مقال رأي
تثير الانتخابات الرئاسية المنتظر إجراؤها في نهاية هذه السنة في تونس جدلاً قانونيًا يعكس حقيقة الأزمة المركّبة التي تعرفها البلاد. وهي أزمة من طبيعة سياسيّة رغم مظاهرها الاجتماعيّة والماليّة الاقتصاديّة الحادّة.
ومن منظور الفكر السياسي وفلسفة الحكم يلاحظ أهل الاختصاص أنّ انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 نقلها من "صراع على الديمقراطية" مأزومٍ تحت سقف الدولة إلى "صراع مع الديمقراطيّة" متوتّرٍ في هامشها بين نظام الحكم الناطق باسم الدولة والمعارضة الديمقراطية المتّهَمة بالتآمر عليها.
المعارضة الديمقراطيّة لا تزال تعتبر دستور 2014 هو دستور البلاد وضمنه يأتي الموعد الانتخابي المنتظر. وعلى هذا الأساس يأتي رفضها لكلّ ما أُجري من انتخابات في ظل الوضع السياسي الجديد
-
خلاف مرجعي
يعود الخلاف المرجعي إلى وجود دستورين في البلاد دستور الثورة ودستور قيس سعيّد. فالمعارضة الديمقراطيّة لا تزال تعتبر دستور 2014 هو دستور البلاد. وضمنه يأتي الموعد الانتخابي المنتظر. وعلى هذا الأساس يأتي رفضها لكلّ ما أُجري من انتخابات في ظل الوضع السياسي الجديد، فضلاً عمّا عرفته هذه الانتخابات من نسب مشاركة متدنيّة جدًّا لم تتخطّ العشرة بالمائة بحسب النتائج الرسميّة المعلنة. وعلى هذا الأساس نفسه كان موقفها المبدئي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية إذا توفّرت فيها شروط الاختيار الحر والشفاف. ولا يتوضّح من موقفها هذا ما إذا كانت قادرة على توفير شروط الاختيار الحر أم أنّها ستكتفي بمطالبة من أغلق قوس الانتقال إلى الديمقراطيّة بتوفيرها.
هذا الخلاف المرجعي هو في حقيقته خلاف سياسي ينضاف إلى بقيّة الانقسامات والشروخ الاجتماعيّة والهوويّة التي تعرفها البلاد ولم يتسنّ رأبها في ظلّ عشريّة الديمقراطيّة. فكان العجز عن استجماع الشروط الوطنيّة لتجاوزها في سياق إعادة بناء الدولة الديمقراطيّة مطب عشرية الانتقال الكبير. وكانت بعض الدراسات السوسيولوجيّة الجادّة لاحظت، في مقاربتها لظاهرة الانقسام، بأنّ عمق الانقسام الهووي الاجتماعي يجعل من تونس أشبه بمجتمعيْن تحت سقف دولة واحدة. وهذا ما يفسّر غلبة "التنازع على الدولة" إلى "التنازع تحت سقفها".
وهو تنازع يعود إلى تعارض وظيفي بين الانقسام الهووي والانقسام الاجتماعي. فإذا كان الانقسام الاجتماعي سببًا في قيام الثورة وذلك بنجاح الانتفاض المواطني في الهامش المفقّر في كسر حلقة الاستبداد، فإنّ الانقسام الهووي في المركز وما انجرّ عنه من عجز عن بلورة مشترك وطني حول فكرة الدولة كان عاملاً حاسمًا وراء إجهاض المسار الديمقراطيّ وتيسير الانقلاب عليه.
عند هذه النقطة تحديدًا يمكن تبيّن حقيقة الأزمة في تونس. فالبلاد تعرف مفارقة بين لحظتين:
لحظة انعتاق جارفة مع الثورة وانفتاح حياة سياسية حقيقية ظلت موصدة منذ سنة 1956. وقد عرفت لحظة الانعتاق سقوفًا للحرية عالية جدًّا لم تعرفها أعرق الديمقراطيّات، فسال كلّ شيء (السلطة والإعلام والفساد كذلك)، بعد أن كانت جميعها متصلّبة بسبب اجتماعها في يد واحدة. ومع هذا السيلان توسعت نخبة الدولة لتشمل فئات وجهات كان وصولها إلى مسؤوليات أولى في الدولة غير مفكر فيه عندها قبل 2011. مثلما أنّ قبوع أهمّ رموزها المنتخبة اليوم في السجون بتهمة التآمر على الدولة لم يكن متوقعًا البتّة.
ولحظة انغلاق مع 25 جويلية/يوليو 2021 حاول فيه الوضع الجديد جمع كلّ ما سال لا بغاية معادلة سياسية بين المركزيّة المنفتحة قبل الثورة والأفقيّة السائلة بعدها وإنّما بهدف إرساء حكم فردي مطلق لم تجرؤ على ترسيخه دولة الاستقلال رغم كل محاولاتها. ولذلك يبدو جمْع ما سال في العشريّة الديمقراطيّة صعبًا، رغم أسباب التعثّر في بناء الديمقراطيّة التي يراها خصوم الديمقراطيّة مسوغًا للانقلاب عليها.
مثلما توفر الانتخابات الرئاسيّة المنتظرة فرصة للتوصل إلى معادلة سياسية جديدة بين حدّي الانعتاق والانغلاق، يمكن أن يكون التهاون في توفير شروط نزاهتها وتمثيليتها الفعلية مأزقًا حادًّا يصعب تخطّيه
أهمّ ما نخلص إليه أنّ إضافة الانقسام المرجعي الدستوري إلى الانقسامين الهووي والاجتماعي يمثّل تعقيدًا للمشكل وتركيبًا للأزمة وخطرًا على استمرار الدولة ووحدة المجتمع.
لذلك، مثلما توفر الانتخابات الرئاسية المنتظرة فرصة للتوصل إلى معادلة سياسية جديدة بين حدّي الانعتاق والانغلاق، يمكن أن يكون التهاون في توفير شروط نزاهتها وتمثيليتها الفعلية لاختيار الناس الحر مأزقًا حادًّا يصعب تخطّيه.
-
رهان استراتيجي
اكتسبت بلادنا مع ثورة الربيع مكانة معتبرة في استراتيجيات السياسة وصراع النفوذ سواءً باعتبارها من أطلق ثورة الحرية والكرامة في المجال العربي وما كان لها من أثر على التوازنات السائدة أو باعتبار أهميّة تجربة الانتقال فيها والتي استمرّت لأكثر من عشر سنوات رغم ما واجهته من قوى الثورة المضادّة عربيًّا وإقليميًّا وعالميًّا. ومما كشفت عنه الحرب على غزّة، وكان عندنا بيّنًا قبلها، دور الكيان والحركة الصهيونيّة في وأد الربيع. وكان الانقلاب على الانتقال الديمقراطي في مصر في المهد سياسة صهيونيّة بتزكية أميركيّة تظهر نتائجها المباشرة في حصار غزة بغاية القضاء على مقاومتها.
نتيجة للتلازم بين المقاومة والمواطنة تبدو درجة التنافذ بين معركة المقاومة في فلسطين ومعركة المواطنة في تونس الأقوى مقارنة ببقية أقطار المجال العربي. ويعود الأمر إلى دور تونس الريادي في رهان المواطنة ودور فلسطين القيادي في رهان المقاومة
وكانت عبارة "الربيع العبري" في وصم "الربيع العربي" من خطابه المنجز من قبل أدواته من الصهاينة العرب غالبًا وأحيانًا في خطاب الممانعة وممثليه ممن تقاطعت مصالحهم موضوعيًا مع وأد الربيع في نقاط صراع معقّدة مثّلت مطبًّا عند أنصار الديمقراطيّة وثورة الحريّة والكرامة. ولكن هذا المطب ومثله، ورغم ما كان فيه من خسائر استراتيجيّة الثورة في علاقتها بمجالها، لم يكسر تلازم المقاومة والمواطنة. وهي الإضافة الأخطر التي ألقى بها الربيع في مجال عربي عصيّ على الاجتماع وعاجز عن بناء كيانه السياسي على غرار المجالات الجارة. ومن آثار هذا التلازم بين المقاومة والمواطنة استحالة أن نساند الربيع في قطر عربي ونناهضه في قطر آخر. لذلك لا يكون الربيع عربيًّا في أفريقيّة وعبريًا في الشام. وإنّما هو ربيع واحد إمّا عبري وإمّا عربي.
ومن وجهة نظر الاستراتيجيا، ونتيجة للتلازم بين المقاومة والمواطنة تبدو درجة التنافذ بين معركة المقاومة في فلسطين ومعركة المواطنة في تونس الأقوى مقارنة ببقية أقطار المجال العربي. ويعود الأمر إلى دور تونس الريادي في رهان المواطنة ودور فلسطين القيادي في رهان المقاومة. وفي الرهانين يصعب تبيّن ملامح "اليوم التالي". وتكاد تكون مواقف الجهات الإقليميّة والدوليّة من مستقبل المواطنة هنا ومستقبل المقاومة هناك هي نفسها حتى في صيغها وجملها وما تشير إليه من مناورات.
ولكن الفارق المنتظر من رهان المواطنة في تونس هو فاعلوه في الحكم والمعارضة من جهة تقاطعهما في الانتصار لفلسطين. وهذا واضح في صريح الخطاب السياسي عند الجهتين. وإلى جانب ما يساق من حجج متضادّة في السجال السياسي بين الانقلاب والمعارضة الديمقراطيّة هناك توازن ضعف بين الجهتين سيكون له أثره على حريتهما في التشبث بالموقف المبدئي ويرجّح دفعهما إلى منطقة وسطى في موضوع الانتخابات من جهة مرجعيتها وظروف إجرائها.
صار الاهتمام الوحيد من وسائل الإعلام يتجه إلى ما ينجرّ عن الإعلان عن نيّة الترشح للانتخابات الرئاسية وما يترتب عنها من متابعة قضائيّة لصاحبها بفتح قضايا جديدة في حقه أو بإثارة قضايا قديمة عالقة
-
في انتظار موعد الانتخابات
لم يعلن بعد عن موعد الانتخابات ولم توجّه الدعوة إلى الناخبين للذهاب إلى صناديق الاقتراع، ويكون تاريخ 23 جويلية آخر أجل لهذه الدعوة. ولذلك لا تولي وسائل الإعلام المحليّة أهميّة تذكر لما كان من نقاط إعلاميّة وصحفيّة عبّر أصحابها عن قرارهم بالترشّح للانتخابات الرئاسيّة. ولعلّ الاهتمام الوحيد من وسائل الإعلام يتجه إلى ما ينجرّ عن الإعلان عن نيّة الترشح للانتخابات الرئاسية وما يترتب عنها من متابعة قضائيّة لصاحبها بفتح قضايا جديدة في حقه أو بإثارة قضايا قديمة عالقة. ولم يسلم من هذا جلّ من حدّث بنيّته في الترشّح. ولذلك لا توجد أجواء انتخابيّة البتّة سوى ما يتواتر من زيارات وجولات لرئيس الدولة. وهي عند المعارضة حملة انتخابيّة سابقة لأوانها، لانتخابات لم يضبط موعد إجرائها.
وتكتسي هذه الانتخابات ونتائجها أهميّة كبيرة إقليميًّا (مغاربيًّا خاصّة) ودوليًّا (النفوذ الفرنسي الأمريكي). فهي تمثّل الملفّ الأخير من ملفات الانتقال في المجال العربي. وسيكون الحسم فيه خلاصة لموازين القوى المحليّة (حكم/معارضة) ولأطوار الأزمة الماليّة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد. ولن تكون بعيدة، في تقديرنا عن الحرب على غزّة ونتائجها القريبة. فالحرب تكاد تنهي شهرها التاسع. وقد تمكنت فيها المقاومة من كسر جيش الاحتلال ولكنها تمنع من تصريف انتصارها في ميدان السياسة. وتصرّ قيادة الكيان والإدارة الأمريكيّة على منع وقف إطلاق النار رغم قرار مجلس الأمن بإيقاف وقف إطلاق النار الفوري. ورغم قرارات المحكمة الجنائيّة الدوليّة وقبله قرارات محكمة العدل الدوليّة.
لا توجد أجواء انتخابيّة البتّة سوى ما يتواتر من زيارات وجولات لرئيس الدولة. وهي عند المعارضة حملة انتخابيّة سابقة لأوانها، لانتخابات لم يضبط موعد إجرائها بعد
في هذه الأجواء تأتي الانتخابات الرئاسيّة المنتظر إجراؤها في تونس. ولم يُفسح المجال لمعرفة حظوظ من سيكونون في هذا الرهان وذلك من خلال استطلاعات الرأي ومراكز التحليل والرصد واللقاءات الصحفية والإعلاميّة مع المترشحين حتى قبل الحملة الانتخابيّة. ويجعل تقلّب ما حولنا ودرجة التأثير الخارجيّ وغلبة الحذر والغموض الآفاق منفتحة على احتمالات شتّى وربما مفاجآت. وهي مفاجآت مثلما يمكن أن تكون بابًا إلى استعادة الديمقراطيّة، فإنها من الممكن أن تكون بابًا إلى غيرها. ولكن انفتاحها على باب استعادة الديمقراطيّة أقرب. لعدّة أسباب من أهمّها تجربة انتقال إلى الديمقراطيّة ورواسبها العميقة. ويعتبر البعض أن الانقلاب لا يخرج عن هذه التجربة وهو قوس فيها، وحدث الطوفان وتداعياته الكبرى في المجال العربي والعالم.
ويشار إلى أنّ الربيع والطوفان لم يتزامنا رغم ما بين معركة المواطنة ومعركة المقاومة من تلازم. فحينما جال الربيع وصال كانت المقاومة في حالة ضعف وحصار شديدين. وعندما ذوى الربيع قام الطوفان. ويبدو أنّه لن يتوقف حتى يحرّك كلّ شروط الربيع الكامنة. ويكون تفكك دولة الكيان الوظيفية التدريجي من أقوى هذه الشروط، فالاستبداد العربي بمختلف تلويناته تضمن استمراره دولة الكيان التي تفقد اليوم لا قدرتها لا على الردع فحسب وإنّما على حماية وجودها أيضًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"