رمضان في حضرة خواتيمه البيضاء يترك الرّسن على الغارب فتترجل معانيه النبيلة تواضعًا وسمّوًا. تشعر بخفة لا تحتمل، تفتح ذراعيك للريح فتحيط بك فراشات من ضوء، وتطير فوق حقول من غمام وخواطر ليرفعك هواء "الذّكر الحكيم" عبر آلاف الصوامع في برّ تونس إلى ما أبعد من جذع الزيتون في وجل يشيح بوجهه عن سدى دروب اليمام.
حينما يأتي العيد تنبت في كل بيت تونسي ياسمينة للذكرى فيما توحّد رائحة القهوة بين المدن والقرى المتباعدة
رمضان في خواتيمه تنفتح معه أبواب السماء بحثًا عن انبلاجات صوت ناي بعيد يتشكل منه ضوء العيد. وينام العيد على ذرى صفصاف الكون في انتظار آخر أيّام الصّيام، يخاتل الإطلالة الأخيرة لقمر يحرس الشهر المعظّم ويطل كابتسامة على وجه وليد.
يجيء العيد يلوّح بيد سماويّة "كزهر اللوز أو أبعد" يركبنا أفلاكًا من شهوات تشبه أغاني البدو وحنين الحساسين إلى كروم البدايات، يأخذنا إلى عالمه المتجدد فتختفي أحلامنا القديمة لتصبح غيابًا متبادلًا بين سهريات رمضان وأيّام شوّال. حينما يأتي العيد، تنبت في كل بيت تونسي ياسمينة للذكرى فيما توحّد رائحة القهوة بين المدن والقرى المتباعدة.
اقرأ/ي أيضًا: صورة العيد: الفوتوغرافيا المقدسة تقولنا ولا نفهمها
في العيد.. زيارة للموتى وللأحياء
صبيحة عيد الفطر أو "العيد الصّغير"، كما يحلو للتونسيين تسميته، ووسط سمفونية قرقعة فناجين القهوة وبهاء الحلويات التونسية المتنوعة من بقلاوة و"غريّبة" و"مقروض" و"كعك الورقة" و"ملبسات" و"رفيس"، تبدأ البهجات التي يعدّها العيد للصغار والكبار. وصورة العيد التي تعاش ولا تقال هي زيارة الراحلين الذين ينامون تحت سقف السماء وتحرسهم النجوم وذكرياتنا التي تجهش دومًا بالحنين كلما جلسنا الى بياض القبور الناصعة الهدوء وأخذتنا سورة الرحمن إلى الإيمان فتحب الله وتشفى من قلق السؤال الأوّل: "من خلق الله"؟.
لقد ولّى العيد الطافح بالتواصل المباشر وفسح المجال واسعًا للتواصل الافتراضي والإلكتروني في زمن الثورة الاتصالية
لكن زيارة الأحياء خلال أيام عيد الفطر، وهو ما نسمّيه بالتزاور وصلة الأرحام، فقد تغيرت ملامحه واتخذ له معان وأشكال أخرى تزيّنت بزي الحداثة والتحضر النمطي، ففقد العيد بريقه وانكفأ على نفسه بلا أجنحة وفسح المجال لرواة الماضي. فإلى أمس قريب، كان للتزاور نكهة التواصل بل هو برهان الاجتماعي الذي يسكننا وعمقه المتخفي وكان لمشقّة السّفر في العيد من أجل زيارة الأحبة والأقارب مكانة مقدسة تحمي الزمن من هيمنة العولمة المتربصة بإنسانية الإنسان، وكان لرسالة يحملها ساعي البريد أيّام العيد زهو القرنفل وصمت الينابيع على سفوح الروح العطشى للإخبار والتهاني بالعيد السعيد.
لقد ولّى العيد الطافح بالتواصل المباشر وفسح المجال واسعًا للتواصل الافتراضي والإلكتروني في زمن الثورة الاتصالية. وبات العيد في السنوات الأخيرة مشروخًا ومنقطع الرسائل وفقد بعض رونقه وباتت فخاخ الحب التي ينصبها عبر هواتفنا الذكية ولوحاتنا اللمسية لا معنى لها.
مناسبة العيد والتّماسك المجتمعي
تؤكد أستاذة علم الاجتماع بالجامعة التونسية آمال الدريدي في حديثها لـ"ألترا تونس" أن المناسبات والأعياد، سواء كانت دينية مقدسة أو غيرها من المناسبات الأخرى الشخصية والمجتمعية، هي مناسبة لتعميق التواصل داخل المجتمع وتوطيده لأن التواصل هو "مقياس لتظافر الأفراد وتفاعلهم فيما بينهم وهو أيضًا يتضمن علاقات تتخطى الدوائر الاجتماعية للفرد وللمجتمع في علاقاته مع المجتمعات الأخرى" وفق قولها.
