"التاريخ ضد النسيان"، تبدو هذه المقولة كافية حتى نحافظ على أرصدة الذاكرة نقية ومنصفة لنحملها معنا سلالًا لا مرئية في حلّنا وترحالنا ونحن نتّجه بكل شجاعة نحو الآتي، وصيانة الذاكرة أمر ليس بالهيّن فقد تسقط بعض السلال في الطريق فتنبت شقائق نعمان وأقحوان لكن بالفنّ وحده نحمي أنفسنا أو ذاكرتنا من النسيان.
وهذا تمامًا ما حصل مع الفنّان التشكيلي التونسي علي عيسى، الرجل الفرشاة أو التمثال الذي ابتلعه النسيان وألقى به على حافة الطريق، وكاد يتحول إلى شقيقة للنعمان أو أقحوانة يتيمة. وقد امتدت إليه يد الفنّ ونفضت عنه أتربة النسيان وأخرجته من عزلته الاضطرارية ليجلس قبالة الكاميرا بشجاعة.
الفنّان التشكيلي علي عيسى صاحب 83 عامًا هو محور الشريط السينمائي الوثائقي "الرجل الذي أصبح متحفًا" للمخرج التونسي مروان طرابلسي
اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد
الفنّان التشكيلي ذو 83 عامًا هو محور الشريط السينمائي الوثائقي "الرجل الذي أصبح متحفًا" للمخرج التونسي مروان طرابلسي، والذي عُرض في إطار فعاليات الدورة 30 لأيام قرطاج السينمائية ضمن قسم "نظرة على السينما التونسية". وقد غصت قاعة "الطاهر شريعة"، يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعشاق السينما ممّن اختاروا الوثائقي متعة لمساء سينمائي رائق بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس، ممّا اضطرّ البعض للجلوس في الممرّات.
التشكيلي علي عيسى وبجانبه مخرج الوثائقي مروان الطرابلسي (صفحة الفيلم على فيسبوك)
حملتنا كاميرا المخرج الشاب مروان الطرابلسي لمدة ساعة ونيف إلى عالم الرسام علي عيسي، حيث تلقت عين المشاهد حكاية فنان يقيم بهمّة عالية في قلب الهامش الثقافي التونسي. فهو رغم تخرّجه من مدرسة الفنون الجميلة بتونس وتأسيسه رفقة مجموعة من زملائه لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين، ظل يقيم على التخوم فقط لأنه كان مختلفًا وغير نمطي.
هذا الشريط الذي تكلف خمس سنوات من الإنجاز يقدم وجهًا من وجوه الحقيقة حول شخصية على عيسى أو قل الحقيقة كما أرادها علي عيسى نفسه لأننا لم نر شهادات حول شخصية الشريط سواء من أهله أو زملائه من التشكيليين أو النقاد ممن اشتغلوا على تجربته.
حملتنا كاميرا المخرج الشاب مروان الطرابلسي لمدة ساعة ونيف إلى عالم الرسام علي عيسى، حيث تلقت عين المشاهد حكاية فنان يقيم بهمّة عالية في قلب الهامش الثقافي التونسي
ولم تبرح الكاميرا حراب الفنون التشكيلية بمدينة باردو حيث يقيم علي عيسى وحيث أنشأ عالمه الغريب الذي وصفه أستاذ الفنون التشكيلية سامي بن عامر بـ"تنصيبة كبرى". هو عالم مدهوش ومسكون بالفوضى يبدو لمتأمّله مليئًا بالذاكرة والقصص الذاتية والروائية من صور عائلية وأفلام سينمائية تعمل بآلات قديمة وثقت رحلاته بباريس ولبنان وواشنطن، إضافة لأدوات الرسم المختلفة وخردة وأثاث قديم متأكل وكمّ هائل من اللوحات الفنيّة.
التشكيلي علي عيسى هو فنان غير نمطي (صفحة الفيلم على فيسبوك)
كل شيء واهن في المحراب لكنه متين وصلب في ذاكرة الفنّان علي عيسى، وهو ما حاول المخرج إبرازه في الشريط: وضوح في زحمة الأشياء، ورواية متماسكة حول الشخصية، ومسيرة فنية مركّبة متوّجة بكسرها للسائد الفني في تونس وخاصة عبر الرواقية البائسة.
إن تلك الفوضى البادية في عالم علي عيسى هي مراكمة لتجربة فنية امتدت لعقود من الزمن وكانت موصوفة من بعض الفاعلين في الحياة الثقافية والتشكيلية التونسية بأنها "شاذة" ولا تتماهى ولا تتناغم مع السائد والصورة النمطية. وهي مراكمة حاولت كاميرا الطرابلسي إبرازها بهدوء دونما تكلف بأن حملتنا إلى حفل ألوان شاسع وأشكال كسر من خلالها "الفنّان المظلوم" كل القواعد والأشكال الفنية المتداولة.
فلا الأطر أطرًا، ولا الألوان ألوانًا، إذ استعمل علي عيسى أشكالًا أخرى غير المربعات والمستطيلات فتأتي "كادراته" منحرفة ودائرية باستعماله إطارات الغرابيل وعجلات الدراجات الهوائية، فيما تأتي الألوان من مواد مختلفة.
كانت نهاية الشّريط "تشكيلية" صرفة خاصة إذا علمنا أن المخرج مروان الطرابلسي هو نفسه مختص في الصورة وخرّيج مدرسة الفنون الجميلة
اقرأ/ي أيضًا: الفنان التشكيلي صفوان ميلاد.. عن توحد الحرف والذات وتحرّرهما من الأغلال
والمعروف عن التشكيلي علي عيسى في ثمانينيات القرن الماضي وإلى حدود أواسط التسعينيات أنه كان يستعمل "تكتكًا" ملوّنًا وجذّابًا يتنقل بواسطته في المدينة. وقد حمله معه ذات زيارة إلى باريس وصنع هناك حدثًا فنيًا تناقلته وسائل الاعلام الفرنسية، وكاد يتركه لأحد المتاحف الباريسية، لكن وزارة الثقافة التونسية أثنته عن ذلك ووعدته باقتنائه وجعله ملكًا للدولة التونسية ولكنها لم تف بالنهاية بوعدها.
وهذا التكتك عرّجت عليه كاميرا المخرج مروان الطرابلسي، وهو ينام اليوم في المحراب الوطني للفنون التشكيلية بباردو بين خيوط العنكبوت وغبار النسيان ليسلم نفسه لفناء الصدأ والنهايات التراجيدية.
وكانت نهاية الشّريط "تشكيلية" صرفة خاصة إذا علمنا أن المخرج مروان الطرابلسي هو نفسه مختص في الصورة وخرّيج مدرسة الفنون الجميلة بتونس، فقد نظّمت كاميراه في الخاتمة باقة من اللوحات المنتقاة بدقة وذوق من أعمال علي عيسى لتملأ الشاشة والعين والروح ألوانًا، في نوع من الاعتراف لفنّان قدره أنه صاخب رؤية مغايرة ويريد لنفسه سماء غير السماء المعتادة فقط لأن طيرانه مخلف.
سيتحوّل الشريط الوثائقي إلى وثيقة تاريخية نادرة حول التشكيلي علي عيسى (صفحة الفيلم على فيسبوك)
علي عيسي وعبر هذا الشريط الوثائقي يطلع المتلقي على وصية مكتوبة بخطّ يده مفادها أنه يهب محرابه ومتحفه ومجمل أعماله التشكيلية والفنية والتي يصل عددها الى 3000 عمل إلى الدولة التونسية ليكون بذلك أكرم منها عليه.
خلاصة كان الشريط خطّيًا ونسقيًا إذا يقوم على ركائز ثلاث وهي الحبّ والذّات والفنّ، ومن خلالها فُسح المجال لعلي عيسي بأن يركبّ و"يمنتج" لنفسه صورة روائية كما يريدها هو لا كما يريدها المخرج أو السيناريو المرسوم للشريط. وهذا الشريط سيتحوّل مع الأيام ومع فعل الصديد إلى وثيقة تاريخية نادرة حول الفنان التشكيلي علي عيسى "الرجل الذي أصبح متحفًا".
اقرأ/ي أيضًا:
الرسام والجامعي سامي بن عامر: وزير الثقافة أقصاني والنقابات خذلتني (حوار)
الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)