختص به بربر الشمال التونسي بنفزاوة وخمير. وهي أوراق ملسوقة السّميد "تريّش" ويضاف إليها السّمن أو زيت الزيتون مع العسل. "الصمصة" الحلوة المذاق ورغم اختلاف حشوها هي أيضًا بربرية ونجدها في كل مطابخ الشمال الإفريقي وهي نوع من البريك الحلو.

طبق البريك يوحّد التونسيين ولا يفرّقهم فالطبخ أحيانًا يفعل ما لا تستطيع السّياسة فعله حيث يتحوّل إلى لغة للشعوب والأمم

طبق البريك هو من الأكلات الشعبيّة والضرورية في المطبخ التونسي أساسه أوراق الملسوقة الدّائرية ويزداد "قداسة" مع شهر رمضان المعظم حيث نجده على جميع الموائد من الشّمال إلى الجنوب، هو طبق يوحّد التونسيين ولا يفرّقهم. فالطبخ أحيانًا يفعل ما لا تستطيع السّياسة فعله حيث يتحوّل إلى لغة للشعوب والأمم. وهنا يقول الأنتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس: "الطعام وسيلة من وسائل التعبير عن الغنى الثقافي والاجتماعي ومؤشر على التحوّلات السوسيوتاريخية بين الطبيعة والثّقافة".

 

يكثر الطلب على الملسوقة في شهر رمضان (صورة تقريبية/ Getty)

 

الملسوقة كانت صنعة من صنائع يهود تونس..

في زيارة قام بها "الترا تونس" لـ"المارشيي سنترال" (السوق المركزية بالعاصمة تونس وهي سوق عريقة يعود تاريخها لأكثر من قرن من الزمن)، قبلة سكان العاصمة تونس خلال شهر رمضان المعظم، تستمع لأهزوجات الغزل بورق الملسوقة. أروقة بأكملها تبيع الملسوقة والبهارات ومعجّنات أخرى كـ"شربة الفريك" و"الرشتة" و"الحلالم"، أنجزتها أيادي سيدات تونسيات بنفس الطرق المتوارثة عن الأقدمين. لكن للملسوقة حضور آخر إذ تبدو مرصّفة كأبراج يتراوح لونها بين الصفرة والبياض.

وهنا يروي العمّ  محمّد أحد الباعة المشهورين للملسوقة بالسوق المركزية لـ"الترا تونس" أن الملسوقة ذات أصول أندلسية وإلى حدود سبعينيات القرن الماضي كانت حرفة اليهود التونسيين قبل أن يهاجر أغلبهم. وكانوا يسمونها "الملسوكة" وقد تعلم عنهم المسلمون هذه الصّنعة وغيرها من الصنائع الأخرى كـ"اليويو" و"المعذّبة" و"البولات". وهي تصنع في المدينة العتيقة وفي الضواحي القديمة مثل السيدة المنوبية والملاسين وحلق الوادي، من قبل سيّدات امتهنّ هذه الصناعة منذ عقود وينجزنها يدويًّا، دون مكننة. ويكثر طلبها خلال شهر رمضان، وفق محدثنا، الذي يضيف أنّه يوميًا يبيع الآلاف من أوراق الملسوقة ليتحوّل أغلبها إلى بريك ذهبي وشهي.

والبريك طبق تونسي ينقل معاني الوحدة بين الشعب التونسي وهو مكوّن من مكوّنات الهوية التونسية كموسيقى المالوف واللغة العربية والفسيفساء الرومانية. وهو طبق بسيط لكنه مشعّ فوق المائدة التونسية وإنجازه غير مكلف وسهل، حيث يحضّر حشو يختلف من مدينة إلى أخرى ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى فثمة من يستعمل فيه اللحم وثمة من يضع لحم التنّ المصبّر وثمة من يكتفي بالبطاطا بديلًا عن اللحوم لكن الجبن المرحي والبيض هما أساسيّان وعماد أي بريكة في تونس.

البريك، طبق بسيط لكنه مشعّ فوق المائدة التونسية وإنجازه غير مكلف وسهل ويختلف حشوه من طبقة اجتماعية إلى أخرى

"بريكة حلق الوادي" هي الأشهر على الإطلاق..