شاهد/ي أيضًا: فيديو: هل تشترون حلويات العيد أم تعدونها في البيت؟
وتضيف أن التواصل يقوم على قاعدة سوسيولوجية هامة وهو التماسك داخل المجتمع، معتبرة أن مناسبة العيد إذا أخضعناها لهذا المبدأ نجد لهذا التماسك المجتمعي الصدى الكبير وهو من جواهر المؤسسة الدينية التي ما تنفك تدفع بالمؤمنين نحو التواصل بغية التماسك.
تطبيقات الأنترنت بدل التواصل المباشر
تعتبر الدريدي، في المقابل، أن المجتمع التونسي كغيره من المجتمعات يعيش تحولات اجتماعية عميقة جراء المتغيرات الاقتصادية والسياسية الجارية في العالم، مشيرة إلى أن أبرز متغير هو نهاية العائلة الممتدّة في تونس وبروز العائلة النّواة. وأوضحت أن مواصفات هذه العائلة الجديدة هي قلة أنفارها وانشغالها بالحياة اليومية كالعمل والتجارة والتسوق وتعليم الأبناء، وهي عائلة انخرطت في العولمة من حيث لا تعلم بل هي نتاج من نتاجات العولمة حيث للتواصل حساباته الشخصية والنفعية قبل العاطفية، وفق قولها.
وأضافت أن آليات التواصل تغيرت من المباشر إلى الافتراضي جرّاء الثورة الاتصالية وأن التنقل بات افتراضيًا عبر شبكة الأنترنت وبما توفره منصات شبكات التواصل الاجتماعي من أدوات سريعة ونوعية للتواصل مثل "السكايب" و"المسينجر" و"فيسبوك" و"السناب شات" و"تويتر". وقالت إن هذه التطبيقات توفر أدوات للتراسل المكتوب والمسموع والمرئي عدا عن منحها لمستعملها فرصة للتزويق واختيار الصور والفيديوهات ومنتجتها وتكييفها حسب الأذواق والأهواء.
آمال الدريدي (أستاذة علم الاجتماع): كل ما يوفره التشبيك عالي الجودة عبر الأنترنت من سرعة التواصل الاجتماعي الافتراضي لا يغني عن التواصل الحي والمباشر المفعم بالحرارة الإنسانية التي بدأنا في فقدانها تدريجيًا
وأكدت أستاذة علم الاجتماع في الجامعة التونسية، في المقابل، أن كل ما يوفره التشبيك عالي الجودة عبر الأنترنت من سرعة التواصل الاجتماعي الافتراضي لا يغني في حقيقة الأمر عن التواصل الحي والمباشر المفعم بالحرارة الإنسانية التي بدأنا في فقدانها تدريجيًا وهي ظاهرة سبقتنا إليها شعوب أخرى وهي الآن تسعى لمعالجة الأمر بالعودة للطبيعة وفق قولها.
وختمت آمال الدريدي حديثها معنا بأن حركة التاريخ الاجتماعي في تونس لها مساوئ ومنها البرود الذي يخيم على العلاقات البشرية، معتبرة أن مناسبة العيد وما شابها من متغيرات ملموسة هي دليل على هذا البرود، حسب تأكيدها.
ويظل للعيد بهجته
بالنهاية رغم الأعطاب التواصلية جراء العولمة، تبقى للعيد بهجته فنظل إليه مشدودين ومسكونين ببقايا ذاكرة تلتفت ذات اليمين وذات الشمال ثم تشرع في محاكمة أساطير الأسلاف الذين دقوا أوتاد أهازيج البدايات التي نبتت من شقوقها الأفراح بالعيد السعيد.
وفي زحمة الرتابة التي فرضتها الحياة العصرية، يأتي العيد بأيامه القليلة على أهبة سفر يغوينا فيكسر من الرتابة جدار الحنين المتين، فتجدنا على بساط السفر لزيارة أمّ هزها الشوق لأحفادها، أو قراءة فاتحة شمال مقبرة القرية ترحمًا على أهل منًا وإلينا، أو الوقوف على حافّة عدسة الفوتوغرافيا من أجل تأبيد ضجيج الأطفال الصغار المحتفلين بالعيد.
يظل العيد جغرافيا صغيرة من زمن مغامرة البشرية مع الفرح نخلق له بحارًا من ضوء تشبه بحار الأبدية نسبح فيها كل عام مرة أو مرتين حتى نبقى على قيد الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: