30-يونيو-2024
السلطة والحب

ما المغزى من السلطة في عصر تتفتّت فيه في سياق عدم القدرة على احتكارها ومركزتها؟

مقال رأي 

 

لن يكون هذا النص مقال رأي سياسي كلاسيكي.

كانت الأسابيع الأخيرة بالنسبة إليّ عاصفة لأسباب تتجاوز السياسة. لن يكون الموضوع الشخصي محور المقال. ما سيكونه هو العلاقة بين السلطة والحب. الرغبة في السلطة بمعانيها المختلفة سواء كانت سياسية أو إيديولوجية أو اقتصادية أو أيًا كانت. أي ذلك الشعور بالاستعلاء والتفوق وممارسة حالة تراتبية تجاه الآخرين بتوظيف وسيلة ما. 

ويكون الهدف الأساس ليس تحقيق هدف يمكن أن ينفع الناس، بل متعة ممارسة السلطة في ذاتها من قبلك على جمهور ما.

أغلقنا نهاية الأسبوع قوس سلسلة من البرامج السياسية في بعض الإذاعات والتلفزيونات الخاصة في تونس.. وكان "الفراق" يستشعر أننا إزاء مرحلة يمكن ألّا يكون بعدها عودة

من جهة أخرى هناك "الحب". هنا بمعناه الصافي أي بالتحديد المعاكس تمامًا للسلطة. أي حب القيام بأمر ما فقط لأنه ينبع من ذاتك ويمتعك أنت قبل أي هدف آخر وخاصة أنه لا يمتعك لأنه يحقق متعة إنفاذ السلطة على الآخرين. أعلم أنني بصدد أسئلة وجودية ربما تبدو للبعض هلامية وبلا أثر سياسي مباشر، وتستحق أن تنشر كخاطرة في مدوّنة تتزين باللون الوردي، لكني أعتقد جازمًا أن هذه المعادلة، السلطة والحب هي في قلب السياسة، واقعًا وليس فقط كما يجب أن تكون.

أغلقنا نهاية الأسبوع قوس سلسلة من البرامج السياسية في بعض الإذاعات والتلفزات الخاصة التي كانت المجال الوحيد المتبقي لنقاش جدي أو لنقل واقعي بين آراء متصارعة تمثل السلطة وما يتعارض معها في تونس. هكذا يجب أن يكون الوضع في أي ديمقراطية من نوع الحد الأدنى خاصة أننا إزاء موسم صيفي سياسي استثنائي كما يفترض أن يكون. كان "الفراق" يستشعر أننا إزاء مرحلة يمكن أن لا يكون بعدها عودة، لأسباب نعلمها مباشرة كمشاركين في هذه البرامج ولسياق موضوعي كامل. كان الفراق "عاطفيًا"، كأننا إزاء دفن شيء ما وعلى الخلفية موسيقى"requiem" الجنائزية.

الإعلام كان يرى أن له الحق في التجريب واستجلاب كل أنواع المدّعين للتعليق.. دون منح الحق نفسه من التجريب لنخبة سياسية كان برنامجها الوحيد وخبرتها الوحيدة قبل الثورة هو "أن تبقى"

للإعلام التقليدي سلطة استثنائية في تونس، صحيح أنها أصبحت هشة بفيضان وسائل التواصل الاجتماعي، لكن تبقى صانعة لجزء من الرأي العام. كان من المثير بالنسبة إليّ الانتقال من موقع "سلطة السياسة" إلى "سلطة الإعلام". الأولى خاصة في سياق ديمقراطية تبدو الأكثر "مخصية" وتحت سلطة الضغوطات بكل الأنواع، غير قادرة على الإنجاز، مصابة بلعنة "الامتيازات" دون أن تعطي شيئًا ملموسًا. في المقابل كانت "سلطة الإعلام" أكثر رفاهية، حيث يمكن التموقع كسلطة نقدية مسموعة ومشكورة، بمعزل عن جدية ما يقال.

اطّلعتُ على مقال أحد الصحفيين القديرين زياد كريشان منذ أيام بعنوان "أين ذهبوا"؟ منتقدًا فيه طبقة السياسيين أو الفاعلين الذين تصدّروا المشهد أيام "الرخاء الديمقراطي". أفهم حنق الرجل. لكن لا يمكن إلا أن ننسّبه خاصة بمنح قسط من المسؤولية لإعلام أيضًا كان يرى أن له الحق في التجريب واستجلاب كل أنواع المدّعين للتعليق، وكان الانتقال من كرسي الإعلام إلى السياسة أمرًا محمودًا، دون منح الحق نفسه من التجريب لنخبة سياسية كان برنامجها الوحيد وخبرتها الوحيدة قبل الثورة هو "أن تبقى".

 "أين ذهبوا" يستوجب سؤالًا قبليًا "ماذا فعلنا"؟ و"كيف فشلنا؟"، عوض مواصلة ممارسة رفاهية نقد الآخرين من قمة جبل الجليد

وليس ذلك ذنبها بل ذنب من منعها من أن تكون. ثم تتم مساءلتها عن "كفائتها"، كأن جورج واشنطن وقيادات الثورة الفرنسية تعلموا ممارسة شؤون الدولة في مدارس إدارية قبل الثورات المفاجئة وممارسة السلطة. "أين ذهبوا" يستوجب سؤالًا قبليًا "ماذا فعلنا"؟ و"كيف فشلنا؟"، عوض مواصلة ممارسة رفاهية نقد الآخرين من قمة جبل الجليد.

ليس كل هذا إلا مقدمة هامشية للسؤال الأهم أعلاه. ما المغزى من السلطة في نهاية الأمر في عصر تتفتّت فيه في سياق تذرر القدرة على احتكارها ومركزتها حتى في أكثر الدول قدرة ماليًا وتكنولوجيًا على العزل والسيطرة؟ وحيث كل منّا أيًا كان وفي أيّ مكان يمكن أن يكون رئيس تحرير جريدته الخاصة، وحيث يصبح التعليق على فيديو يوتيوب بأهمية لا تقل عن مضمون الفيديو. 

عدت هذه الأيام إلى قراءة مقاطع من روايات غابرييل غارسيا ماركيز، البارعة في توصيف كاريكاتورية السلطة في أكثر السياقات التي كانت فيها السلطة دموية، ولكن أيضًا استكشفت بشكل جديد جلال الدين الرومي وكل تلك الاقتباسات حول "سلطة الحب". هذه المفارقة الصارخة بين "حب السلطة" و"سلطة الحب". لم تنفع التجربة في نهاية الأمر في حسم أمر يبدو بديهيًا أي أن كل من أحب السلطة لم يكن ذكراه خالدًا ضرورة، بل كان في أقل الحالات "مثيرًا للجدل". وكل من كانت سلطته الحب وإشاعته بقي خالدًا. بقي الدمار والخراب والضحايا والمساجين والعذاب مخيمًا، لأن جحافل "محبي السلطة" لن يتناقصوا بالمرة، هناك جيش احتياطي واسع ودائم، نافورة حقيقية تجري بلا نهاية من العفن.

تلك الكلمة تحديدًا "العفن"، كانت تجول بخاطري بشدة وبلا مواربة. وعليه استذكرت أحد المقاطع العظيمة من رواية ماركيز "مئة عام من العزلة" التي ركّز فيها كل معاني التسلّط الدموي الهمجي خاصة الذي مرّ بالسياق الأمريكي اللاتيني. النص مقتبس هنا من عرض نقدي للرواية:

"انتبه إلى قلبك يا أوريليانو أنت تتعفن بدون أن تعلم"

"العقيد أوريليانو بوينديا بطل اثنتين وثلاثين انتفاضة مسلّحة، قد رقي إلى رتبة قائد عام للقوات الثورية، وامتدت سلطته على كل البلاد. فتبدو روعة هذه الشخصية في دقة رسمها بطريقة مذهلة، إذ نجده يحمل في أعماقه جملة صفات متناقضة، فهو شاعر وعسكري. متنبئ ودموي وقائد ذهاني.

استيقظ العقيد أوريليانو في الليلة التي أعلن فيها قائدًا عامًا للجيش مرتجفًا طالبًا دثارًا (اجتاحه برد داخلي حتى العظام، يعذبه والشمس طالعة، منعه النوم عدة أشهر، حتى ائتلف معه وتعود عليه وأخذت نشوة السلطة تفسرها أحداث مرة. وبحث عن دواء للبرد فما وجد إلا إعدام الضابط الفتى الذي اقترح اغتيال اللواء فارغاس).

كأيّ طاغية، كان الديكتاتور أوريليانو لا يطيق من يختلف معه في الرأي، فتعود صورته إلى نمطيتها، حيث سيتعرض للنقض على يد أحد المخلصين له، فحين قال له صديقه المخلص العقيد ماركيز «انتبه إلى قلبك يا أوريليانو أنت تتعفن بدون أن تعلم» يستفز فيودعه في السجن ويحكم عليه بالإعدام، ناسفًا تاريخًا طويلًا من الصداقة والود، عندئد تتدخل أمه أورسولا وتنقذه".

الحب أقوى من السلطة، حتى لو كانت لعبة السياسة لعبة موازين القوى. فالحسم الاستراتيجي في القلب وإرادته

ملاحظة أخيرة: تعفّن القلب لا يتعلق بالمناسبة فقط بإغراء سلطة السياسة.. بل بإغراء أي نوع من السلطة.. وتعفّن القلب هو موت الإنسان فينا ببساطة. ويمكن أن يحل بنا ونحن نبتسم. لننتبه جدًا إلى قلوبنا.

لا يمكن هنا إلا أن أستحضر كل الاقتباسات المنسوبة إلى الرومي، لا يهم إن كانت دقيقة أم لا فهي رائعة في ذاتها.

  • "لا تزهر الأرض إلا إذا بكى المطر"
  • "إن المحبة في القلوب حياتها.. وكل من جهلوا الحب أموات"
  • "وفي النهاية لن يبقى معك إلا من رأى الجمال في روحك. أما المنبهرون بالمظاهر فيرحلون تباعًا".

ما معنى أي سلطة إن تعفّن القلب؟ ما معنى أي سلطة إن لم تخدم الحب؟

قناعتي راسخة الآن، لا يمكن لأي جملة ثورية أو أي تشريعات للعنف الثوري، أن تخلق سلطة أقوى من الحب. الحب أقوى من السلطة، حتى لو كانت لعبة السياسة لعبة موازين القوى. فالحسم الاستراتيجي في القلب وإرادته. وما يحصل في غزة آخر وأجمل الأمثلة على ذلك.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"