من أشهر أنواع البريك في تونس، نجد بريكة حلق الوادي وهي الأشهر على الإطلاق. فحال ولوجك شارع "فرانكلين روزفيلت" بحلق الوادي بالضاحية الشمالية بالعاصمة تونس، وهو شارع المطاعم الشعبية والفاخرة معًا، والتي تعدّ الأكلات التونسية بأنواعها وخاصة البحرية منها، تطالعك محلاّت البريك حيث الطهاة يعدّون البريك بطريقة مخصوصة. يبدو العجين سائلًا أصفر اللون، يوضع في المقلاة بعد أن يحشى ببيضة ولحم التونة وبعض البقدونس وقليل من بهار الفلفل الأسود، بضع دقائق وتنضج البريكة فتبدو كقرص ذهبي. سرّ هذه البريكة في قرمشتها.

من الأنواع التونسية أيضًا "بريك الدّنوني". وهو بريك عرف به أثرياء مدينة القيروان ومدينة تونس العتيقة. وهو بريك صغير الحجم وأوراقه خشنة ومحتواه عادة ما يتكون من اللحم المفروم والجبن وبعض البقدونس.

أما بيع البريك فيكون عادة في محلات بيع "الفطائر" التي لا يخلو منها حيّ أو قرية أو مدينة ويختص بها أهالي بعض مدن الجنوب التونسي كغمراسن ومدنين. وهذه المحلاّت تصنع البريك وتقدمه كوجبة سريعة. ومن أشهر المحلات محل "عمّ ضو" الكائن بضاحية باردو، وهو ليس بعيد عن مقر مجلس نواب الشعب، والذي تنقّل إليه "الترا تونس"، والتقى "سعد"، وهو من رجال المحلّ القدامى والأساسيين، الذي أكد أنّ محلهم يبيع مئات قطع البريك يوميًا وتأتيهم الناس من كل مكان. ويشير سعيد في حديثه لـ"الترا تونس" إلى أن بعض نواب الشعب يأتون أحيانًا لمحلهم للاستمتاع بالبريك.

وعن سرّ البريك الذي يعدونه، يقول محدثنا إنهم عوض وضع ورقة واحدة من الملسوقة يضعون ورقتين ويكثرون من المحتوى مع المحافظة على نفس الطريقة ونفس الخلطات إلى جانب الحفاوة بالزبائن.

مختص في الأنتروبولوجيا لـ"الترا تونس": الطبخ علامة ثقافية بارزة تصنع الذات والهوية والحضارة وأكلة البريك شكل من أشكال التّواصل

وفي هذا السياق، يؤكد أستاذ الأنتروبولوجيا بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس رمزي المحواشي لـ"الترا تونس" أن الطبخ هو علامة ثقافية بارزة فهو يصنع الذات ويصنع الهوية ويصنع الحضارة، مضيفًا أنه كلّما اشتهرت أكلة أو طبق وترسّخت أصبحت تعبّر عن معنى ثقافي واجتماعي فتفارق البيولوجي إلى الدلالي وتخضع لقراءات متعددّة ترتبط أساسًا بالتاريخ الاجتماعي لشعب ما أو أمّة ما.

ويبيّن المحواشي أن أكلة البريك التونسية أصبحت شكلًا من أشكال التواصل لسرعة إنجازها وشيوعها وتحوّلها إلى أكلة شعبية تطالعك في كلّ مكان. كما أنّ استمرارها لقرون ضمن الدائرة الصغيرة للمطبخ التونسي يجعل منها مكونًا من مكونات الذاكرة سواء بين الأشخاص، وهو ما يقود للحديث عن المشاعر والسعادة، أو بين المدن أو حتى بين الشعوب، وفق محدثنا. ويشير المحواشي إلى أن الأكلات التي يعتمد فيها على البيض مثل حال البريك هي أطباق مقدّسة لاعتقاد الانسان بأن البيض مصدر من مصادر الحياة.

تبقى أكلة البريك أكلة كلّ التونسيين بمختلف طبقاتهم وشرائحهم الاجتماعية فهي من مصادر سعادتهم عند المائدة في شهر رمضان المعظّم كما أنها مصدر من مصادر رزق الآلاف من التونسيين الذين يشتغلون في المطاعم أو النسوة اللواتي تعددن ملايين أوراق الملسوقة يوميًا. البريك أيضًا مسكّن جوع الفقراء والمحتاجين فبضع مئات من الملّيمات في أقرب محل للفطائر تغنيك جوع ساعات فتخرج مبتهجًا رائقًا.